رمضان في لوحات الفنانين المستشرقين..

عندما تتحوّل الفرشاة إلى مؤرخ!

حينما يَهِلُّ هلال رمضان، لا تقتصر الأجواء الروحانية على المساجد والبيوت، بل تمتد لتُلهِمَ ريشة الفنان وتَسكُب نورها على لوحات تُحاكي عبق الزمن. وبينما عاش المسلمون على مدار العصور طقوس هذا الشهر بروحانية تتجاوز الماديات، كان هناك من يراقب تلك التفاصيل بعين الدهشة والانبهار، ليحملها معه إلى لوحاته، محاولًا تجسيد ما لا يُجسَّد. هؤلاء هم المستشرقون، فنانون غربيون سافروا إلى العالم العربي والإسلامي، مفتونين بسحر تقاليده وطقوسه، ليحولوا المشاهد الرمضانية إلى أعمال فنية خالدة. في تلك اللوحات؛ تجلَّى رمضان بضيائه وبهجته؛ الأسواق التي تزدحم بالباعة والمشترين تحت وهج المصابيح، والمآذن التي تعانق السماء مُعلنة موعد الإفطار، والمصلّون الذين يجتمعون تحت ضوء القناديل في لحظات خشوع مهيبة. لم يكن رمضان مجرد موضوع عابر في فن الاستشراق، بل نافذة أطلَّ من خلالها الفنانون على عمق الثقافة الإسلامية، فوثّقوا من خلال ضربات فرشاتهم حياة الشرق بروحانية آسرة. من الاستشراق إلى الإسلام لم يكن المستشرق الفرنسي "نصر الدين دينيه"، الذي وُلد باسم "ألفونس إتيان دينيه" عام 1861م مجرد مستشرقٍ عابرٍ يبحث في الشرق عن الغرائبية والاختلاف ليملأ لوحاته بصورٍ نمطيةٍ عن مجتمعاتٍ لم يعِش بينها، بل كان فنانًا جاب الصحراء، وسكن الروح الإسلامية، حتى صار جزءًا منها، حملته رحلاته المتكررة إلى الجزائر، فلم يكتفِ بتأمل ملامحها، بل انغمس في تفاصيلها، عاش بين أهلها، وارتشف من معين ثقافتها حتى اختلطت ألوانها بريشته، وصارت ضربات فرشاته تنطق بلسان الشرق لا بعيون الغرب، لم يكن إسلامه مجرد تحولٍ ديني، بل كان ثورةً على الاستشراق الاستعلائي الذي صوّر الشرق لوحةً زاهية الألوان فارغة الروح، وجد دينيه في الإسلام نورًا قاد فكره وروحه، فكتب بمداد الصدق عن عظمته، ودافع عن تراثه ببلاغة العارف، وانتصر له في وجه الادعاءات التي كانت تملأ مؤلفات المستشرقين من حوله. بينما اكتفى غيره من المستشرقين بسطحية المشهد، غاص دينيه إلى العمق، ملتقطًا نبض الحياة الحقيقية، محولًا بوسعادة إلى ملهمته الأبدية. هناك، شهد تحولات روحه، وهناك انبرى يردّ على تشويه المستشرقين لصورة الإسلام، كاتبًا كتبه التي حملت للعالم رسالةً مختلفة، ترفع الستار عن الحقيقة التي أخفاها غيره، ولم يكن هذا الدفاع مجرد كلمات، بل كان رؤيةً فنيةً وإنسانيةً امتدت من لوحاته التي صورت الإنسان الشرقي بواقعية محبّة، إلى مؤلفاته التي كشفت زيف الدعاية الاستشراقية، ووضعت أمام الغرب مرآةً صادقةً تعكس الوجه الحقيقي للإسلام، دين العقل والنور، وتُعَدُّ لوحاته "الصلاة"، و"المؤذن"، و"العودة"، و"غداة رمضان" من أشهر أعماله التي تعكس الحياة اليومية والروحانية للمجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت. توثيق الطقوس الدينية في أواخر القرن التاسع عشر، ازدهر اهتمام الفنانين المستشرقين بتوثيق الطقوس الدينية في العالم الإسلامي، حيث سعوا لنقل أجواء الشرق بروحانيته وعمقه الثقافي إلى لوحاتهم، ولا سيما خلال شهر رمضان المبارك، ومن أبرز هؤلاء الفنانين؛ يبرز اسم الفنان والمستشرق الفرنسي جان ليون جيروم (1824-1904)، الذي قام برحلة إلى مصر عام 1854م، استلهم خلالها العديد من أعماله، وفي لوحته الشهيرة صلاة فوق سطح أحد المساجد بالقاهرة (1865)، يصور جيروم مجموعة من المصلين يؤدون الصلاة على سطح مسجد، بينما يبرز هلال الشهر الهجري في السماء، مشيرًا إلى بداية شهر رمضان المبارك، وتُعَدُّ هذه اللوحة من أبرز الأعمال التي توثِّق الأجواء الرمضانية في القاهرة خلال القرن التاسع عشر، وتُعرض حاليًا في متحف المتروبوليتان للفنون. إلى جانب جيروم، برز فنانون مستشرقون آخرون اهتموا بتوثيق الطقوس الدينية في العالم الإسلامي. منهم الرسام الأمريكي إدوين لورد ويكس (1849-1903)، الذي قام برحلات عديدة إلى الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، ووثّق في أعماله الطقوس الدينية والمناظر الطبيعية والثقافات المحلية، أما الرسام الإنجليزي جون فريدريك لويس (1805-1876)، فقد عاش في القاهرة لمدة عشر سنوات، ووثّق في لوحاته الحياة اليومية والطقوس الدينية للمجتمع المصري في ذلك الوقت، ويُذكر أيضا الفنان البلجيكي والتر فريدريك، الذي اهتم بتجسيد معالم شهر رمضان في لوحاته، حيث رسم بائعي مستلزمات رمضان والمارة ملتفين حولهم، معبرًا عن الأجواء الرمضانية بواقعية ودقة. وبالمثل، قدّم الفنان الأمريكي لويس جون أندريس لوحات تجسّد مهنة المسحراتي، وهي من أهم المظاهر الرمضانية، مع إيلاء اهتمام كبير بالتفاصيل، حيث تظهر خلفية اللوحة باللون الرمادي، مما يدل على الوقت المتأخر من الليل. أما المستشرق الفرنسي يوجين جيرارديت، فقد اهتم بالأجواء الروحانية التي يعيشها المسلمون في بلدان المشرق العربي خلال شهر رمضان، معبّرًا عن الصفاء والسكينة التي تسود تلك الأيام، فيما قدّم المستشرق البلجيكي فيكتور إيكهوت لوحة بعنوان "اليوم التالي لبداية شهر رمضان بالمغرب"، حيث يصوّر عازف الشارع وهو ينفخ في بوق النفير لموعد السحور طوال شهر رمضان لإيقاظ السكان من أجل السحور، وبعد أن يؤدي واجبه، يأتي سكان البلدة الممتنين إلى أبوابهم حاملين قرابين من الفواكه والحلويات، عاش إيكهوت في المغرب وتوفي في طنجة، مما أتاح له فهمًا عميقًا للثقافة والتقاليد المحلية. تُظهر هذه الأعمال الفنية القيمة كيف سعى المستشرقون إلى توثيق الطقوس الدينية والأجواء الروحانية في العالم الإسلامي، مما يساهم في فهم أعمق للثقافة والتقاليد الإسلامية خلال تلك الفترة، ولا تزال الأجواء الرمضانية تلهم الفنانين المعاصرين، حيث يسعى العديد من التشكيليين إلى تجسيد الروحانيات الفريدة لهذا الشهر بأساليب حديثة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. ومن بين هؤلاء الفنان اليوناني كوستيس جريفاكيس، الذي استلهم في أعماله الرمضانية جماليات الإضاءة والظلال، وتتميز لوحاته بألوان دافئة تعكس الدفء الإنساني في هذا الشهر الفضيل، وبالإضافة إلى جريفاكيس، هناك فنانون عرب معاصرون يستوحون من الشهر الفضيل موضوعات لأعمالهم. رمضان والإلهام الفني يُعَدُّ الفن، عبر العصور، مرآة تعكس الروح الإنسانية في لحظاتها الأكثر سموًّا وتأملًا، وما شهر رمضان إلا إحدى تلك اللحظات التي ألهمت الفنانين، قديمًا وحديثًا، ليجسّدوا أجواءه الروحانية وأبعاده الجمالية على لوحاتهم وأعمالهم الفنية. لم يكن الفنانون المستشرقون وحدهم مَن التقطوا عبر ريشاتهم وهج هذا الشهر المبارك، بل امتدت تلك الروح الإبداعية لتتجلى في أعمال فناني الشرق أنفسهم، الذين استلهموا من روحانيات رمضان لوحات نابضة بالحياة والضوء والخشوع، ولا شك أن التأمل في هذه الأعمال يكشف عن فلسفة خاصة يتبناها الفنانون عند تعاملهم مع الموضوعات الروحانية. فالضوء، كعنصر بصري، يتجاوز كونه مجرد تأثير فني ليصبح رمزًا للإيمان والنقاء، إذ نرى كيف ينساب من نوافذ المساجد ليغمر المصلين، أو يتراقص على وجوه العابدين في ساعات السحر، مؤكدًا على حضور الأمل والسكينة في تفاصيل المشهد. الألوان بدورها تُستخدم بأسلوب يعكس أجواء الشهر الفضيل، حيث تميل إلى الدرجات الدافئة والهادئة، كالأزرق الليلي الذي يرمز إلى السكينة، والذهبي الذي يشير إلى الأجواء الاحتفالية التي ترافق هذا الشهر الكريم. لم يكن رمضان في الريشة الفنية مجرد مناسبة دينية، بل تحوّل إلى مساحة تعبيرية تحمل أبعادًا اجتماعية وثقافية، حيث جسّد الفنانون تجمعات العائلات حول موائد الإفطار، وأطفال الحارات وهم يحملون فوانيسهم في سعادة غامرة، إضافة إلى صور الأسواق الرمضانية التي تمتلئ بالحركة والنشاط. هذه المشاهد لم تكن مجرد توثيق لواقع معاش، بل إعادة تشكيل للحظة الإنسانية التي تختزل في طياتها معاني العطاء والتراحم والانتماء. ومع تطور المدارس الفنية، استمر الفنانون في استلهام روح رمضان، كلٌ وفق رؤيته وتقنياته الخاصة. فنجد في الفن الحديث تجريدات تعبر عن الإحساس الروحي بالشهر، حيث تتداخل الأشكال الهندسية والزخارف الإسلامية مع تدرجات لونية تعكس الصفاء والتأمل. في المقابل، يعتمد فنانون آخرون على الفن الواقعي لنقل صورة دقيقة للمساجد العامرة بالمصلين، أو الأزقة التي يضيئها هلال رمضان في مشهد شاعري خالد، هكذا يظل رمضان، بمكانته الروحية والاجتماعية، محفزًا للإبداع الفني، ومصدر إلهام لا ينضب، يعبر الزمن والمدارس الفنية ليظل حاضرًا في الريشة كما هو حاضر في الوجدان.