سَيْلُ العَرِم!.
(1) رغم حسن النية، وفكرة الاحتساب التي ينتهجها الكثير من مراسلي الواتساب، وذلك بإرسال رسائل يومية دون كلل ولا ملل، بين تصبيح ومواعظ وفرائد وفوائد ومقاطع فيدبو من كل مجال وفي كل فن، وبعضهم يضيف إلى ذلك مشاركاته، فيتعقّبك في كل وسائل التواصل، رغم ما يصحب ذلك من حسن القصد وطلب الأجر إلا أن هؤلاء لو فكّروا مليًّا في المقاصد الكلية والاعتبارات النفسية، والفائدة المرجوّة لأدركوا أن الإرسال الحثيث المطّرد كل يوم، أشبه بعدم الإرسال، وأنهم بهذا السلوك المبرمج يحجبون رسائلهم من حيث لا يشعرون، ويسدّون منافذ الفائدة والتأثير من حيث يريدون ذلك. (2) لا ينتهي عجبي من هؤلاء الذين يغرزون أنفسهم في عين العاصفة التقنية ويتقلّبون على أمواج البحر الافتراضي برسائل مقولبة، ويحرصون بإلحاح شديد على أن يكون لهم حضور دائم من كل نافذة، ثم لا يكتفون بنوافذهم، بل يمعنون في الحضور برسائل خاصة إلى المشتركين، ليطلًوا عليهم من داخل الألياف البصرية، ومن بين الأسلاك غير المرئية، وحجتهم الفائدة والنفع، رغم أن النفع لا يكون بالطريقة السرمدية، بل ما يحدث هو العكس تماما؛ فالفائدة أبعد ما تكون عن أصحاب الحضور المستمرّ الذي لا ينقطع ولو ساعة من نهار! (3) لهذه الاعتبارات أحرص مع نفسي وأتعاهدها على عدم ترويج بضاعتي بالطريقة الحثيثة التي تطل من كل نافذة، وإنما ألقي ما أقول في سيل التقنية، ألقيه كما هو من نافذتي الخاصة في نهر الحياة، فما نبت نبت وما أورق أورق دون أن أتتبّعه وألحّ عليه، فالإلحاح مفسدة الشعور. (4) ليس المطلوب منك أن ترمي بثقلك على طريق السابلة، وأن تغرس نفسك في كل طريق، وإنما أن تجوّد صناعتك وتعتني برسالتك المعرفية، موضوعية أو ذاتية، ثم تلقي بها في هذا الفضاء الواسع دون حرص أو طلب أثر رجعيّ، فهذه هي الطريق الأنسب والأكثر إيناعا في تربة الزمن المكتظّ بالمعارف وفضاء العالم الجديد. (5) إن المعرفة اليوم تحتاج إلى الغياب أكثر من الحضور، وإلى الحذف أكثر من الذكر، وإلى الانغراس في تربتها ومعادنها أكثر من الحرث في كل مكان من أجل البقاء بلا أثر ولا جدوى؛ ومن عدم الجدوى أن تحيل ما لديك إلى سيل عرم معتقدا أنّه صيبٌ نافعٌ وغيثٌ مبارك؛ فتحرص تبعا لذلك على أن تغمر العالم برسائلك ووسائلك ومعارفك التي هي في النهاية من جنس المتاح المعرفي الذي لا يضيف جديدا ولا يزيد رصيدا.