الحرب التجارية بين أمريكا والصين..

صراع الرأسماليات.

الولايات المتحدة تخشى أن تحقق الصين ما فشل الاتحاد السوفيتي في تحقيقه. لا يزال العالم يتلقى صدمات السياسة الاقتصادية التي تبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وهي الرسوم الجمركية كواحدة من أبرز الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة لإعادة رسم ملامح علاقاتها التجارية مع الصين والدول الأخرى. هذه السياسات لا يمكن فهمها بمعزل عن التحولات الهيكلية التي يشهدها النظام الاقتصادي العالمي، والتي تتجسد في صراع متصاعد بين نماذج مختلفة للرأسمالية. في هذا السياق، يُمكن النظر إلى الرسوم الجمركية على أنها خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة تقييم مكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي، وتعديل ميزان القوى في مواجهة الصعود الاقتصادي للصين، التي تتبنى رأسمالية الدولة. في العقود الأخيرة، كان النظام الاقتصادي العالمي يعتمد بشكل أساسي على رأسمالية السوق الحرة، التي دأبت الولايات المتحدة على تبنيها وتعزيزها من خلال تحفيز العولمة التجارية، وفتح الأسواق أمام الاستثمارات الدولية. هذا النموذج يقتضي أن تتحرك الأسواق بحرية، وأن يتم تخصيص الموارد وفقًا لقوى العرض والطلب، مع الحد الأدنى من التدخل الحكومي. إلا أن الصعود السريع للصين، التي تبنت نموذجًا يسمى رأسمالية الدولة، دفع إلى إعادة التفكير في استدامة هذا النظام. أدى صعود الصين إلى إعادة التفكير في استدامة هذا النظام. فالصين تبنت رأسمالية الدولة، حيث تمارس الحكومة دورًا نشطًا في توجيه الاقتصاد عبر دعم الصناعات المحلية، وتحديد سياسات الاستثمار، بل وتأسيس شركات حكومية بما يتماشى مع مصالح الدولة الكبرى. وهذا النموذج قدم للصين ميزة تنافسية هائلة في الأسواق العالمية، مما ساعدها على أن تصبح القوة الاقتصادية الثانية في العالم، مع تعزيز قدرتها على السيطرة على حركة السلع والخدمات والتكنولوجيا بشكل يتحدى الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. وهذا ما حذر منه زميل مجلس العلاقات الخارجية، جوشوا كورلانتزيك، حيث أشار إلى أن «رأسمالية الدولة تقدم بديلا محتملا حقيقيا لنموذج السوق الحرة، وكبديل فإنها تشكل تهديدات خطيرة للاستقرار السياسي والاقتصادي في جميع أنحاء العالم». كان من المفترض أن تساهم التجارة الحرة في تعزيز النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة من خلال تمكين الشركات الأمريكية من الوصول إلى أسواق جديدة وتوسيع نطاق عملياتها الإنتاجية. ولكن، مع تعميق العولمة، بدأت بعض القطاعات الاقتصادية الأمريكية، خصوصًا الصناعات التقليدية، في مواجهة منافسة شرسة من الدول التي تبنت سياسات تدخلية، مثل الصين. وبالفعل، مع انتقال العديد من الشركات الأمريكية إلى الصين بحثًا عن العمالة الرخيصة، فقدت الولايات المتحدة العديد من الوظائف الصناعية، مما أدي إلى تزايد التفاوت الاقتصادي بين الطبقات الاجتماعية داخل البلاد. من هنا، بدأ يتحقق تحول في ميزان التجارة الدولي لصالح الدول التي تتبع سياسات حكومية أكثر توجيهًا لاقتصاداتها، وهو ما جعل النموذج الأمريكي الذي يعتمد على الأسواق الحرة يبدو أقل فعالية في مواجهة التحديات الجديدة. في هذا السياق، أصبحت التجارة الحرة بمثابة تهديد للولايات المتحدة أكثر منها فرصة، مما حفز الإدارة الأمريكية الحالية على اتخاذ إجراءات حمائية. في هذا السياق، يمكن فهم فرض الرسوم الجمركية كأداة تهدف إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية. أولاً، كانت الرسوم وسيلة لتصحيح ما اعتُبر «اختلالًا في ميزان التجارة» مع الصين، حيث كان من المفترض أن تساهم الرسوم في تقليل العجز التجاري الأمريكي مع الصين. ثانيًا، كانت هذه الرسوم تهدف إلى إجبار الصين على تغيير ممارساتها التجارية، مثل انتهاك حقوق الملكية الفكرية، أو دعم الصناعات المحلية على حساب المنافسة الحرة. ولنفهم دوافع الولايات المتحدة في كبح النمو الصيني، يمكن الإشارة إلى خشيتها من أن تحقق الصين ما فشل الاتحاد السوفيتي بتحقيقه. فعند العودة إلى فترة الحرب الباردة، كان الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي يُقدّر بنحو 374 مليار دولار أمريكي، بينما كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة حوالي 1.7 تريليون دولار، مما يعكس تفاوتًا اقتصاديًا كبيرًا بين القوتين العظميين. ورغم أن الاتحاد السوفيتي كان يمتلك اقتصادًا أقل بكثير من الاقتصاد الأمريكي آنذاك، إلا أنه استطاع إرهاق الولايات المتحدة في سباق التسلح وحروب بالوكالة، مما جعل الولايات المتحدة بالكاد تنهي الحرب الباردة بانتصارها. الآن، إذا كانت القدرة على تحدي الولايات المتحدة قد تحققت بفضل القوة المحدودة للاقتصاد السوفيتي مقارنة بالاقتصاد الأمريكي، فإن الأمر يختلف تمامًا اليوم في ظل قوة الصين الاقتصادية الحالية. إذ يشير الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للصين في عام 2025 إلى 19.5 تريليون دولار مقارنة بـ 30.3 تريليون دولار للولايات المتحدة. وعند مقارنة الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية (PPP)، فإن اقتصاد الصين يبلغ 39.4 تريليون دولار، متفوقًا بذلك على الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يبلغ معدل نمو الاقتصاد الصيني 4.5% مقارنة بـ 2.2% للولايات المتحدة، مما يعكس تحولًا جوهريًا في الديناميكيات الاقتصادية العالمية. ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الرسوم الجمركية كخطوة اقتصادية فقط؛ بل إنها تمثل أيضًا أداة استراتيجية في سياق الصراع الجيوسياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين. ففي هذا الصراع، لم تعد الرسوم الجمركية مجرد أداة لتعديل العلاقات التجارية التقليدية، بل أصبحت وسيلة لفرض الهيمنة الاقتصادية في مواجهة صعود منافس استراتيجي في الأسواق العالمية. تمثل الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على الصين أكثر من مجرد خطوة اقتصادية؛ فهي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تقويض النمو الاقتصادي السريع للصين، الذي يعد تهديدًا هيكليًا لمكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى. فالصين، من خلال تبني نموذج رأسمالية الدولة اتبعت سياسات تدعم قطاعها الصناعي والتكنولوجي، لا تقتصر على التأثير في الأسواق التجارية، بل تسعى أيضًا إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في مناطق استراتيجية مثل البحر الصيني الجنوبي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي خطوات لتشتيت القوة في الاقتصاد العالمي بعيدًا عن المراكز التقليدية للنفوذ الغربي. من هنا، يمكن تفسير فرض الرسوم الجمركية على الصين باعتبارها محاولة لاحتواء هذا التوسع، وإبطاء عملية انتقال الصين إلى دور اقتصادي وجيوسياسي مهيمن. هذه السياسة تتماشى مع استراتيجية الاحتواء التي كانت الولايات المتحدة تتبعها تجاه القوى الصاعدة عبر التاريخ، سواء كانت في شكل منافسة اقتصادية أو صراع في المجالات العسكرية. إن سياسات الحماية التي تفرضها الولايات المتحدة، بما في ذلك فرض الرسوم الجمركية، تشكل أيضًا جزءًا من تحول أوسع نحو إعادة التفكير في العولمة. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت من المدافعين الرئيسيين عن العولمة في العقود الأخيرة، إلا أن التغيرات الاقتصادية والسياسية جعلت هذه السياسات موضع شك. العولمة، التي كانت تهدف إلى تسهيل تدفق السلع والخدمات عبر الحدود، أصبحت تؤدي إلى تشوهات اقتصادية في الداخل الأمريكي، حيث تضررت بعض الصناعات من المنافسة غير العادلة من قبل الدول ذات الاقتصاديات المدعومة من الدولة، مثل الصين. وبذلك، أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة تقييم مشاركتها في هذا النظام العالمي، خاصة في ظل صعود قوى اقتصادية تستفيد من تدخل الدولة في الأسواق. إن السياسة الاقتصادية التي اتبعها ترمب، وخاصة فرض الرسوم الجمركية على الصين ودول أخرى، هي تعبير عن نزاع أوسع على الهيمنة الاقتصادية العالمية. فالولايات المتحدة، التي كانت تقود النظام العالمي القائم على التجارة الحرة في القرن العشرين، تجد نفسها اليوم في مواجهة نموذج اقتصادي جديد يتبناه منافس رئيسي مثل الصين. هذا الصراع بين رأسمالية السوق الحرة ورأسمالية الدولة يعكس تحولات جوهرية في التوازنات الاقتصادية العالمية. وخلاصة القول، إن فرض الرسوم الجمركية من قبل ترمب يمثل خطوة استراتيجية تهدف إلى إعادة ترتيب النظام التجاري الدولي بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة في سياق صراع الرأسماليات. في حين أن النموذج الصيني يعكس تحديًا للنظام القائم على التجارة الحرة، فإن السياسات الأمريكية الأخيرة تهدف إلى الحد من الهيمنة الاقتصادية الصينية وإعادة فرض النفوذ الأمريكي في الأسواق العالمية. في النهاية، يُعد هذا الصراع لحظة حاسمة في تاريخ العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث تتنافس القوى الكبرى لتحديد مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.