الإشكال بين القبيلة والتنوير.

بدايةً لابد أن نتعرف من جديد على مفهوم القبيلة، قبيلة ما قبل حقبة التغلغل الأيديولوجي لجماعات الإسلام السياسي التي استثمرت في تلك المادة الخام من البراءة الأولية عند إنسان القبيلة. قبل حقبة الدولة كانت القبيلة مجرد كيان سياسي براغماتي لجماعة بشرية في رقعة جغرافية محدودة، ويعمل وفق جغرافية المصالح والمخاطر، فيعقد تحالفاته وحروبه وفق مقتضيات المصلحة بمعزل عن أي تدخل لفقيه القبيلة (رجل الدين) الذي كان دوره يقتصر على الإمامة وعقد الأنكحة وتقسيم المواريث، ولم يكن في تلك الحالة يطمح إلى تجاوز هذا الدور إلى أدوار أخرى يقوم بها في العادة شيخ القبيلة (السياسي) أو عقيد القبيلة (القائد العسكري). أي أن القرار السياسي والعسكري يتم بمعزل تام عن الرأي الديني، وهنا يمكن أن نزعم أن إدارة القبيلة كانت، تسن تقاليدها وقواعدها الخاصة (السلوم) وفق الحاجة المنطقية التي يفرضها الواقع دون أي تدخل من رجل الدين أو الفقيه، وهذا أبزر ملمح من ملامح القبيلة تاريخياً. أما عن العادات والتقاليد، وهي مكمن المأخذ التنويري الذي تأخذه الطموحات التقدمية المتطلعة للتحديث، بمن فيهم أبناء القبائل أنفسهم ممن يتطلعون لواقع ثقافي وحضاري أفضل، فيجب أولاً أن نفرق بين العادات والتقاليد من جهة وبين القيم من جهة أخرى. القيم هي مجموعة من الأفكار والسلوكيات الإنسانية فرضتها الأخلاقيات المتطورة في مجتمع ما، وغالباً هي مشترك إنساني رفيع بين كل البشر، وكل أمة لها قيمها الخاصة بها والنابعة من ثقافتها. أما العادات والتقاليد فهي سلوكيات نشأت على ضفاف تلك القيم في مراحل زمنية متفاوتة بحسب ظروف كل مرحلة. العادات طارئة ويمكن إزاحتها دون التأثير على صلب الهوية، وهذا أهم الفروق بين القيم والعادات. بالعودة إلى طبيعة القبيلة سنجد أن منشأ القبيلة، أو الحاجة التي دعت لتكوينها، هي حاجات أمنية واقتصادية في المقام الأول، دون أية اعتبارات أخرى كالانتماء العرقي وغيرها. الصحيح أن القبيلة هي مجموعة تحالفات غير خاضعة للفرز العرقي ولا يشترط الانتماء للدخول في حماية القبيلة وتعريفها، وربما دخلت مجاميع أو أفخاذ من قبيلة، تحت مبررات أمنية ومخاطر وجودية، في قبيلة أخرى، ومع مرور الزمن أخذت اسمها وهويتها وثقافتها، وبالتالي عاداتها وتقاليدها، في تشابه كبير اليوم مع مفهوم (اللجوء السياسي) بين الدول. وعلى ضوء ذلك فإن القبيلة فيما بعد ستدخل ضمن مفهوم الدولة، وستبدو محايدة تماماً تجاه قضايا كالتنمية والتقدم والحداثة، هذا إذا لم تنخرط في فعالياتها، بصرف النظر عما لحق بذهن القبيلة، وبتكوّنها ما بعد حقبة النفط من تغلغل للخطاب الوعظي الذي استثمر بعض العادات والتقاليد التي وجد فيها خدمة لأفكاره وزاد من ترسيخها، ولكن هذا الطارئ الثقافي على القبيلة لا يعطي هوية مستمرة للقبيلة، والتي أصبحت حالياً مجرد مؤسسة اجتماعية قائمة يمكن لها، من حيث استعدادها الأولي، أن تنسجم مع فعاليات التنمية والحداثة دون أي تعقيدات. ولدينا مثال حي وقريب جداً يمكن أن نختصر به استعداد القبيلة للتماهي مع فعاليات مؤسسات الدولة: في حكاية نقل طائرات الخطوط السعودية براً من جدة إلى الرياض قبل أشهر، تطلب نقلها أن تمر ببعض القرى والهجر النائية، وبطبيعة الحال ستمر بجغرافيا قبليّة، ولكن ما رآه العالم كله كان صادماً، فالشريحة المتفاعلة على طول طريق الطائرات مع هذه الفعالية هي شريحة أبناء القبائل، والتفاعل كان مع فعالية تابعة لهيئة الترفيه، الهيئة التي حاربها بعض المنتمين لمنظومة التطرف والغلو. إن ما حصل خلال تلك الحكاية يفترض أن يعيد النظر أيضاً في التصنيف التقليدي المعمول به للتنمية الحضرية من حيث التفريق بين تنمية المدن وتنمية الأرياف. ها هي (الأرياف) والقرى والهجر والبوادي تتفاعل بوعي وطني مع حدث ضخم قد مثّل دعاية عظمى للمنظومة اللوجستية في المملكة، وشاهدها العالم بإعجاب. ليس هذا فحسب، بل خرج الناس رجالاً ونساءً ليتفاعلوا مع هذا الحدث. هذه هي القبيلة المعاصرة، فكيف يمكن أن نصرّ أنها تتضاد مع التنمية أو التنوير أو الحداثة؟ القبيلة التي ابتكر إنسانها القديم الرقص والغناء كحالة إعلان للتحدي مع قسوة الحياة بروح الرغبة في الحياة. الخلاصة: الإشكال بين القبيلة والتنوير متخيل، وليس إلا وليد تعقيدات زمنية متراكمة ساهمت فيها مجموعة من الظروف الاقتصادية والثقافية، وبالعودة إلى أصول الأشياء ومبادئها الأولية وموادها الفكرية الخام سنرى أن الكثير من تلك التصورات عن فكرة القبيلة وصورتها الذهنية مشوشة هي الأخرى.