قراءة في مجموعة علي عبد الله العلي القصصية (لا أحد يعرفني و قصص أخرى) ..
المرأة والاستلاب وجماليات التوازي والتماهي والتقاطع.

مجموعة نصوص سرديّة تضمّ عشر قصص قصيرة رشيقة ذات عناوين مفردة عدا واحدة منها تبدو وكأنها تضمها تحت جناحيها، اختار لها عنوان قصته المركزيّة التي توسّطت المجموعة؛ ولم يكن اختياره لها ولا لموقعها من المجموعة عشوائياً، لقد تساوق فيها مع طبيعة فن القصة القصيرة المراوغ ، فلم يسلك سبيل الحكاية التي تتسلسلسل زمنياً (كالحدوتة على حد التعبير الشائع عن السرديات الشعبية) بل بدت كألوان الطيف تتراءى مُتداخِلةً و مُتمايِزَة في حِرَفِيّة ومهارة، تتوازى و تتقاطع وتبرز ملامحها و تختفي يعتريها الغموض تارةً ، ويضيئها الوضوح تارة أخرى ؛ الراوي الناطق بضمير المتكلم ينازع الأنثى الحاضرة الغائبة المتماهية الوجود مع الأخرى التي يخاتلها النظر و يسارقها الاهتمام ، يشرّق السارد ويغرّب بين مشهدٍ يخطف بصره وطيف يشدّه نحو الذكرى؛ ينخرط في استحضار القابعة في كهوف الذاكرة ويرنو إلى الماثلة بين ناظريه، وقد اجترح مشهداً أيونياً حافلا بالعلامات موازياً للغياب متقاطعاً مع الحضور: السمكة و الحوض والشاب الذي يحجب عنه رؤية السمكة في الحوض الكبير الجميل ، وحيدةً تتماهى مع إحساسه بالغربة سجينةً في حوضها كحاله مقيّداً بذكرياته عن الزوجة الراحلة النحيفة الجميلة التي تغافل عما تدّخره من جمال الروح ونحافة الجسد، في أنوثةٍ شحيحةٍ ورشاقةٍ حميمة عبر سنين طويلة؛ أنوثة غزيرة تغمر المشهد عبر ثلاثية أنثوية تجمع بين جمال السّمكة في حوضها ورشاقة الفتاة التي تغمره بالحنُوّ والغائبة التي يستحضرها طيفاً يداعب خياله، ثمّةَ تقاطع وموازاة بين السمكة والراوي و بينها وبين الفتاة الغائبة و الحاضرة، وتأتي النهاية كاشفةً على لسان الشاب فتضيء الموقف كلّه ، حيث يتحدّث عن والده الذي ضل طريقه وانخرط في الغياب مغترباً بوعيه وعقله عن حاضرٍ لم يعد ينتمي إليه، وماضٍ يستذكره ويعيش فيه؛ إنها قصة تميط اللثام عن رؤية فلسفيّة مستلّة من واقعٍ حيٍّ ووجودٍ يتأرجح بين الغياب والحضور. وفي الدائرة الوجوديّة ذاتها التي تختزل الزمن وترتدُّ إلى الماضي وتخترق سُجُفَه وتقبض على شوارده ، و تحنُّ إليه تأتي القصة الأولى (تفاحة) استذكاراً واعتباراً إذا صحّ التعبير بمنطق سيريٍّ ذاتيٍّ يستثمر التجربة ويستنطق المعاناة فينجذب مُستغلاً لحظات التوتّر وبؤر التأزُّم في صناعة الإبداع وخصوصاً في هذا الفن الذي يصفه أصحابه بأنه (فن الأزمة) إذ يلتقط الكاتب لحظةً تفيض بجيشان العاطفة وشبق الشهوة في تلك السن الحرجة التي تتحسّس عبق الأنوثة و تستشرف آفاق الإحساس العميق بالحاجة إليها ؛ وكما اختار في القصة السابقة علامةً سيميائيّةَ الدلالة تفيض بظلال رمزية ممثلة في (السمكة وحوضها الملوّن) اختار في هذه القصة التفاحة ، ففوزية المطربة التي منحته القبلة أودعت لديه معادلاً رمزيًّاً تمثّل في التفاحة التي أوحت بما يعتري الحالة النفسيّة والكينونة في ذروة تحوّلاتها؛ فالتفاحة والقبلة أيقونتان وعلامتان تلخصّان المشهد كله، وتضيئان اللحظة بكل ما تفيض به من دلالات، وجاءت الخاتمة بما انطوت عليه من رؤية لحظة منيرة في جدليّة الثبات و التحوّل ، والموقف من الأنوثة والجمال و حصاد الأيام والأزمان و التغيّر و الثبات (تغيرت فوزية ، أصبحت أكثر سمنة ؛ لكن لا زال فيها ذلك الجمال ,,, وبعد ثلاثين سنة لا زلت أستعيد نعومة قبلة ورائحة وطعم تفاحة فوزية المدهش) لفتني في هذه المجموعة حضور الأنثى حضورا مركزيّا تارة وهامشيّاً تارة أخرى، و لكنها في كلا الحاين تخيِّم بظلالها على القصة ، يتضح ذلك في عناوين عدد من القصص ؛ فهي دائمة الحضور لفظاً ومعنىً ووجوداً فاعلاً في المتن و الهامش : تفاحة وغيرة و ريشة وعلاقة وخيانة و وفاء ، هذه العناوين السّتة علامات تؤشر إلى هذا الحضور الأنثوي، وهو لا ينظر إليها من زاوية واحدة بوصفها نوعاً مختلفاً في رؤية (جندرية) إذا صحّ التعبير ؛ ولكن وجوده في السياقات المختلفة لنصوصها مفاتيح دلاليّة للحياة الرّحبة؛ ففي قصته (غيرة ) تتبدى المرأة في حضورها الهامشي كشّافة لنموذج إنساني يتمثّل في الجار الذي يستغرق في وصفه و في نمط الحياة التي يعيشها إلى درجة يكاد القاريء ينسى ذلك الحضور الهامشي للأنثى التي لفتت انتباه السارد وهي تتسلل خارجة من عند الجار (أبو عبير) غير ملتفت لأي سمة من سماتها ، إذ انصرف بعد ذلك لتوصيف الجار ؛ وظلّ وجود المرأة حدثاً عابراً وقسمة من قسمات شخصية الجار الذي فقد أنثاه الشرعية ممثّلةً في زوجته ، بُعدٌ آخر يبدو هامشيّاً ولكنه ينال القسط الأوفى في لحظة التنوير ويحيل إلى العنوان ، ما جاء على لسان السارد في ختام القصة “ “ إلا أنني لا زلت أبحث عن الحب الغامض المدهش حتى لوكان مع قطّةٍ جميلة مثل جاري أبو عبير” وهنا تبدو الإضاءة ممثّلة في مفردة العنوان (غَيْرة) في قصته (مسلوب) استذكرت تقنية (المعادل الفنّي) مستحضراً نظرية (المعادل الموضوعي ) لإليوت مجموعة من الأشياء أو الأحداث أو الحالات التي تُستخدم لتمثيل شعور معين بطريقة غير مباشرة، بحيث لا يُقال الشعور بشكل مباشر، بل يُستَنتج من خلال تصوير موقف أو سلسلة من الصور التي تُثير ذلك الشعور في القارئ أو المشاهد. فالراوي – هنا - استثمر الحلم الكابوس معادلاً لواقعه النفسي وتعبيراً عن معاناته؛ فهو مُستلب الشخصية جسّد الكاتب حالته في الكابوس الذي يداهمه حيث يرى نفسه أرنباً ضعيفا هزيلاً خائفاً وسط قفص ضيق أرضيته لزجة و الأجواء خارج القفص لا تدل على شيء قط ، فضاء رمادي خاوٍ وخافت و محير ، هذا الكابوس في عالمه الافتراضي ترجمه الكاتب إلى واقع عاشه السّارد حقيقةً حين قرّر التمرّد فرفض طلب زوجته الذهاب معها إلى بسيتأهلها ، و لم يستأذن مديره في العمل حين قرّر أن يتحرّر من الخوف ويذهب في رحلة إلى البحرين ، وبعد أن وصل داهمه الخوف وعاودته شخصبته المُستلبة فعاد أدراجه، هنا يبدو توظيف للحلم معادلاً موضوعيّاً لحالته النفسيّة ، ومغالبة التوتر الذي عاد ثانية ليستبدّ به و يفسد إرادته. والمرأة – كما سبق أن أسلقت – تحتلّ مكانة رئيسة في هذه المجموعة؛ فهي شخصبة مركزيّة في أوضاعها المختلفة ، وهو يرتحل في آفاقها متحسّساً موقعها ؛ فهي في الغالب أنثى بالمفهوم المباشر؛ وهي ذات بنية نفسية واجتماعية لها خصوصيتها و ملامحها الاجتماعية ظاهراً وباطناً، ويحاول الكاتب أن يرصد علاقاتها بالرجال ورؤبته لها ، ويبحر في دخائلها تارةً ويرصد ردود فعلها على تصرفات الرجل تار أخرى كما في قصة (ألوان) وهو يصورها معشوقة عابرة للمكان والزمان تومض كالبرق، فهي تتراءى كالحُلُم وتتمثل خيالاً وأمنية مستحيلة، مثل سعاد في قصته (ريشة) وهو يعزف على وتر مركّبات النقص متسللاً إلى الأغوار النفسية في علاقة الرجل بالأنثى ، والمفارقة في هذه العلاقة حين تتمكن الغيرة من العاشق الذي يتخيل معشوقته حِكراً له فينعتها بالخيانة في الوقت الذي تتصرف فيه بالبراءة في قصة (خيانة) وعلى الشاكلة ذاتها تاتي قصة (ظلم) مع اختلاف الزمان والمكان و السياق و الشعور ، ولكن نقطة الارتكاز ومحور الرؤية لم تتغير؛ فالمرأة بسحرها وعطرها ورونفها ، كل شيء ياخذ مكانه في انسجام واتّساق ليليق بقوام الأنوثة الساحرة، احتفالاً بقوام المرأة القادمة الآتية من الكوكب الآخر لتوقظ الأشياء والأحياء مصطفةً في استقبالها المكان والحي والغرفة والباب الزجاجي ليكتمل الديكور بالمزهريّة البشريّة القادمة لتتمّ اللوحة، حتى العوالم النفسية الداخلية والخارجية تبدو منسجمة في حراك منتظم كما وصفه الراوي المشارك الذي اختطفه ، هذا العالم الساحر بأيقونته الفاخرة ليخرج من قوقعنه؛ اختارلها اسماً مميّزاً ذا دلالة (سارة) من السرور ، أيقونة الحرية التي تمرّدت على كينونتها الأنثويّة لتصبح رمزاً للانعتاق من الانصياع لمحدّدات الاعتقال الطوعي بين أربعة جدران ، فكان التمرّد والخروج إلى فضاء الحرية؛ إنها الخصوصيّة الجماليّة التي تميّزت بها القصة من منظور مختلف؛ فتماهي الجمال مع الحرية رمزاً ورؤيةً وانعتاقاً، فالجمال لا ينسجم مع الظلم ولا يتماهى مع الظلام ، والحرية لا تُشترى بالمال, في قصته (علاقة) يشدّ المتلقي إليه بحديثه الذي يوحي بالخطاب حول الأنثى، ويوغل في ي توجيه الحديث ليمعن في تضليل المتلقي الذي يصيخ السسمع ليفاجأ بأنه ينحو منحىً آخر فبفجّر مفارقة غير متوقّعة فإذا الأنثى التي يحتشد للحديث إليها ويمعن في تمويه هويتها ليست امرأة وإنما هي نخلة ترمز إلى حقبة مضت ، وتجسّد العلاقة الحميمة بين المخلوقات : النخلة والإنسان . إنه يسعى إلى تلقيحها فتبدو حُبلى تنتظر وضع مولودها الذي ينتظره بفارغ الصبر؛ فإذا به يُفاجأ بإجهاضها ويستبدل بخضرتها سواد الشارع الجديد الذي نفض غبار السنين وتمرد على الألفة لينسجم مع انطفاء الروح واستبدالها برفقة جديدة لا تقيم وزنا للعشرة القديمة إنها حضارة العصر وجفاف الروح . وهكذا تتكامل قصص المجموعة حول محاورها الرئيسة المرأة والاستلاب وجماليات التوازي والتماهي والتقاطع والمعادل الموضوعي والمفارقة والاسترجاع و الترميز.