قصيدة النثر العمودية – أنسي الحاج نموذجا.

يقول أنسي الحاج في مقدمة كتابه (لن) أو ما يعرفه النقاد بالبيان الشعري: “لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وحكاية، وقصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر.” إن أبرز ما يلاحظه منتقدو قصيدة النثر ويعيبوه فيها هو ذات ما تتميز به عند من يتبناها من كونها غير مقيدة بقيود النظم والإيقاع.. وبالتالي تمتلك مساحة أكبر من الحرية ونفض (الحشو) الذي يجره الالتزام على الناظم العمودي. يتبنى أنسي الحاج “ ما قاله إدغار ألن بو عن القصيدة (أي قصيدة) إذ أنكر عليها أن تكون طويلة. إن كل قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأن قصيدة النثر أكثر حاجة من قصيدة الوزن إلى التماسك”. قصيدة النثر العمودية: ما المقصود؟ هي في نظري تلك التي تخلت عن الوزن، ولكنها لم تتخلص من القوالب الجاهزة فبدت أقرب إلى النظم المقصود السهل من كونها تحرر إبداعي ولعلي وهنا سأتحدث عن ثلاثة قوالب أعتقد أنها منتشرة في قصيدة النثر الحديثة وقد لاحظت بوادرها عند أنسي الحاج نفسه في كتابه القيم (خواتم 2) وعمدت على جعل كل شواهدي مقتبسة من ذات الكتاب. القالب الأول: أسلوب الاستدراك، بين التأمل والتنميط وهو كثير جدا في هذا الكتاب وكأنه هيكله العظمي. ومع أن الكثير من تمثلات هذا الأسلوب جاءت مبهرة، إلا أننا لا نستطيع إغفال الباهت منها المشابه لما ينتشر في قصائد النثر المعاصرة أ-: معرف ب(ال)+ نفي (بل) + جملة •النبي لا يخاطبك بالصراخ، بل يوصلك بالغريزة •القوة ليست أن تمر بدون أن تأثر فيك، بل أن تؤثر فيك •الله ليس واحدا للجميع، بل هو الكل منها دونا لأديان الأخرى ب- (.... لأنه.. لا لأنه....) •نغني الحب لأنه نداء عذابنا لا لأنه سعادتنا. •أغني الحب لا لأنه جنتي، بل لأنه جحيمي ج- استدراك عام •لا تعجبه ليولد منها، بل لينجب منها •بعضها لا تصل إليه الشمس، بل القمر حين نقف أمام عبارة مثل (أن تمر بدون أن تأثر فيك، بل أن تؤثر فيك) نرى أن القالب قد يكون أكثر سطوة من الحاجة إليه. هذا الأسلوب الذي قولبه أنسي الحاج يذكرنا بتأملات إيليا أبو ماضي إلا أن إيليا (لا يدري) وأنسي (يدري). وربما يحق لي استخدام ذات القالب حين أتأمل سيل الاستدراكات في قصيدة النثر الحديثة وأقول: •القالب ليس ما يختاره الشاعر، بل هو من يختار الشاعر. القالب الثاني: الطباق، إيقاع الأضداد وإشكالية التنبؤية قد نفهم سبب توظيف أنسي لأسلوب الطباق بشكل مباشر أو غير مباشر لما يناسب حسه التأملي الفلسفي العالي وإيمانه بتعالق الأضداد وتكاملها والحقيقة الثنائية عند النظر إلى الأشياء وإعادة التأمل فيها وربما يتضح رأيه حين يقول” •وكلاهما على حق والواحد منهما يكمل الآخر. وهو يتحدث عن مفهومين متعارضين. يقول أنسي مبدعا •فكرة الله تستحضر روح العدم وفكرة العدم تستحضر صورة الله •أم ومعشوقة كعذراء، عذراء عاشقة كزوجة محبوسة ولو وحد بين كلمتي (روح) و(صورة) فكانت (صورة العدم وصورة الله) أو أم معشوقة كعذراء، عذراء عاشقة كأم) لوقع في أسر القالب كما حدث في هذه الأمثلة التي تتبنى علاقة “أ” على علاقة مع “ب “ و “ب “ على علاقة مع “أ” •(الهجس يجعلك مخلصًا، الإخلاص يزيدك هجسًا.) •) كل خارق هو الحقيقي، والحقيقي هو وحده الخارق ( •(قولك إن لم يكن الله حقيقة فكلّ شيء مباح، أما أحرى أن يكون: كل شيء مباح إذا الله حقيقة؟) •(الاتحاد مستحيل. فما أن أبلغه حتى أفقده، أو أحتقره وأرفضه، أو يحتقرني ويرفضني) •(فريق أدار لي الأيسر فأدرت أيسري لفريق) هذا الأسلوب يذكرنا بالسؤال الفلسفي عن (الدجاجة والبيضة) الدجاجة تسبق البيضة والبيضة تسبق الدجاجة ونشاهد في قصائد النثر الحديثة كثرة من شذرات مستهلكة مماثلة مثل •أتراني أمضي إلى البحر أم البحر يمضي إلي؟ •أنغمس في الفكرة والفكرة تنغمس بي •أأسقط في الهاوية أم تصعد الهاوية إلي؟ هذا الاستخدام المجاني متنبأ به، مثلما يحدث عند استخدام نظام التقفية في الشعر العمودي خصوصا ذلك الصنف الذي يعتمد أسلوب زج (فعل ما) في البيت الشعري ليجعل القافية (مفعوله المطلق) فيقول صاحبها مثلا •وزفّ لنا الخيرات في نشوة زفًا) •ومدّ على قلبي هوى قلبه مدّا) أو كما يقول أنسي (الصدى الأسْود لسعادات قديمة اغتصبتها اغتصابا) تكرار هذا الأسلوب يخدم الإلقاء المنصاتي لا أكثر، وهو مما لا يحتاجه شاعر قصيدة النثر. القالب الثالث: القصر والحصر بين التحرر وسقوط الحرية يستخدم أنسي القصر والحصر ببراعة، ولكن التركيبات القصيرة التي تفيد النفي المطلق من تأكيد البراءة من الشيء مثل استخدام (لم يفعل ولن يفعل) عند الكثير من نظّام قصيدة النثر المعاصرين تعطى نغمة إيقاعية داخلية يسهل التنبؤ بها ويعيدها إلى القولبة العمودية الأولى وقد فضلت ذكرها مع قوالب قصيدة النثر العمودية لكثرة تناولها في زمننا الحاضر رغم ندرة استخدامها عند أنسي بحيث لا تكاد تبين مثل قوله: •لم يقتل ولن ينقتل لم ينغلق ولن ينغلق لم يحقد ولن يحقد •صراع لم يتوقف ولن يتوقف البصمة بين هدم قيد وبناء آخر وهدمه. 1-كتاب خواتم 2 عمل مهم من أعمال الأديب الكبير أنسي الحاج مليء بالمبهر إنه كما يقول عنه الأديب الكبير عبده وزان: “انتهاك لنظام الكتابة ونظام العالم.” ولذلك هو الأجدر بالقراءة والدراسة وجعله مرآة لما نخشى على كتاباتنا من الانغماس فيه من قوالب حاولنا الهرب منها وربما وقعنا فيها ونحن نظن أننا متحررون منها. لتأثر كتاب الجيل الحديث بمنتج جيل الرواد من شعراء قصيدة النثر فقط، دون الاهتمام بآلية ومنهجية وفلسفة كتابتهم أو الرجوع إلى موادهم الخام. 2- يقول ابن الأثير: “الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم يكن إلا تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه، فان ذلك دليل السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطا للاستماع” لسنا معنيين بأثر النص على المتلقي العادي عند كتابة قصيدة النثر الحديثة كونها غير موجهة لترفيه جمهور مناسبة ما. إضافة إلى إشكالية النسبية المصاحبة لانطباع التلقي ومزاجيته المتغيرة بحيث لا يمكن التعويل عليها. ولكن ربما علينا أن نهتم أكثر بملاحظة المتلقي الواعي ونجعل انتباهه للتكرارات أو شعوره بالمجانية والابتذال جزءًا معينا على تشكيل عناصر النص، مثل بناء فراغ النص مثلا. وذلك بالاشتغال على نقاط الضعف في القوالب ومعالجتها بالانزياحات الدلالية والتركيبية حيث يمكن زرع الدهشة والإبداع في ذات الموضع التي كانت تعشعش فيه المجانية - التي انتبه إليها وعي التلقي- بعد انتزاعها إن لزم الأمر أو العمل على اتساعها مع اتساع الرؤية. الخلاصة: “ هل تقع قصيدة النثر في فخ القوالب الجديدة؟ يتضح من هذه المقال أن قصيدة النثر العمودية ولدت مع قصيدة النثر ويبدو أنها تكبر وتتمدد، فهي قصيدة نظمية عمودية في الفكر والروح، ورغم شعارات التحرر، فإنها تكرّس قوالبَ جديدة وتُعيد إنتاجَ ذاتها، كاستسهال استخدام أساليب الاستدراك والطباق والحصر مما يطرح بضعة أسئلة جوهرية: •هل التحرر من قيد يستدعي اختراع قيد آخر؟ •أم أن الحرية الحقيقية تكمن في تفكيك فكرة القالب أصلًا؟ ويبقى السؤال الأهم: •هل نكتب قصيدة نثر متحررة أم وقعنا في فخ قصيدة النثر العمودية؟ وما هو الخلاص؟ •أولسنا بحاجة إلى مزيد من الدراسات النقدية الجادة التي تبتعد عن الصراعات المستهلكة، وتركز على تفكيك قصيدة النثر من أجل تطويرها؟