صديق العمر.
-١- ذهب خفيفا، كما كان ظريفا، قطفه الموت دون مقدمات ترعبه أو تشعره بمرارة الوداع؛ لأنه كان يحب هذا المسلك في الحياة، يحب أن يعيش الفرح إلى آخر قطرة، يمزح مع هذا ويداعب ذاك، يلقي بنكتة هنا وابتسامة هناك، لكن حين أراد الرحيل فارقني دون تلويحة وداع ولا ابتسامة أخيرة؛ وأنا الذي اعتدت منه أن يشاركني في كل شيء، في فرحه وحزنه، في صخب حياته وصمته الحزين. -٢- سيظل صديقي خالد أيقونة الحي القديم، ورمز الفرح فيه، سيحضر في كل مناسباتنا الاجتماعية؛ لكنه هذه المرة لن يحضر صانعا للفرح كما كان يفعل دائما، بل سيكون ذكرى حزينة تملأ القلب بالشجن والعين بالدمع والذاكرة بتفاصيل لا تنفد من حيويته التي كان يملأ بها زوايا الحي القديم. -٣- تقاسم خالد معي صورا كثيرة من مباهج الحياة وتفاصيلها، بدءا من ذاكرة بيتنا الشعبي القديم. كان رفيق دربي منذ طفولتنا الصفراء وشغبنا البريء وحزننا الفائض عن الحاجة على انكسارات النصر، إلى أن تركني وترك معه حزنا حقيقيا لا مجازيا، حزنا موغلا في الأعماق، وكأنه يلقنني درسا في الفوارق بين شعور وشعور، بين شعور يأتيك عَرَضًا في حالة الترف وشعور يدهمك بلا استئذان في حالة هي من أقسى حالات الحزن والشعور. -٤- لا يغيب صديقي خالد أبدا؛ حتى وإن غيّبه الموت، فهو يملأ الأماكن بحضوره وغيابه، يتجذّر فيها ويتشجّر، يمتد في كل مكان، وكل مناسبة، وكل اجتماع لرفاق الجيل من أبناء الحي، لأنه كان ضابط إيقاع الفرح في كل هذه المناسبات، ولأنه كان كلَّ شيء مبهج في حكاية الحيّ القديم. -٥- كان خالد أريحيّ الحركة والشعور، لا تظهر عليه سيمياء السلوك المتحفّظ والوقار، لكنه كان يسير إلى الله من دروب غير مأهولة بالنظر والرَّصَد، وإن كان يمارسها أمام الناس وعلى مدرجة طريقهم دون أن يشعروا: كان يقف مع كل مريض، ويسعى مع كل ذي حاجة حين يتعلّق الأمر بعمله في المستشفى، فكان يبذل ابتسامته وحركته الدؤوبة لذي الحاجة حتى تستقرّ به الطمأنينة على سرير المرض قرير العين مطمئن البال. -٦- هكذا اختار خالد طريقه في الحياة، أن يكون في عين البهجة ومظان الفرح ومواقع السرور؛ وأن يبذل ما في وسعه لأقاربه وأبناء حيّه حين يحتاجون إلى وقفته ورفقته في دروب الحاجة ومفاوز الطريق. ولكن حين اختار الرحيل، أو حين اختاره الموت للرحيل، ذهب في غفلة من أعين الرقباء، في هزيع من الليل على مشارف الصباح؛ ليصحو الحيّ كلُّه على وداع لم يتح له فيه أن يقول له شكرا على كلّ شيء فعلته، ولا أن يلوّح له بتلويحة وداع أخيرة تربّت على القلب في نهاية الطريق! -٧- عاش خالد موجوعا بأعباء علقت به، لكنه لم يستسلم لها، وإنما نفضها عن طريقه بابتسامته وشغبه اللذيذ، شغبه الذي يفهمه قلّة من أصدقائه وربما غاب عن كثير منهم في طريق الحياة الرتيب، لأن خالدًا لم يكن صديقا للرتابة ولا محبا للكآبة، لذلك كان يرمي بحجر الطفولة في كلّ بحيرة راكدة وربما أصاب بماء شغبه البريء عددا من العابرين. -٨- من يفهم خالدا، يفهم أنّ كل حياته كانت طريقا إلى الله على سجيته، وبما أُتيح له من مهارات اجتماعية ساخرة، تتحوّل إلى جدّ وعمل حين يتعلّق الأمر بحاجات الناس والسعي الدؤوب في خدمتهم، لذلك كان آخر مشهد في حياته من جنس عمله، سعي في حاجة مريض، ورحيل على أعتاب المستشفى دون أن يكلَّف أحدا تعب رحيله، ودون حتى أن يلقي بتلويحة وداع وابتسامة أخيرة يربّت بها على قلوب محبيه كما كان يفعل دائما مع الموجوعين من المرضى وأصحاب الألم. -٩- ما أقسى الوداع بلا تلويحة يد، ولا ابتسامة أخيرة!