كتابة الفقد.

أظن أن الكتابة عن الفقد تفضي إلى فقد مضاعف، يجتاز ما يغيب بالنسيان، ويصارع ما يتيه في الذاكرة، يترى الفقد من حولنا، لكننا لا نميزه جيدًا، ولا نتأمل تفاصيله، نستعجل مروره كاستعجال دفن الموتى، الذي يليه دفن ما يثير ذاكرتنا؛ كي تتسع دوائر النسيان، وتتقلص دوائر الذكرى. إن الكتابة عن الفقد استعادة لزمن غائم مر سريعًا، وهي استحضار للحظات مؤلمة عابرة، ولا أظن أن أحدًا يرغب في كتابة قد تحيط بها الآلام، وقد تجللها الغيوم، ومع ذلك فقد يكون في الكتابة موطن الاستشفاء من ذلك كله، ألم تنل فضيلة تشبيه دريدا لها بـ (الفارماكون)؛ تلك الكلمة اليونانية التي تعني الدواء والسم في آن، وربما كانت الكتابة كذلك هي العلاج والمرض في آن واحد، الذي نظن أنه يصنع حزن المضاعفات، ويحدث دهشة المفاجآت. سأبدأ بتناول سؤالين اثنين لا يمكن لمن تأملهما الاجتياز؛ لأننا نقوم بترديدهما في كل حالة موت تباغتنا، باحثين عن إجابة لهما، ومتجاهلين ما يحسب لهما من الوظائف لاسيما إشاعة خبر الموت، وبقدر ما يشعرنا كل سؤال منهما بقربنا من هذا الحدث الجلل، نشعر بحالة من الإنكار الموازي، الذي يبعدنا عن وقعه، أما السؤالان فهما: كيف مات؟ ومتى رأيناه آخر مرة؟ بالسؤال الأول نظل ننكر الحدث مؤقتًا؛ لأن الإنكار يجلل سؤالنا، هو كما يقال في بلاغتنا القديمة (استفهام إنكاري)، ولأننا نتباعد فيه عن وقع الموت، إنه سؤال لا يسمح إلا بإنكار الفقد من جانب، والاستناد إلى الحياة بوصفها القطب الرئيس من جانب آخر. غاب عنا تلاشي قطب الموت السرمدي (الأولي) في لحظة ما قبل التشكل، نتيجة احتفائنا الأولي بنبع الحياة، ولكن، لا سؤال عن كيفية الحياة، التي تسكرنا بملامحها، وتعطرنا بروائحها. أما السؤال الآخر: متى رأيناه آخر مرة؟ فنلقيه على ذواتنا، وننسجه لنؤكد استنادنا إلى الحياة مرة أخرى، وذلك بصنع قربنا؛ من أجل إيجاد ذلك القرب المتمثل في علاقتنا بمن نفقد، وكلا السؤالين تعبير يتوضع حول الفضول، ويستند إلى مركزية الذات، وكأن التعبير المضمر فيه: نحن لا نرحل لكننا نتمثل رحيل الآخرين، كل سبب نظنه قريبًا منا، وكل حديث أو رسالة تصلنا بحالة من الاطمئنان... وبين قطبي القرب والبعد تكمن علاقتنا بمن نفقد من أقاربنا وأصدقائنا ومن حولنا؛ لتقع علينا مسؤولية أن نضع أسئلة الفقد، وأن نبحث عن إجابات كي نحيا بها. في أحد المؤتمرات الصيفية المقامة في جامعة اليرموك، تحديدًا في 22-24 يوليو 2008م التقيت لأول مرة اثنين أصبحا من أفضل الأصدقاء وأقربهم إلي علمًا وروحًا، وهما: د. نجيب العمامي، ود. هاجد الحربي رحمهما الله، بعد انتهاء المؤتمر انقطعت علاقتي معهما، ولم أتوقع أنهما سيكونان في صدارة قائمة أصدقائي بعد ذلك؛ إذ انتقل د. الحربي إلى قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود، وأصبح زميلًا في القسم، وتعاقدت جامعة القصيم مع د. العمامي فجاء من تونس، فتنوعت لقاءاتي به، وكثيرًا ما جمعتني بهما صرامة الندوات والمناقشات العلمية، متوجة بطيب حديثهما ولطف تعاملهما، نختلف بلا تطرف، ونتفق بلا نفاق، ومن عجب أن رُزئت كغيري بفقدهما خلال عام، بوفاة العمامي في فبراير 2024م، وبوفاة الحربي في فبراير 2025م. أظن أن من اللطيف أن أكشف هنا عن بعض الأبعاد التفصيلية التي ربطتني بصديقنا د. هاجد في العمل والسفر وتفاصيل يومية كثيرة؛ إذ أحسب أن علاقتي به كانت شبيهة بشجرة وارفة لها ثلاثة فروع رئيسة: فرع للعلم، وآخر للصداقة، ومثلهما للإدارة، يتمثل الفرع الأول منها في تلك العلاقة العلمية التي جمعتني به، وكانت أبحاثنا ودراساتنا ومناقشاتنا الأكاديمية أوراقًا خضراء لك الفرع، لقد عرفته باحثًا رصينًا، يجمع بين الحفظ والتحليل، ولمداخلاته أثر كبير على إقناع متلقيه، وكان دقيقًا في اختيار مفرداته وضبطها، ومن ذلك أشير إلى أن له رأيه العميق المتصل بالآداب الشعبية، وأهمية دراساتها في القسم، وكان يتطلع إلى كل جديد في العلم والمعرفة، وأذكر أننا كنا قبل سنوات في رحلة سفر، وتحدثنا عن أهمية كتاب “التيجان في ملوك حمير” لوهب بن منبه، فأخبرتهم عن اشتغالي على هذا الكتاب، وأن عملي على وشك الصدور، ففوجئ بذلك، وأخبرنا أنه كان مهتمًا بالكتاب ودرسه. أما فرع الصداقة ففرع وارف تجسد في تلك العلاقة التي قامت منذ أعوام، كان فيها حريصًا على المحافظة على أصدقائه، يجمعهم ولا يفرقهم، ما سأله أحد أصدقائه أمرًا إلا بادر بإجابته، يسبق صدى مرحه ظهوره، ينشر السعادة لمن حوله، كريمًا لا يتوقف عن تقديم الخير والمساعدة لمن يعرف ولمن لا يعرف، أحسب أن عدد أصدقائه كثير، وأن عدد أعدائه قليل، كان متسامحًا مع الجميع، فجمع شتات الناس على محبته، وأظن أن فلسفته في ذلك تعود إلى رغبته في إسعاد الآخرين، لتقوم على الآتي “هذا يقول كلمة طيبة فيؤجر، وذاك يقول كلمة خبيثة فتؤجر”! كان يهوى السفر والبر والرحلات، وكأنه يستزيد بأجوائها من أجل تعويض ما نقص من عمره، اجتمعنا في مدن كثيرة، وقضينا أيامًا جميلة في سفرنا وإقامتنا، وفي كل لقاء يجمعك به تشعر بأهمية حضوره، وتؤمن بقيمة وجوده. وفي فرع الإدارة كان رئيس قسمي منذ سنوات، وكنت قبل ذلك رئيس قسمه منذ سنوات أبعد، كان تفاهمنا مستمرًا، وكان مبادرًا إلى التعامل الحسن بلطف إداري معهود منه، وما اختلفنا في أمر إلا انتهى في حينه، وكان تعامله مع الجميع في درجة واحدة، لا يتقنها سواه، وأحسب أنه ترك انطباعًا حسنًا عند من عرف ومن لم يعرف. كان د. هاجد جامعًا لفضيلتي الكرم والتسامح، وكانت سمة هاتين الخصلتين أنهما مظلتان لعدد من الخصال؛ فالكرم مظلة جلية ومعبّر فعلي عن الثقة بالنفس، ممزوجة بالاكتفاء، ومقرونة بغياب الخشية من فقدان ما يملك، ما يعكس ثقته في نفسه والعالم من حوله. أما التسامح فهو عملية نفسية عميقة، تدعو إلى تجاوز مشاعر الغضب والحقد، وتساعد في تحرير الذات... ذلك قليل من كثير لا يمكن تتبعه على عجالة، ولا ختام سوى بالدعاء للفقيد بالرحمة، وبالصبر وصادق العزاء لأسرته.