
الأمير بدر بن فرحان: يعكس الخط الأول، والخط السعودي جماليات الخطوط العربية من عمقها الحضاري والثقافي، المملكة العربية السعودية دشّنت وزارة الثقافة خطَّين طباعيين جديدين تحت مسمى “الخط الأول” و”الخط السعودي”، في خطوة نوعية تعكس التزام المملكة برعاية اللغة العربية وتعزيز حضورها البصري في العصر الرقمي، وقد صرّح صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة، عبر حسابه على منصة “إكس” بأن “الخط الأول، والخط السعودي يعكسان جماليات الخطوط العربية من عمقها الحضاري والثقافي، المملكة العربية السعودية”، وتأتي هذه المبادرة امتدادًا لمشاريع المملكة الرامية إلى إبراز الهوية الثقافية السعودية، وتفعيل عناصرها الفنية والإبداعية على الساحة العالمية. خطان من أرض الحضارات من عمق الصحراء حيث تاريخ الجزيرة العربية، ازدهرت حضارات ونقوشٌ كتبت على حجارة الزمن بالمسند والثمودي والنبطي، ولدت فكرة تطوير خط عربي يعكس هذا الإرث الحضاري العريق. انطلقت المبادرة من أرض المملكة استجابة لحاجة فنية وثقافية تمكّن المتحدثين بالعربية من التواصل بخط مستند إلى جذورهم الأولى، بخطوط تستلهم من أقدم النقوش الصخرية والمصاحف المبكرة. جاءت المبادرة ثمرة لجهود علمية وفنية اعتمدت على تحليل النقوش والمخطوطات التراثية، لاستنباط قواعد كتابية تنبع من الهوية البصرية الأولى للحرف العربي، وتقديمها في قالب رقمي عصري. فتم تصميم خطين طباعيين جديدين: “الخط الأول” و”الخط السعودي”، يجمعان بين الأصالة والابتكار، ويلبّيان الاحتياج الجمالي والوظيفي في الاستخدامات الطباعية والرقمية المعاصرة. اعتمد المشروع في تطويره على منهجية علمية دقيقة، بدأت بدراسات بحثية، وزيارات ميدانية، وتحليل شامل للنقوش الأثرية، تلتها مقارنة بين النصوص والمصاحف المبكرة، للوصول إلى قواعد واضحة تُمكّن من تصميم خط قابل للتعليم الخطي، وليس للاستخدام الطباعي فقط، ما يضمن استدامته بوصفه مرجعاً بصرياً للثقافة العربية. تحليل علمي وإبداع تقني استندت المنهجية التصميمية على التكامل بين تخصصات متعددة، مثل علم المخطوطات، وتاريخ الفن، واللغويات، والتصميم الرقمي، لضمان مخرجات عالية الدقة في الشكل والمضمون، وتم تطوير “الخط الأول” و”الخط السعودي” من خلال مراحل متتابعة تشمل الدراسات التأصيلية، ثم تصميم النماذج الأولية، تلاها التحقق من دقة الأبعاد، وتناسق الحروف، والاتصالات بين مكوناتها. حرص المصممون على تحقيق التوازن الجمالي والوظيفي في الخطين، عبر تحديد المسافات، والأوزان، وخصائص الحروف، بما يتناسب مع الاستخدامات المختلفة. وتم تطوير كل خط بنسختين: وزن عادي (Regular) ووزن عريض (Bold)، لتلبية احتياجات متنوعة للمستخدمين، مع إتاحة استخدام الخطين عبر منصات رقمية متعددة يستفيد منها أكثر من 100 مليون مستخدم حول العالم. وجاءت الرقمنة متكاملة مع التحليل الفني، حيث أُضيفت علامات الترقيم، والتشكيل، والنقاط، بما يضمن تكامل الأداء البصري واللغوي، مع احترام خصائص الخط العربي من حيث الجمالية، والامتداد، والتوزان بين الحروف والكلمات. وقد أولي اهتمام خاص لتطويع الخط للاستخدامات المعاصرة دون المساس بجذوره الأصيلة. استلهام من النقوش والمصاحف الأولى من أبرز مصادر الإلهام التي استند إليها الخطان الجديدان: النقوش الإسلامية الأولى، ونقوش الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأدعية التي تعود للقرن الأول الهجري، والتي خطّها الصحابة والتابعون. هذه النقوش، سواء التي كتبت على الصخور بين مكة والمدينة، أو تلك المحفوظة في المخطوطات، أظهرت تشابهاً كبيراً في الأسلوب، ما أتاح اعتمادها مرجعاً موثوقاً لاستخلاص قواعد الرسم الكتابي. كما اعتمد المشروع على دراسة دقيقة لمصاحف مبكرة محفوظة في المكتبات العالمية مثل “عربي 330” و”عربي 331”، وتمت مقارنتها مع النقوش الصخرية للتأكد من تطابق القواعد الخطية. أظهرت النتائج أن الخطوط الأولى تتبع نهجاً بصرياً موحداً، رغم تفاوت المهارات الفردية، مما ساعد على بناء قاعدة خطية معيارية دقيقة. أُجريت تحليلات عميقة للتكوين البصري للنصوص القديمة، من حيث طول السطور، وتوزيع الحروف، ونسب المسافات، وتم تبسيط هذه العناصر وتحديثها بما يواكب متطلبات العصر، دون فقدان الخصائص الجمالية، ليصبح الخط الناتج مرآةً حديثة لروح الخط العربي الأول. الخط الأول.. مرونة الماضي “الخط الأول” جاء بوصفه استعادة ناعمة للخطوط الإسلامية الأولى، محافظاً على ليونة الشكل وبساطة التكوين. وقد تم تقليل التباين بين السميك والنحيف بنسبة 3/2، ليتناسب مع سهولة الاستخدام الطباعي، مع الإبقاء على خصائص الحروف الأصلية كما ظهرت في المخطوطات الأولى. واستوحى “الخط الأول” سلوك أداة النقش في الكتابة، فجاءت حروفه تتناغم مع أسلوب الخط اليابس الذي ميّز بدايات الكتابة الإسلامية. ومع مراعاة قانون السطر العربي، وتوزيع الحروف في بداياتها ووسطها ونهايتها، أُضفيت على الخط لمسات جمالية خفيفة (حلية)، ليجمع بين المعيارية والبساطة. كما يربط “الخط الأول” الماضي بالحاضر، ويمنح المصممين والمبدعين وسيلة للتعبير تجمع بين روح المخطوطات الأولى وأدوات التصميم المعاصرة، ليكون جسراً جمالياً بين أقدم ما كُتب بالعربية، وأحدث ما يُنتج رقميًا. الخط السعودي.. معاصرة وطنية أما “الخط السعودي”، فقد تم تطويره استناداً إلى نفس قواعد “الخط الأول”، لكن بروح معاصرة تعكس الحاضر السعودي المتطور. يحمل الخط اسمه كدلالة وطنية لتعزيز استخدامه في السياقات الرسمية والتعليمية والثقافية داخل المملكة، مع الحفاظ على مرونة في الشكل لتناسب الأذواق المتنوعة. جاء “الخط السعودي” بتصميم أكثر حداثة، يعبّر عن التنوع الثقافي، والانفتاح على التقنيات الجديدة، ويعكس في الوقت ذاته قيم المملكة وأصالتها. ويمنح المستخدمين خيارات تصميمية واسعة، من خلال نمط بصري متوازن، وبنية حروف تدعم وضوح القراءة وسلاسة الاستخدام. ويمثل “الخط السعودي” رؤية المملكة في التعبير الفني عن الهوية الوطنية، ويعزز من الحضور الثقافي السعودي في المنصات الرقمية والطباعية، في انسجام تام مع مستهدفات رؤية 2030. من مبادرة إلى مشروع وطني إطلاق الخطين يأتي استكمالاً لجهود وزارة الثقافة في تعزيز حضور الخط العربي محلياً وعالمياً. فمنذ إعلان “عام الخط العربي” عامي 2021-2022، سعت الوزارة إلى تعزيز قيمة هذا الفن الحضاري، من خلال فعاليات ومبادرات، أبرزها إعادة إحياء مجمع “دار القلم” في المدينة المنورة ليصبح “مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي”. كما حققت المملكة إنجازاً دولياً كبيراً بإدراج الخط العربي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لدى اليونسكو بالتعاون مع 15 دولة عربية في عام 2022، مما يعكس التزامها بتوثيق هذا الإرث ونقله للأجيال القادمة. هكذا لا يُعد “الخط الأول” و”الخط السعودي” مجرد خطوط رقمية، بل هما مشروع ثقافي متكامل يعبّر عن روح الجزيرة العربية، ويستعيد مجد الحرف العربي الذي وُلد على صخورها، ليعود اليوم متألقًا بهوية رقمية تليق بحضارته وتخاطب المستقبل.