صناعة الخناجر والسيوف..

حدٌّ يحكي مجد التراث.

في أعماق التاريخ، حيث تتشابك الأسطورة بالواقع، ظل السيف والخنجر شاهدين على مسيرة الإنسان في دروب الشرف والدفاع عن الأرض والعرض، لم تكن هذه القطع المعدنية مجرد أدوات قتال، بل تحولت إلى رموز للهيبة والقوة والاعتزاز، تعبر عن تراث الشعوب وهويتها. بين أيدي الحرفيين المهرة، وداخل الورش التي تعبق برائحة الحديد المنصهر، تتشكل هذه الأدوات، فتخرج محملة بأصالة الماضي وعراقة الأجداد، تروي قصص الفرسان والمحاربين، وتظل حاضرة في المناسبات التراثية، موشحة بلمسة من الفخر والاعتزاز. صناعة السيوف والخناجر ليست مجرد حرفة، بل فن متكامل يختزل في نصلٍ حادٍ أمجادًا متوارثة، ويدوّن على مقبضٍ مزخرف حكايات البطولة التي لا تموت. وجاهة ورمز ثقافي امتدت صناعة الخناجر والسيوف عبر العصور، فكانت من أولى الحرف التي أتقنها الإنسان لحماية نفسه وتعزيز مكانته الاجتماعية، ثم تطورت المواد المستخدمة في صناعتها، فانتقل الحرفيون من العظام والخشب إلى المعادن الثمينة مثل الفولاذ والفضة والذهب، ولم تقتصر هذه الصناعة على كونها ضرورة قتالية فحسب، بل أصبحت جزءًا من الزينة والوجاهة، حيث تُحمَل في المناسبات الوطنية، وتُستخدم في الرقصات التقليدية مثل العرضة السعودية، فتتحول من أداة حرب إلى رمز ثقافي يُجسد العراقة والفروسية. وفي المجتمعات العربية، لا يزال الخنجر زينةً للرجال، يحمله الفتيان بفخر، ويرثه الأبناء عن الآباء كتذكار خالد، يحمل في تفاصيله أصالة العادات والتقاليد، أما السيوف فقد تحولت إلى تحف فنية تعرض في المتاحف والقصور، لتشهد على حقب من المجد والهيبة، حيث لا يزال بعضها يحمل نقوشًا تحمل أسماء صانعيها الذين برعوا في تشكيلها بدقة متناهية، وقد شاع إطلاق الأسماء على السيوف في المملكة، ومن أشهرها سيف (الإمام) للإمام محمد بن سعود، وسيف (رقبان) للملك عبدالعزيز، وسيف (الأجرَب) الذي يطلق على سيف الإمام تركي بن عبدالله آل سعود (رحمه الله) الذي قال فيه: ‏يوم إن كلٍّ من خويّه تبرّا … حطيت (الأجرب) لي خوّيٍّ مباري صناعة دقيقة تبدأ رحلة صناعة السيف أو الخنجر من اختيار المعدن المناسب، حيث يُفضل استخدام الفولاذ عالي الجودة، الذي يُعرف بصلابته وقدرته على تحمل الصدمات، حيث يُصهر المعدن في أفران تقليدية أو حديثة، تصل حرارتها إلى درجات فائقة الارتفاع، تُعرف محليًا بالكران، لضمان إذابته بالكامل قبل صبه في قوالب مصممة وفقًا للشكل المطلوب، وفي هذه المرحلة يتم تحديد سماكة النصل وطوله وفقًا لنوع السيف أو الخنجر، فهناك السيف العربي ذو النصل المستقيم والخفيف، والسيف الدمشقي المميز بأنماطه الملتفة داخل المعدن، والخنجر الذي يختلف تصميمه من منطقة إلى أخرى. بعد مرحلة الصب، تبدأ عملية الطرق والتشكيل، وهي من أدق المراحل، حيث تُستخدم المطارق الثقيلة والسندانات الحديدية، ويقوم الحرفي، الذي يُعرف باسم «السياف» أو «الخناجري»، بضبط زوايا النصل وانحناءاته يدويًا، مستخدمًا تقنيات متوارثة عبر الأجيال، ويُراعى في تشكيل الخناجر، خصوصًا «الخنجر الحساوي» و»الجنبيّة النجرانية»، أن تكون ذات انحناءة حادة، لأن ذلك يسهم في تحسين توازنها عند حملها، أما السيوف، فيُحرص على أن يكون النصل طويلًا ومتناسقًا، وأحيانًا يُطرَّق الفولاذ بطريقة تمنحه تموجات زخرفية تُعرف باسم «المعينات»، مما يجعل كل قطعة فريدة من نوعها. بعد التشكيل؛ يُمرر السيف أو الخنجر على عجلات الصقل المصنوعة من الحجر الرملي أو النحاس، وتُعرف هذه المرحلة باسم «التبييض»، يُستخدم الصقل اليدوي لإزالة أي نتوءات غير مرغوبة، كما تُجرى اختبارات متكررة للتأكد من أن النصل متوازن وقادر على القطع بسلاسة، وبعض الحرفيين يستخدمون تقنيات خاصة لإضافة خطوط دقيقة على السطح، تُعرف محليًا بالخدود، وهي خطوط زخرفية تمتد على طول النصل لتعزيز جماله. لا تكتمل هذه الصناعة إلا بإضافة الغمد، وهو جراب يحمي النصل ويحفظه، ويُصنع عادةً من الخشب المغلف بالجلد، أو يُلبّس بالفضة المحفورة بزخارف مستوحاة من التراث النجدي أو الحجازي، وبعض الأغمدة تُرصّع بأحجار كريمة، مثل العقيق والفيروز، لإضفاء طابع ملكي، وفي الجنوب، يُشتهر الغمد النجراني بزخارفه الفضية الدقيقة، بينما يتميز الغمد العسيري بحواف خشبية منحوتة تضفي عليه لمسة فنية مميزة. وتُعتبر المقابض جزءًا لا يقل أهمية عن النصل والغمد، حيث تُصنع غالبًا من قرون بعض الحيوانات أو العاج، وأحيانًا من خشب الأبنوس القوي، وتُزين بخطوط من الذهب أو الفضة في بعض التصاميم الفاخرة، ويُعرف المقبض في بعض المناطق باسم الرأس، ويختلف تصميمه بين الرأس السادة البسيط والرأس المرصع الذي يحتوي على نقوش دقيقة، ويُراعى عند صنعه أن يكون مريحًا لليد ومتوازنًا مع النصل لضمان سهولة الاستخدام. وبعد اكتمال جميع هذه المراحل، يُختبر السيف أو الخنجر للتأكد من متانته وحدته، حيث يتم تمريره على سطح صلب لمعرفة مدى قدرته على التحمل، وفي بعض الأحيان، يخضع لاختبارات القطع على قطع من الجلد أو الخشب، وبعد اجتياز الاختبار، يُنقش عليه ختم الصانع، أو ما يُعرف بالوسم، وهي علامة توثيق تُضفي على القطعة أصالة وجودة، وتعكس هوية الحرفي الذي صنعها، فصناعة السيوف والخناجر ليست مجرد حرفة، بل هي فنٌ أصيل يحمل بين طياته تاريخًا متجذرًا في عمق الثقافة العربية، ويظل شاهدًا على براعة الحرفيين الذين يحافظون على هذا الإرث بكل فخر واعتزاز. تراجع الحرفة رغم عراقة هذه الصناعة، إلا أن أعداد الحرفيين المهرة آخذة في التناقص، لم يعد الشباب يقبلون على تعلمها كما كان الحال في الماضي، كما أدى دخول العمالة الوافدة إلى انتشار قطع مقلدة بأسعار زهيدة، مما أثر سلبًا على الحرفيين المحليين الذين يعتمدون على الجودة واللمسات التقليدية الأصيلة، ورغم ذلك لا تزال بعض الأسواق التراثية تحافظ على هذه الحرفة، حيث يتوافد الزوار لاقتناء السيوف والخناجر المصنوعة يدويًا، والتي تختلف أسعارها حسب المواد المستخدمة وجودة الزخرفة، بعض الخناجر تُصنع من قرون الحيوانات النادرة، وأخرى تُطعَّم بالذهب والفضة، مما يجعلها قطعًا ثمينة قد تصل قيمتها إلى مئات الآلاف من الريالات. ورغم أن هذه الحرفة العريقة كادت أن تندثر، إلا أنها وجدت طريقها للبقاء بفضل جهود المملكة في إحياء التراث، من خلال دعم الحرفيين، وتنظيم المعارض والأسواق التراثية التي تسلط الضوء على صناعة السيوف والخناجر. كما أن العديد من الحرفيين السعوديين، خصوصًا في مكة والرياض والأحساء، يواصلون الحفاظ على هذا الفن، مزجًا بين الأصالة والتطوير. إرث ومكانة رفيعة يحمل شعار المملكة العربية السعودية معاني عميقة تجسد تاريخها وهويتها، حيث يرمز السيفان المتقاطعان إلى القوة والمنعة، ويعكسان إرثًا عربيًا عريقًا يرتبط بالشجاعة والإقدام. فمنذ تأسيس الدولة، ظل السيف حاضرًا في معارك التوحيد، ليس كسلاح فحسب، بل كرمز للعدل وحماية الوطن، واليوم لا يزال الشعار الوطني يعكس هذا المعنى، مؤكدًا على مكانة المملكة كدولة راسخة الجذور، تجمع بين العزة والتنمية في آنٍ واحد، فلا تزال تحتفظ السيوف والخناجر بمكانتها الرفيعة في المملكة، لكونها رمزًا متجذرًا في الثقافة الوطنية، ودليلًا على العزة والشموخ الذي اتسم به الفرسان السعوديون عبر التاريخ، تُقدَّم هذه القطع الفاخرة كهدايا ثمينة في المناسبات الرسمية ولكبار الزوار، وتُرتدى في الاحتفالات الوطنية. لا تكتمل المناسبات الكبرى في المملكة إلا بمشهد السيوف اللامعة وهي تُرفع عاليًا في عروض العرضة السعودية، حيث يتعالى قرع الطبول، وتهتز الصفوف بإيقاع خطوات الرجال وهم ينشدون أبيات الحماس والفخر، مثل احتفالات اليوم الوطني ومهرجان الجنادرية، باعتبارها تعبيرًا عن الفخر والارتباط بالإرث العريق، وفي بعض المناطق، مثل نجران وعسير وجازان، لا يزال الرجال يزينون خصورهم بالجنابي، فهي ليست مجرد قطعة تقليدية، بل هوية ثقافية تعبّر عن الأصالة والانتماء، ففي تلك اللحظات، يصبح السيف أكثر من مجرد قطعة معدنية، بل شاهدًا حيًا على إرث البطولة، يروي قصة توحيد البلاد، ويذكّر الأجيال بأن السعودية بُنيت بسواعد الشجعان، الذين حملوا السيوف للدفاع عن أرضهم وكرامتهم.