الكلمة بين الحرية الثقافية والوصاية.

كيف يمكنُ للكتبِ أن تمنحنا تذكرةً للسفرِ نحوَ عوالمَ لم نَصِل إليها من قبل؟، وهل هنالكَ متسعٌ كافٍ نستطيعُ من خلاله أن نحافِظ على حريتنا الثقافيةِ وسط َالآراءِ المجتمعية؟، هل سَنصلُ إلى حقيقيةِ أنَّ على المثقفِ التَّحررَ من القيود التي قد تكبل خيالهُ ليجدَ النَّص الحقيقي؟، يقولُ بورخيس: “هناكَ من لا يستطيعُ تخيلَ العالمِ بلا طيور، وهناكَ من لا يتخيلُ العالمَ بلا ماء، أما بالنسبة إليَّ، فأنا غيرُ قادرٍ على تخيلِ العالمِ بلا كتب”، يبحرُ القارئ في محيطِ الكلمات، فتتقاذفُه أمواجُ الرموزِ والصور اللانهائية، حاملاً بين يديه كوباً من القهوةِ السوداء، كمرساةٍ صغيرةٍ أو كرفيقٍ صامتٍ يترجمُ طقوسَه المليئةَ بالسكينةِ إلى لحظةٍ يتحول فيها الزمنُ سرابًا. إن القراءةَ أشبهُ بنافذةٍ تطلُّ على مكامن الحياةِ التي تفصحُ لنا عن زواياها الخفِية، وفي جوهرها حريةٌ وانعتاقٌ من سطوةِ أفكارِ الآخرين وآرائهم، فهل هنالكُ قيودٌ تكبِّلُ ثقافةَ القارئ ورغبته في القراءة؟، يقولُ بابلو نيرودا: “إنَّ الكتبَ التي تساعدكَ أكثر هيَ الكتبُ التي تجعلكَ تفكرُ أكثر، فالكتابُ سفينةٌ من الأفكارِ، محملٌ بالحقيقةِ والجمال.”، إن الكتبَ التي تجعلنا قيدَ هواجِسِها والتي تراوِد ذواتنا هي التي ترشدُنا نحوَ فتحِ أبواب مغلقة، فنتهيأ بعد ذلكَ لمُواجهةِ كلِّ ما خلفَها، إذ لا تكتفي بطرحِ إجاباتٍ لنا نحنُ القُراء، بل تدفعنا نحوَ طرحِ أسئلةٍ أعمق، وبالرغم من أنها قد تضعُنا في مواجهةٍ مع أفكارٍ متناقضة، بل إنها بمثابةِ معاركَ صغيرةٍ نخوضها داخلَ ذواتنا، قد نخرجُ منها أقوى وأكثرَ إدراكًا ووعياً وقد لا نخرجُ منها أبداً إلا بفقدان شيءٍ ما، ولكن مهما كانت النهايةُ إلا أنها جزءٌ لا يتجزأ من أي عمليةٍ قرائية. “بمجردِ أن تتعلمَ القراءةَ، ستكونُ حرًّا إلى الأبد” هكذا كانت رؤيةُ الكاتب فريدريك دوغلاس، إن الحريةَ الثقافيةَ في مقامِها الأول هي مسؤوليةٌ تعولُ على عاتقِ كلِّ فردٍ مثقفٍ في مجتمعنا، إذ تتجسَّدُ مِن خلالِ طرحِ عدَّة أسئلةٍ للقارئ أبرزها: ماذا يَقرأ؟، لمن يَقرأ، وكيف يَقرأ؟، هل يبحثُ القارئ عمَّا يُغذي عقله وروحه؟، أم أنه يكتفي بسطحيةِ النصوص؟، إن القارئ مطالبٌ بالوعِي النقدِي تجاهِ ما يقرَأ، لا بمجرد الانجرافِ والانقيادِ لآراءِ الآخرين، وتتجلَّى قدرته في اختيارِ ما ينسجمُ مع ذاتهِ بميولها الفكرِي وبإثارةِ فضولها المعرِفي، بَعيداً عن الوِصايةِ الثقافية، إنها حريةٌ تخولُه في الابحارِ إلى العوالمِ البعيدة، أن يقرأ لمَن يوافقهُ أو يخالفه، أن يغوصَ في شَتَّى المجالاتِ الثقافية، دونَ النظرِ إلى الأحكام والتوجيهاتِ المسبقة، وهذهِ كانت وجهةُ نظرِ الكاتب والشاعر فلاديمير نابوكوف حيثُ قال: “إذا بدَأ القارِئ وفي بالهِ حكمٌ مسبق، سيبدَأ بالنهايةِ الخاطئة وسيهربُ من الكتاب قبلَ أن يفهمه حتى.”، هي نقطةُ انطلاقٍ فكريَّة من خلالِ رؤيةِ العالمِ بعيدًا عن أيِّ قيودٍ أيديولوجية، إذ لا تحددُ التصوراتِ الثابتةِ التي تختزلُ الثقافةَ في قوالبَ تفرضُ على القرَّاءِ اختياراتهم، لذلك ينبغِي أن تكونَ الثقافةُ كمنبعٍ حيٍّ متجددٍّ دائمًا، يحملُ المعرفةَ والرموزَ التِي تُثري التَّأملَ والمجالَ للاختيارِ، إذن يأتي تعريفُ الحريةِ الثقافية - وقد يختلف من قارئٍ لآخر- في القدرةِ على الاختيارِ وطرحِ الرَّأي، وانغماسِ القارئ في النص متحررًا مِن أي قيودٍ تحيط به. ومن هنا كنتُ قد وقفتُ عندَ تساؤلٍ كثيراً ما راودَ عقلي، هل هنالكَ متسعٌ للمحافظةِ على الحريَّة الثقافيةِ؟، من منظوري الخاص نعم، إذ أن بوسعِها خَلقُ التَّغيير بدءاً من كيانِ الانسان وأولِ كلمةٍ تنهلُّ في عقله، إلى أولِ كلمةٍ يؤمنُ بها، فأفكارُ الإنسان ما هَي إلا نتاجٌ من قراءةِ عقلِه وتجاربهِ في الحياة، ومن هذا الحديث يتجلى دورُها، فهي ليست مجردَ خيارٍ لدى المثقف، بل ضرورةً تسهمُ في تشكيلِ وعيِه، مما ينعكسُ ذلكَ على قدرتهِ في الإبداعِ والتجديد، وقد أشارَ الشاعرُ عدنان المناوس في احدى مقالاتهِ عن الحريةِ قائلاً: “على المبدعِ ألا يلتزمَ بالقواعد وإن تعلمها، لأنَّ الإبداعَ يكمنُ في التحليقِ خارجَ هذه الأسوار، وابتكارِ الجديدِ المنطلقِ دومًا من الرؤى الذاتيةِ الخاصةِ بالفنانِ للفنِّ والوجود، حيثُ إنَّ العمليةَ الإبداعيةَ هيَ عمليةُ خلقٍ، لا محاكاة، وعمليةُ الخلقِ تتطلبُ الحرية”. ومن هذا السياقِ نصلُ إلى أنَّ الإبداعَ نتيجةُ خلقٍ لا يتشكلُ إلا بعد انكسارِ القيودِ عن الخيال، والحريةُ الثقافية في جوهرها ليست مجردَ حقٍّ في الاطلاع، بل القدرة على استنتاجِ الأفكارِ النقديةِ وطرحها خارج أي وصاية، فالقارئ لا تكبرُ ثقافتهُ تحتَ الظلال، بل في التحليقِ بحرية. ختامًا، إنَّ القراءةَ الواعية الحقيقية تمنحنا نحنُ القرَّاء، مساحةً من الحرية، تتيحُ لنا تكوينَ رؤيتنا الخاصة بعيدًا عن هيمنةِ آراء الآخرين أو أي وصايةٍ ثقافية من خلالِ التحررِ من أي قيود، أن ننفتحَ على آفاقٍ جديدةٍ من المعرفة، أن نصبحَ قادرينَ على التَّأمل، التَّأويل، النَّقدِ، وإعادةِ تشكيلِ المفاهيم بعيدًا عن القوالبِ الاعتيادية، إنها قوةٌ تمكننَا من إعادةِ توجيهِ مسارِنا الثقافي.