
في مقالة سابقة لي نشرتها عام 2014، تناولتُ فيها رواية غراميات شارع الأعشى (2013). وقبل ذلك كنت قد قرأت رواية «شارع العطايف» (2009) للكاتب عبدالله بن بخيت، وتداولنا النقاش حولها في المنتديات الأدبية. في أحد اللقاءات، قلتُ للدكتورة بدرية البشر: إن روايتكِ تتناول حياة حواري الرياض في السبعينيات من منظور فتاة، بينما رواية شارع العطايف (2009) للكاتب عبدالله بن بخيت تعرض الحواري نفسها من منظور شاب. الأولى تغوص فيما يحدث داخل البيوت، بينما الثانية تركز على ما يجري في الأزقة والزوايا. اليوم، نشاهد رواية غراميات شارع الأعشى تتحول إلى عمل درامي يُعرض على شاشة أم بي سي الفضائية، بينما في حوار مع الكاتب عبدالله بن بخيت في جريدة الرياض بتاريخ 19 مارس 2009، سأله المحاور طامي السميري عن رأيه في تحويل روايته إلى عمل درامي. أجاب بن بخيت: «لا أريد أن أرى شارع العطايف على شاشات السينما أو التلفزيون». يبدو أن عبدالله بن بخيت كان في السابق رافضًا أو غير متحمس لتحويل روايته إلى عمل درامي، لكن في وقت لاحق، قد يكون غيّر رأيه، ربما بسبب تطور المشهد السينمائي والتلفزيوني المحلي، أو بسبب قناعته بأن الوقت قد حان لهذه الخطوة. وفي أغسطس 2024، تم الإعلان عن انتهائه من تحويل روايتي شارع العطايف والدحو إلى سيناريوهات سينمائية، بهدف تقديمهما على شاشة السينما، لإثراء صناعة السينما السعودية. لطالما كانت الرواية انعكاسًا للمكان، ليس بوصفه مجرد إطار زمني أو جغرافي، بل باعتباره روحًا تتنفس داخل النصوص. وفي هذا السياق، تلتقي روايتا غراميات شارع الأعشى لبدرية البشر وشارع العطايف لعبدالله بن بخيت عند نقطة مشتركة؛ رصد أحوال الرياض في سبعينيات القرن الماضي، لكنهما تفترقان في عدسة السرد واتجاهه؛ إذ تتوغل الأولى في عتمة البيوت وأسرارها، بينما تفتح الثانية أبوابها نحو الأزقة والشوارع الصاخبة. في غراميات شارع الأعشى، تأخذنا بدرية البشر إلى ما يدور في أذهان النساء، والمنازل، والممنوعات الصامتة، حيث تسرد قصة عزيزة، الفتاة التي تعيش في حي شعبي، تطل على العالم من خلال شاشة التلفاز، وتتوق لحياة تحمل رومانسية الأفلام المصرية، لكن جدران البيت والتقاليد تحدّ من أحلامها. هنا، يظهر الشارع كفكرة بعيدة، حلم مجهول، أو عتبة محرمة لا يمكن عبورها دون عواقب. فالرياض التي تصورها البشر من الداخل، حيث تحدد الجدران المصائر، وحيث يصبح الشارع مجرد صدى للحياة المنزلية، وليس امتدادًا لها. أما في شارع العطايف، فإن السرد يأخذ منحى مختلفًا، إذ ينقل عبدالله بن بخيت قارئه إلى الأزقة والتجمعات الشبابية، حيث يكشف عن عوالم أخرى، مليئة بالتناقضات والصراعات، بدءًا من شريحة المتدينين المتشددين، وصولًا إلى المهمشين الذين يصنعون هوامشهم الخاصة في قلب المدينة. هنا، نرى الرياض منفتحة على ضجيجها، متحررة في حدودها، لكنها في ذات الوقت مسيجة بالمراقبة والممنوعات غير المعلنة. ما يميز هذين العملين هو أنهما يعملان كمرآتين متقابلتين؛ عاطفة وعنفوان، ما يحدث في الداخل، خلف الجدران المغلقة، يجد موازاة مختلفة في الشارع. في غراميات شارع الأعشى، تسجن الأحلام داخل الغرف، لكن السينما والتلفزيون يفتحان ثقبًا في الجدار يتيح رؤية العالم. أما في شارع العطايف، فإن الشارع يبدو وكأنه امتداد لهذه الأحلام نفسها، لكنه أيضًا مساحة للخداع، حيث تتغير المواقف حسب المصالح والظروف. كلا العملين يلتقطان لحظة فارقة في تاريخ المدينة، حين كانت التحولات الاجتماعية تدور في الخفاء، وحيث كانت التقاليد تحاول الصمود أمام رياح التغيير. في بيت عزيزة، الحب ممنوع، والخروج إلى الشارع مغامرة غير محسوبة. وفي أزقة العطايف، الحياة أكثر تعقيدًا، حيث يختلط الفضول بالمحرم، والسياسة بالدين، والشباب بالأحلام التي قد لا تتحقق. لا يمكن قراءة العملين بمعزل عن تأريخهما غير المباشر للمجتمع السعودي في السبعينيات. بينما تركز بدرية البشر على رسم صورة للمرأة في ظل القيود العائلية، يقدم عبدالله بن بخيت صورة للمجتمع الذكوري، بأبعاده المختلفة. ومن هنا، نجد أن التناص بين الروايتين لا يقتصر على الاشتراك في المكان والزمن، بل يمتد إلى رصد البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية، كلٌ من زاويته الخاصة. الرياض في غراميات شارع الأعشى مدينة مغلقة، تعيش داخل الغرف والقلوب المكتومة، بينما في شارع العطايف، هي مدينة مفتوحة، لكنها ليست أقل تقييدًا أو صعوبة. يقدّم كلا العملين سردًا مزدوجًا للمدينة؛ مدينة الداخل المليئة بالأسرار، ومدينة الخارج المحاصرة بالمتغيرات، وكأنهما وجهان مختلفان للحقيقة نفسها.