جمال الأماكن في كلماتها.

حرية التفكير والتعبير مكفولتان للجميع، ولا اعتراض على ذلك، ما دامتا في إطار الاعتدال والحدود المشروعة التي يقرها الشرع والقانون. ومن هذا المنطلق، فإن الرد على الرأي برأي آخر لا يُعد كسرًا للرأي المخالف، بل هو وسيلة لتصحيح التصورات المغلوطة وإعادة التوازن للنقاش. وفي خضم الحديث المتكرر عن أغنية “الأماكن” الشهيرة، طغت شهرة الأداء الصوتي للفنان محمد عبده، واللحن العاطفي الرقيق للملحن الراحل ناصر الصالح، على النص الشعري ذاته، حتى غاب – في كثير من التحليلات – دوره الأساسي في صناعة هذا الأثر الكبير. وقد استمعت مؤخرًا إلى رأي شخصي لأحد الشعراء الشعبيين، يرى أن القصيدة – لو جُرِّدت من لحنها وصوتها – لما بقي منها ما يستحق الذكر، بل ذهب إلى وصفها بأنها “أقل من الكلام العادي”. وأنا هنا لا أعترض على رأيه، بل أسعى لإعادة النظر في هذا التقييم المجحف للنص، بعيدًا عن تأثير المؤثرات الخارجية. ليس إنكارًا لدور الصوت واللحن، بل إنصافًا للقصيدة كعمل شعري قائم بذاته، يحمل من الجمال ما يُمكنه أن يتحدث بلغته الخاصة، ويصل إلى المتلقي دون وسائط. فالقصيدة تبدأ ببيت يُعد مشروع نص مكتمل بذاته: “الأماكن كلها مشتاقة لك” عبارة مكثفة تمنح “الأمكنة” روحًا ومشاعر، فتُجسدها ككائن حي يشتاق، في تصوير بلاغي عميق يُعبر عن حجم الغياب الذي خلّفه الحبيب. لم يحتج الشاعر إلى استعارات معقدة، بل اختار البساطة الظاهرة المشحونة بالدلالة. ويمضي النص في رسم مشاهد بصرية ووجدانية آسرة: “العيون اللي انرسم فيها خيالك” “الحنين اللي سرى بروحي وجالك” خيال يتحول إلى صورة، وحنين يتجسد في هيئة كائن يسري، في صور شعرية تنقلنا إلى عالم داخلي متماسك، حيث المفردة ليست مجرد لفظ، بل حالة شعورية. ويواصل الشاعر نحت مشاعر الغياب بأسلوب دقيق وسلس: “كل شيء حولي يذكرني بشي، حتى صوتي وضحكتي لك فيها شي” “لو تغيب الدنيا، عمرك ما تغيب” الغياب الجسدي هنا لا يلغي الحضور في الوجدان، بل إن التفاصيل الصغيرة – كالضحكة والصوت – تحمل بصمات الحبيب الغائب. ثم نصل إلى ذروة الإحساس، حيث تتقاطع الخيبة مع الانتظار: “كنت أظن الريح جابت عطرك يسلم علي” “كنت وكنت أظن وخاب ظني، وما بقى بالعمر شي، واحتريتك” الريح هنا ليست مجرد عنصر طبيعي، بل رسول يحمل رائحة الذكرى. والعطر رمز للحضور المتخيل، والخيبة تتجلى في الانتظار المعلق الذي لا نهاية له. وهذه الصور لا تأتي مصادفة، بل تدل على شاعر يملك أدواته ويعرف كيف يحوّل الشعور إلى مشهد، والحالة النفسية إلى لحظة درامية مؤثرة. ولا أنكر أن اللحن والصوت أضفيا على القصيدة بريقًا خاصًا، فهذا أمر لا يمكن تجاهله. لكن العلاقة بين النص واللحن ليست علاقة استعلاء بل تكامل، إذ لا يمكن لأي صوت مهما بلغ جماله، ولا لأي لحن مهما أتقن، أن يخلّد نصًا لا يحمل جمالًا ذاتيًا. إن “الأماكن” ليست مجرد أغنية ناجحة، بل قصيدة مكتملة الأركان، تنتمي إلى طبقة عالية من الشعر الغنائي الشعبي، وتُجسد صدقًا إنسانيًا عميقًا بلغة قريبة من القلب والروح، ثرية في صورها ومعانيها رغم بساطتها الظاهرة. وأنا هنا، أدعو كل من يرى أن “الأماكن” تفتقر إلى الجمال الشعري المتفوق، إلى أن يعيد قراءتها كما يُقرأ الشعر الحقيقي: من الداخل، لا من خلال من غنّاها أو لحنها. فجمال “الأماكن” دائمًا وأبدًا في كلماتها.