في قصيدة «في مطلع الخمسين» للشاعر فيصل أكرم..

نذير الضمير وحضور الأرقام.

لفتتني التجربة الشعريّة للشاعر العربيّ السعوديّ فيصل أكرم، لفتني ما وجدت في قصائده من تماسك النصّ، ومكثّف القول الشعريّ، المركوزين على خصوصيّة نفسيّة، تبلغ بهما حدَّ الصلادة... لفتني ذلك في آونة شعريّة ذهبت فيها القصيدة العربيّة الحديثة إلى الإغراق في الخيال والمبالغة في التصوير، والتركيبيّة في مجاز، تحاول أن تجد له ما يجيزه بين الواقع والخيال من قرائن فلا تجد! وكان، بعد ذلك، أن التقيت الشاعر من حوالى عشر سنوات في بيروت، فرأيته صورة عن شعره، ورأيت في شعره صورة عنه... وهذا -عندي- درجة من الصدق الفنّيّ، الأمر الذي جعلني أقرؤه كاملاً، من ألفه إلى يائه، عنيت: من ديوانه (الخروج من المرآة) 1997إلى ديوان (كالطوق من حوْلي تربَّع) 2017 ، وبما أحاط بدواوينه الثلاثة عشر من أعمال نثريّة، لاسيّما (سيرة سيف بن أعطى). ووفاءً لهذه الرحلة، أحببتُ أن أقدم هذه القراءة لقصيدته (في مطلع الخمسينْ): في مطلع الخمسينْ أدركتُ أني عشتُ ألفاً من سنينْ وقطعتُ ألفاً من مشاوير التنكُّر والحنينْ في مطلع الخمسين، أعرفُ كم سكنتُ بلا مكانْ واللهِ أعرفُ، كم سُجنتُ ولم يكن إلاّ بداخل قلبيَ السجّانْ في مطلع الخمسين، فيَّ بكلّ ما قد كنتُ معتزاً بهِ وبكلّ ما قد كان في عزٍّ لديَّ الآن حلَّتْ لعنتي.. ودنتْ إهانةُ رحلتي في صفعةٍ كم ذا سأعرفُ مثلها تدنو على خديّ إني قد تعبتُ ولن أكابرَ مثلَ أمسٍ قائلاً سأموتُ من هذا التعبْ! أبداً أنا وحدي تعبتُ من التأبُّدِ والأناةِ تعبتُ، يا اللهُ، تدري.. كلّما الموتُ اقتربْ أسلمتُ وجهيَ للترابِ بكلِّ شوقٍ منذ أزمنةٍ ولا ليَ غيرهُ كفواً طَلَبْ . في مطلع الخمسين، يا ربَّ من عاشوا، وربَّ الميّتينْ لا تختبرْني قبلَ موتٍ كنتُ ذاكرتُ الدروسَ لأجلهِ حتى أكونَ كما ضميريَ قد أحبْ. القصيدة عن صحيفة الجزيرة – 2019 في ظاهر النصّ وما يحيل عليه من أسئلة يقول النص أنه وقفة بعد استيفاء عمر، وضع الشاعر على عتبة الخمسين: وقفة إدراك وتأمل: “أدركتُ” و”قطعتُ”: “أدركتُ أني عشتُ ألفاً من سنينْ”، و” قطعتُ ألفاً من مشاوير التنكُّر والحنينْ”. لماذا يحضر الرقمان ألف وخمسون من السنين؟ لماذا التأمل في مشاوير من التنكّر والحنين؟ لأيّ شيء التنكّر، وإلى أيّ شيء الحنين؟ وهل تجيب بقية النصّ عن هذه الأسئلة؟ يفصّل الشاعر في أبعاد ذينك الإدراك والتأمل بما يدرك ويستدرك: “أعرفُ كم سكنتُ” و “بلا مكانْ”، و بـ “، كم سُجنتُ”، و”لم يكن إلاّ بداخل قلبيَ السجّانْ” كيف السكنى بلا مكان؟ وكيف للسجين أن يحمل السجان في قلبه؟ هل كان “التنكُّر” بمعنى نكران الجميل من الآخرين، أم من استبدال الهيئة بأخرى للتخفّي؟ كأنّها، في النصّ، تمزج المعنيين معاَ، وتقترن بـ”الحنين”، ليبوح تناقضهما بألم أنسانيّ عميق... لكأنّي بالشاعر عانى التنكر إيّاه من أقرب الأقربين إليه، في الوقت الذي كان يكنّ لهم لهفة وحناناً، يعبر عنهما “الحنين”. وأرى مثل هذا في السجين والسجّان، في الجملة الشعريّة التي جاءت بعدها. وهنا، أعترف للقارئ بأنّني لا أؤمن بموت المؤلف، لاسيّما بعد أن أحطت بكلّ ما صدر له، وعايشته أيضاً... فالمؤلف بات حيّاً فيَّ كلماتٍ، ومعلوماتٍ، ووجداناً. يتابع الشاعر بعد تكرار ما يشبه اللازمة: “، فيَّ بكلّ ما قد كنتُ معتزاً بهِ، وبكلّ ما قد كان في عزٍّ لديَّ”، ويستدرك: ولكن “الآن حلَّتْ لعنتي/ ودنتْ إهانةُ رحلتي في صفعةٍ” يأسٌ مطبِقٌ، يستدعي اللعنة، لأنه يشعره بدنو إهانة، تبلغ حدَّ الصفعة. يعمّق هذا الإحساس بـسؤال استنكاريّ”كم ذا سأعرفُ؟” لاسيّما أنّ “مثلها تدنو على خديّ”، ليس تدنو من، وليس تدنو إلى، بل يدنو على لتعميق الإحساس بالملامسة. هل يتعلق ذلك به شخصيّاً أم بقناعٍ ما يمكن أن يفصح عنه النصّ؟ يبدو النصُّ على قصره محمَّلاً بالمعاناة، وبالغاً حدَّ “ سأموتُ من هذا التعبْ” في استسلامٍ ، وفي طلبٍ يستعجل الموت، متذمِّراً من الزمن أبداً وتأبّداً، ومكرراً اللازمة “في مطلع الخمسين” طالباً، بعد ما صار الموت مطلوباً، أن يكون شفيعه ليس من أيّ معطى خارجيّ، بل من معطى داخليٍّ، كلّفه كلَّ ما مرّ من عناء حتّى يكون... “ حتى أكونَ كما ضميريَ قد أحبْ”، الضمير الذي طالما رأى فيه الحكماء جوهر الإيمان في كلّ دين يقرب الإنسان من الله: الضمير الذي جعل الشاعر سجيناً يحمل السجّان في قلبه، ويؤثر السكنى في اللامكان، بل في الزمان... الزمان الآبد، وفي حنين إلى المعيش المتنكِّر لجوهره في الضمير. غير أنّ الرقمين ألفاً وخمسين لا بدّ أن يداعيا الآية الكريمة: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ” (14) العنكبوت ولا بدّ أن يحيلا على تناص، فليس مصادفة أن يقترنا ببعضهما بعضاً في النصّ. لكأنّ الشاعر يريد أن يقول: لبثتُ فيكم الخمسين من السنين المتممة للألف، وها أنذا لا ألعنكم، ولا أدعو عليكم، بل أتحمّل تبعات كلّ ما كان، مكتفياً بضميري أمام الله.... أما أنتم فانتظروا الطوفان بدوني! فبعد غياب الضمير ليس إلا انتظار النهاية التي ارتآها القناع في تناص إشاريّ لما بينهما من مكابدة وألم.