العرب والشعر القصصي الملحمي.. الإلياذة اليونانية.

الشعر العربي شعر غنائي، حيث يتكون من قصائد قصيرة أو متوسطة الطول لا تتعدى إن طالت مئة أو مئتي بيت وهو نادر، حتى أن العرب يُطلقون على السبعة أبيات قصيدة. والشعر الغنائي شعر يعبّر به الشاعر العربي عن عواطفه ومشاعره وتجربته الشخصية، لذلك يقصر طوله تمامًا كما يقتصر موضوعه على تجربته الذاتية الخاصة. يُعرف نوع آخر من الشعر – سوى الغنائي – في الأمم الأخرى، وهو الشعر القصصي والملحمي الذي وجد عند الغرب، والذي قد تتجاوز أبياته الألف والألفين والثلاثة وأكثر، يذكر فيه الشاعر ملاحم وبطولات وحروب جرت في أمته، فيخلدها شعرًا فيما يسمى الشعر القصصي ذو الطول المتناهي للقصيدة، ومن تلك الملاحم الشعرية الشهيرة في الغرب ملحمتي: الإلياذة والأوديسة للشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا في اليونان القديمة، حيث وصل عدد أبيات الإلياذة إلى ستة عشر ألف بيت، خلّد فيها هوميروس حرب طروادة التي جرت في اليونان قبل الميلاد. وكانت هذه الحرب هي مصدر إلهام هوميروس لكتابة ملحمتيه الخالدتين الإلياذة والأوديسة اللتين يعتبران مثالًا مشهورًا يُحتذى به في الشعر القصصي الملحمي. لم يكن العرب يعرفون الشعر الملحمي في أدبهم، ليس لعدم وجود حروب في حياتهم وأمتهم، بل مرت عليهم حروب خارجية شهيرة منذ الجاهلية كذي قار وحروب اليمن، وداخلية كالبسوس وداحس والغبراء وغيرها كثير أبلى فيها فرسان العرب بلاءً حسنًا وخلّدوا بطولاتهم فيها بشعرهم الغنائي وتناقلت ذلك الشعر الأجيال وخلدته حتى وصل لنا بعد كل هذه القرون، ولكنه شعر غنائي لا يصنّف على أنه شعر قصصي ملحمي. ويُعزى سبب عدم طرق العرب للشعر الملحمي هو أن الشاعر العربي بطبيعته ذاتي التجربة، يعنيه ما يعني نفسه وقبيلته وحيّه، دون نظرة عامة شمولية لمعنى الأمة وكفاحها وبلائها، لم تعني له حقائق التاريخ للأمة العربية إلا ما يعنيه تاريخ نفسه وآبائه وقبيلته، فلم يفكّر بشعر قصصي ولا تمثيلي، فكان شعره محصورًا بتجربته الذاتية من حب أو حرب أو فخر أو وصف، وإن عمّمها فلا تتعدى عشيرته، فكان يعيش في إطار نفسه الداخلي، فلا يقول إلا القصائد القصيرة والأبيات القليلة. أما من نفذ للتاريخ بعد ذلك وسبر بعض أغواره منهم ونظم في بطولات وفصول من التاريخ شعرًا كنظم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كثيرين، وكنظم لسان الدين بن الخطيب لعصور من التاريخ حتى وصل إلى عصره شعرًا، فهو -وكما يقول النقاد- لا يتعدى أن يكون مثل نظم المتون للتعليم وليس شعرًا قصصيًا، وهو شبيه بنظم قواعد العلوم شعرًا في متون الشعر التعليمي، فهو شعر تعليمي يجمع المعارف نظمًا، فهم ينظمون حوادثَ وأحداثًا تقل فيها الروعة والإبداع الشعري والخيال وإثارة المشاعر، وهي أقرب لسرد وقائع تكاد تخلو من روعة الشعر وخياله. وبعد اتصال الأمة العربية بالآداب الأوروبية خاصة، في القرن التاسع عشر، اطّلع الأدباء العرب على شعر الملاحم الكبرى في أوروبا، وفهموها وأثارت إعجابهم، ثم نقل سليمان البستاني ملحمة الإلياذة لهوميروس شعرًا إلى اللغة العربية، فاطّلع عليها أدباء العرب وقرأوها، واطّلعوا عن قرب على الشعر القصصي والملحمي، وما فيه من حروب وأحداث مثيرة عن أبطال اليونان القديمة وطروادة. وكانت الإلياذة اليونانية تربو على ستة عشر ألف بيت، ونُظمت على وزن واحد من أولها لآخرها، ووُجدت الأسطورة وحكايات الأساطير تجري في أبياتها، كما أن الآلهة كانت تتدخل في الحرب، مرة تنتصر لليونان، وأخرى تنتصر لطروادة. وفيها خيال واسع، وفيها أحلام مثيرة، وتحتوي على حوادث خارقة للعادة ومبهرة، ولغتها فخمة وأسلوبها فاخر. حاول الشعراء مجاراة الإلياذة ومحاكاتها، وطرق باب الشعر القصصي والملحمي، ومن أشهر تلك المحاولات تلك التي قام بها أحمد محرّم، الذي اختار حروب الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعًا لإلياذته وملحمته العربية الإسلامية، والتي سُمِّيت فيما بعد بالإلياذة الإسلامية. قسّم أحمد محرّم قصيدته إلى عدة فصول، وكان يقدّم للفصل بقطعة نثرية يوضح فيها موضوع القصيدة التالية، وكانت موضوعات فصول قصيدته تتصل بغزوات النبي صلى الله عليه وسلم وحروبه، وحوادث السيرة النبوية. بدأت إلياذة أحمد محرّم بقوله: املأ الأرضَ يا محمدُ نورًا واغمرِ الناسَ حكمةً والدُّهورَا حجبَتْكَ الغُيُوبُ سِرًّا تجلَّى يكشفُ الحُجْبَ كلَّها والسُّتُورَا عَبَّ سيلُ الفسادِ في كلِّ وادٍ فتدفَّقْ عليه حتَّى يغورَا جِئتَ ترمي عُبابَهُ بِعُبَابٍ راحَ يطوِي سُيُولَهُ والبُحورَا يُنقذُ العالمَ الغريقَ ويحمي أُمَمَ الأرضِ أن تذوقَ الثُّبُورَا ويمضي هكذا في قصيدته، يصف استقبال أهل المدينة النبوية للرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ويصف مجتمع المدينة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وذكر الجاهلية وآثامها، ووصف المنافقين واليهود ونقضهم للعهود، ثم يتجه لموضوع القصيدة الرئيسي وهو وصف كفاح النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاناه وأصحابه وأنصاره في حروب المشركين وملة الكفر ومن شهروا سيوفهم في وجه الدعوة الإسلامية، وغزوات النبي عليه الصلاة والسلام لإعلاء كلمة الدين ودحر الشرك وأهله. إن الإلياذة الإسلامية لأحمد محرّم تُعد تجربة لا بأس بها لمحاكاة إلياذة هوميروس، فهي قصيدة مطولة وتناولت أفضل السير سيرة سيد البشر عليه الصلاة والسلام، ولكنها لا يمكن أن تكون بخصائص الشعر القصصي الملحمي نفسها كما في الشعر الملحمي الإغريقي اليوناني القديم وغيره، بل هي تتراوح بين الشعر الغنائي والنظم التعليمي، لا الشعر القصصي ولا الملحمي، قصيدة مميزة في موضوعها وشخوصها وأحداثها ووقائعها وسردها وفوائدها لكنها حسب رأيي المتواضع -وسبقني كثيرون- لا يمكن تصنيفها كشعر قصصي ملحمي تام الجوانب. إن رَأيَنَا في قصيدة محرّم لا يختلف كثيرًا عن رأي كثير من النقاد السابقين فيها، حيث نلاحظ أن الشاعر لا يكتب ملحمة كملحمة هوميروس، وإنما ينظم سيرة للرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وهناك فرق بين نظم السير والشعر القصصي، فالشاعر في نظم السير يقرأ التاريخ ثم يحوّله نظمًا شعريًا، فلا يتناول حربًا ولا ملحمة واحدة، بل مجموعة حروب، فهو ينظم سيرة مطولة فيها أحداث الحرب وغير الحرب، فتكون في النهاية أقرب للتاريخ من الشعر، فليس فيها ما في الإلياذة من شرح وتفاصيل وتمثيل لمشاهد الموقعة وكأنها تُبعث من جديد بكافة تفاصيلها، وليس فيها حلم وأحلام مثيرة وعواطف جياشة وخيال مثير وخوارق وصور حية ناضرة كالذي في الإلياذة والأوديسة وبقية الملاحم، إنما هي المشاهد التاريخية نفسها كما هي، تصاغ من جديد نظمًا يقل معها الخيال والعاطفة والإثارة. كما أن قصيدة محرم كُتبت على أكثر من وزن شعري أما الإلياذة فهي على وزن واحد طيلة ستة عشر ألف بيت. كان لمحرّم عدة فرص من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لإسباغ صفة الملحمية على قصيدته، منها قصة الإسراء والمعراج التي فيها من الروحانية والخيالات الربانية ما فيها، وكذلك مشاركة كتيبة الملائكة التي نزلت من السماء لنصرة المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وهي حقائق ثابتة يمكن استغلالها إبداعًا وخيالًا كما يراها هو ويتصور حدوثها في مخيلته، فكما أن الإلياذة اليونانية تحتوي على حوادث خارقة للعادة؛ حيث تتدخّل الآلهة في الحرب، ومرة تنتصر لليونان، وأخرى تنتصر لطروادة، ففي سيرة سيد البشر حوادث كثيرة صادقة خارقة للعادة وحقيقية، لم يستغلها محرّم أفضل استغلال ويقترب بها في إلياذته لمستوى الشعر الملحمي. أما الإلياذة اليونانية فكانت لهوميروس انطلاقاته الواسعة، وكانت له شروحًا وتفاصيلَ في حرب طروادة أقرب للخيال والتخييل من الوقائع المجردة التاريخية؛ فيها العديد من الأحلام المثيرة، والخيالات الحالمة. يصف لنا هوميروس حرب طروادة وكأنها تُبعث من جديد في هذا الزمان، وكأننا ننظر إليها في دار سينما الآن، تناول هوميروس حرب طروادة كما تبدو في خياله وفكره لا بكونها حقائق عامة ليس لها أية تفاصيل مثيرة، وبعث لنا من مخيلته وفكره وبشكل بديع أحداث الحرب كما يراها فكره وعقله وإبداعه وأخيلته بتفاصيلها وخوارقها وأحلامها، وكانت الأسطورة متواجدة والإثارة حاضرة والمتعة في أقصى درجاتها. أفسح هوميروس المجال لخياله في الانطلاق والوصف، وأثار العواطف بالأحلام والآمال في الإلياذة، فكانت ملحمة خالدة منذ ما قبل الميلاد وحتى الآن. وخلاصة حديثنا أن لكل أمة خصوصية في شعرها وموضوعاته وأنساقه، فالأمم تختلف في اللغة والأدب وتفاصيلهما، كما تختلف نظرة الإنسان وطبيعته في كل أمة، وليس من الممكن دائمًا محاكاة كل أنواع الشعر أو الأدب في الأمم الأخرى بدقائقهما، فلكل أمة خصوصيتها ولغتها وأدبها وثقافتها وحضارتها الخاصة، وهي بها تفاخر وتنافس الأمم الأخرى بل وتتفوق عليها في مجالات أدبية وفكرية وثقافية أخرى تتسق مع طبيعتها وخصوصية لغتها وثقافتها. * دكتوراه الأدب والنقد