
(بين الشاعر و المغني) علاقة وطيدة لا تستوعبها إلا قصيدة عابرة للزمن و هكذا كانت (ثورة الشك) التي غنتها أم كلثوم عام 1962 و لحنها رياض السنباطي في حالة انعتاق و خروج من كل الأمكنة لأنه عاش عزلة حقيقة حتى أنتج لحناً مغايرا، هكذا جاءت محاضرة الناقد البحريني الدكتور علوي الهاشمي عميد كلية الأدب -سابقا- بجامعة البحرين حيث قدَّم عرضا مرئيا في نادي الخَط الثقافي الذي يترأسه الإعلامي فؤاد نصر الله بالقطيف . قام بإدارة الأمسية الشاعر والإعلامي محمد الفوز الذي تحدث عن جوانب ملهمة من شفافية الشعر ورهافة الشاعر التي تتطلب إيقاعا خاصا تتجسد الأغنية فيه كالحلم، وليس مجرد لغة تتشكل حيث طرح مفاهيم عدة من خلال اشتغالات عميقة ومبكرة للدكتور الهاشمي لاسيما بكتابه المعروف “الإيقاع في الشعر العربي” وهو ما يعكس اشتغالاته النقدية التي كتب عن تجارب كثيرة ضمن نطاقها في بحوثه الأكاديمية أو مقالاته الصحافية في الجرائد المحلية والعربية كما عمَّق صلته النقدية بالإيقاع العربي في مجلة ثقافات التي أسسها بوعي معاصر، كذلك أطروحاته الكثيرة في أسرة الأدباء والكتاب البحرينية التي شهدت اهتماما واضحا ولاقت صدى كبيرا للهاشمي . جاءت ورقته امتدادًا لبحوثه في اللسانيات وركز على استعراض القصيدة من الفونيم إلى الصوتيم للصورتيم وهذه مصطلحات في علم الصوت تكرس علاقة الهاشمي بالموسيقى حيث أعرب عن ثقته بالصوت ووثوقه بأم كلثوم كوكب الشرق حينما غنت قصيدة (عواطف حائرة) للأمير عبد الله الفيصل و غيّرت اسمها إلى (ثورة الشك) حتى أصبحت أيقونة الغناء الفصيح الذي بات رائجا و أنيقا مع هذه الحناجر الفخمة التي تستدرج الشعر للغناء و تؤسس له مناخا رفيعا و إحساسا بديعا تماهى مع الذائقة العربية بشكل استثنائي . وقد أشار الهاشمي “لطبيعة النص الغنائية الغالبة على تكوينه اللغوي والفني، وللمسار الذي اتخذته هذه الغنائية الطاغية في تأثيرها على الجانب التفاعلي والتواصلي مع النص حين فتحت دائرته النصية على أكثر من دائرة انداح بعضها من حيز النص الأدبي إلى دائرة الترنّم من خلال قراءته وإلقائه بصورة منغمة متأنية لا تخلو من الموسيقى ذات الطابع الغنائي؛ بل انفتح هذا المسار الغنائي الذي طبع بميسمه النص الشعري على دائرة الفناء العربي الأوسع بمختلف جوانبه الغنائية المتصلة بأداء الأغنية عملياً من خلال تلحين النص وأدائه بالصوت الأعذب والأهم الذي عرفه تاريخ الغناء العربي المعاصر ، وبذلك كان من نصيب هذا النص الغنائي المتميز أن أحاط به وتعاون على إبراز غنائيته ،ونشرها في أسماع الوطن العربي ثلاثة من أكبر القامات العربية المعروفة في كتابة النص الشعري ثم تلحين موسيقاه على مقام الحجاز كار كورد ، ليصدح به صوت تاريخي استقر عميقاً في وجدان الشعب العربي وآذانه المرهفة” . كما حلل القصيدة بأبعاد شتى لغويا ونفسيا وموضوعيا ، وقد تطرق “ إلى ما خضعتْ له قافية النون ورويّها المكسور إلى تحمّل ضغط الذات الشاعرة المضافة إليها ، وهي مجرد فونيم صغير حين أضيف ضمير المتكلم إلى القافية المكسورة وكان ذلك سبباً من أسباب كسر رويّها” و تناول جانبا آخرا في سياق الأساليب اللغوية منها“ التركيب الدائري واضح في تركيب اللغة هنا فالذات الشاعرة تدور على نفسها فهي تشك في نفسها بما يحيلها إلى نفسين لا نفس واحدة وهذه هي الحيرة العاطفية التي عبر عنها الفعل الترجيحي الناقص (أكاد) المكرر في البيت الأول إكمالًا للبنية الدائرية في البيت ولابد هنا من التذكير عما تم ذكره عن مظهرالتصريع في البيت الطالع ،وهو تقليد شعري صميم في القصيدة العربية” . وهكذا امتدّت المحاضرة بين الطرح والأطروحة تارة والعرض والاستعراض تارة أخرى لمدة ساعة ونصف دارت رحى النقد في قصيدة الأمير عبد الله الفيصل بكل أوجاعه المرهفة التي تسربلت في لهفة أم كلثوم التي أسمعت العالم أصداء الحرمان . وفي نهاية الأمسية المكتظة بجمهور نخبوي إلى حدِّ كبير طالبوا الناقد بالالتفات إلى جوانب أكثر اتساعا في القصيدة بدلا من التركيز على حرف النون مثل حرف الشين والميم إلا أنه أصر على قدرة النون على الاستيعاب مع اقتناعه بالتجريب مع حروف أخرى في النص وليس بالضرورة الاعتماد على حرف القافية وإرضاءً لنفسه و للجمهور قدَّم العلوي قصيدة شعرية من أحد دواوينه القديمة . وبدوره شكر الإعلامي فؤاد نصر الله رئيس نادي الخَط الثقافي ضيف الأمسية الدكتور علوي الهاشمي ومدير الجلسة الشاعر محمد الفوز، كما شكر الدكتور فريد البيات لقيامه بالدعم اللوجستي للمحاضر، وكذا قدم الشكر الجزيل للجمهور النخبوي لدعمه المستمر لبرامج وأنشطة النادي التي تسعى للمساهمة الجادة في المشهد الثقافي المحلي لتشكل رافدا معرفيا يتمخض منه الإبداع و يترك أثرا بذاكرة المتلقي . الجدير بالذكر أن نادي الخَط الثقافي تدرج عبر مشواره الإبداعي لاستقطاب كافة المبدعين من أرجاء المملكة و الخليج لتقديم إبداعاتهم إلى جانب نشرها بمجلة إبداع التي تُعد أنموذجا رائعا للصحافة الثقافية الجادة وهي تُعيد مجد المثقف بفترة ستينيات القرن الماضي حيث كانت الأفكار متداولة وليست مجرد حبر على ورق، وهكذا دأب رئيس النادي الإعلامي فؤاد نصر الله على استثمار مسيرته الصحافية في هذا النادي الذي يعتبر ظاهرة مختلفة إضافة لكونه أصبح بوصلة رائعة ومنبرا أروع يجمع كل الفنون والثقافات تحت سقف وطني مُلهم.