هل مات الحلم بمقتل علي؟

تتقاطع الأحلام مع دلالات المعاني في كونها ملقاة على قوارع الطريق، كما كتب الجاحظ، إلا أن فرقها عن المعاني أنها ملقاة على ضفاف الأماني والطموح، ومعقودة بناصية الإيمان والعمل. كما أن الأحلام تتقاطع مع وظيفة الأفكار، والتي لخصها المخرج يوسف شاهين في مقدمة فيلم (المصير) بعبارة: «الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يمنعها توصل للناس»، وعند الإمعان في الأحلام سنجدها في الأساس فكرة نعيش من أجلها، ونسعى خلف تحقيقها، وما أن تموت.. نموت ورائها لا إرادياً. لكل منا حلمُ يراوده، يهرول من أجل تحقيقه مهما كلفه الأمر.. فكيف إن كان حلم أياً منا مثل حلم علي؟. علي شاب بسيط لا يعلم أحد بوجوده على وجه البسيطة، متوارٍ خلف أسلاك الهاتف والأجهزة الصماء. يومياً تنصب في أذنه مئات المكالمات لعشرات الأشخاص الذين يجهل أسماءهم وهوياتهم، فهم في عرفه أرقام لا أكثر. الصدفة وحدها ساقت له مكالمة استرعت اهتمامه، والتي كان فحواها التخطيط لحرق مصنع يقتات على خيراته عدد لا محدود من العمال؛ بهدف استفادة الملاك من مبلغ تأمين المصنع من المخاطر. هاله ما سمع، فقرر مشاركة صديقة المقرب حلمه في محاولة للحد من محاولات المخربين والمفسدين. وعلى هذا الأساس حاكا سردية لإبلاغ الجهات المعنية بهذه المؤامرة الخبيثة، وهي الادعاء بأن الخبر ورد على هيئة حلم رأه صديقة في المنام. كانت هذه الحيلة السبيل لتجنب من لا قدرة لهما على مواجهتهم؛ بسبب النفوذ والتغول في مفاصل المؤسسات. فشل علي وصاحبه في إيقاف هذا الحريق، لعدم ثقة الجهات المعنية بإمكانية أن تتحول أضغاث الأحلام إلى حقيقة، لكنهما نجحا لاحقاً في إيقاف عدد من الخطط الشريرة، التي لو كتب لها النجاح لفتكت في البشر والحجر دون رحمة. حوّل علي مهنته من مهنة تعطيك فرصة الارتزاق والتكسب من زلات الغافلين العابرة، إلى عمل وطني مشرف. أعطى علي تلك المهنة شرف ما كان لها أن تناله في أقصى طموحات العاملين فيها، ما رقى ذلك الشاب من رتبة ترس صغير لا يشعر أحد بأهميته، إلى مفصل قادر على تقرير مصير أرواح لا يستهان بعددها. حلم علي الكبير فض مضاجع الشر وأهله، ممن لا يروق لهم تمكن الشرفاء من عمل قادر على تعطيل خططهم، فوقع ما كان يخشاه صاحبه حسن بهنسي بهلول منذ البداية، وهو تصفية علي. تم إزهاق الحلم برصاصة غادرة حتى لا يكبر على حساب مصالح أوغادٍ لا حصر لهم. لم يتمالك بهنسي نفسه وهو يرى رفيقه غارقاً بدمه في غرفة المكالمات المركزية، فأخذ يلتقط السماعات بشكل عشوائي، ويعلن وفاة علي بصفته بطلاً من أبطال هذا الوطن، إلا أن المستمعين لم يبدُ اكتراثهم بالخبر، في مشهد مكرر من انصراف غالبية البشر عن تقدير الأبطال والشرفاء، مفضلين الانسياق خلف همومهم الصغيرة. صرخات بهنسي، وانفعاله المبرر، لفتت نظر القاتل إلى وجود شخصية أخرى من المهم تصفيتها، إذ لا يجب للشرفاء العيش سواسية مع اللصوص وسراق المال العام. ورغم الطلقات المستمرة التي كانت ترغب في إصابة صوت بهنسي الغاضب بمقتل، إلا أنه استمر في ترديد كلمة واحدة: «ححلم.. ححلم». رافق صرخاته إطلاق الضابط معتصم الألفي رصاصات متتالية لردع القاتل، في موقف يدل على إيمانه بأن ما كان يراه علي وصاحبه لم تكن أضغاث وكوابيس، بقدر ما كانت حلماً حقيقياً يعبر عن رؤية صادقة تستحق أن يحارب المرء بجوارها جنباً إلى جنب. هذه قصة فيلم «اللعب مع الكبار» [1991] الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه شريف عرفة، وقام ببطولته: عادل إمام، محمود الجندي، حسين فهمي. تلك القصة التي انتصرت للحلم بصفته حقاً أصيلاً ومتجذراً في نفوس البشر، مهما قوبلت بالتهميش، والسخرية، والإحباط، والانهزامية، إلا أنها قادرة على التحول إلى حقيقة؛ كون الواقع المشرق كان في البداية حلم آمن به أحدهم، وعمل لأجله. فيما أكد المشهد الختامي بين عادل إمام وحسين فهمي أن بعض الأحلام لا تستحق الإيمان بها فقط، بل القتال من أجلها بقوة السلاح، وهو الخيار الذي يدفعك إليه الأعداء عنوة ولو لم يكن في المخيلة يوماً. موت علي، وأخرين، في الفيلم والحقيقة معاً، لم يمنع الأحلام الشريفة أن تتوالد وتبقى حية في نفوس الكثيرين، بأشكال وطموحات مختلفة. وإن أنبل تلك الأحلام ما نراه اليوم وسط تخاذل كوكب الأرض بأكمله، وهو قتال ثلة تمسكت بحقها الأصيل بالبقاء في وطن اسمه: فلسطين.