حيوية الحضارة الغربية.

لطالما راود البشر شعور بالتشاؤم حيال حاضرهم ومستقبلهم، ورغم مرور العصور، لا يزال هذا التشاؤم يلازمنا، ولكن إعادة صياغة تفكيرنا قد تساعدنا على تقبل عصر القلق الذي نعيشه.بقلم أندرو إيرهاردت، زميل ما بعد الدكتوراة في معهد آكسون جونسون في مركز كيسنجر في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز. إن التهويل هو المحرك لعصرنا الذي يغمره القلق. والأكثر إثارة للقلق هو استخدام الخطاب المبالغ فيه والعاطفي بشكل مفرط في مجالات يجب أن تكون أكثر هدوءًا وعمقًا في النقاش. فقد وصف أحد أبرز المفكرين المؤثرين، المؤرخ تيموثي سنيدر، في صفحات مجلة “الشؤون الخارجية” ما اعتبره خطورة الحرب الروسية الأوكرانية. ويزعم أن بطء استجابة الحكومات الغربية للغزو الروسي “يُظهر مدى قرب الغرب من التنازل عن تقاليد الديمقراطية”. هذا الرأي ليس سببًا بقدر ما هو عَرَض لحالة ذهنية جماعية، ترى التاريخ الحديث على أنه سلسلة من نقاط التحول المصيرية. ويأتي هذا في مقابل شعور عام بأن العالم، ناهيك عن الولايات المتحدة، يدخل - أو ربما دخل بالفعل - فترة من الاضطراب السياسي والثقافي دون مخرج واضح. ورغم مرارة ذلك فإن الوضع لم يكن بهذا السوء من قبل، ونحن نشهد جائحة عالمية وتزايدًا في الاستقطاب السياسي الداخلي، أو نشاهد الفظائع التي يرتكبها الجيش الروسي والصواريخ الكورية الشمالية التي تنتهك المجال الجوي الياباني. ولكن يجدر بنا التوقف وسط هذا الارتباك الفكري، لنسأل: هل هذه الأوقات استثنائية بالفعل من الناحية التاريخية؟ وهل ما يدفعنا إلى القول بهذه التوقعات الكارثية هو الواقع بحد ذاته أم تصورنا له؟ وما الفائدة التي قد تعود علينا من تبني منظور تاريخي محدد لفهم هذه الفترة الحرجة؟. في الكتابات الأدبية والتاريخية، نلاحظ أن هناك أشخاصاً غالبًا ما يظهرون تشاؤمًا تجاه حاضر مجتمعهم ومستقبله. فعندما حاصر القوط الغربيون روما في أواخر أغسطس من عام 410م، سيطر اليأس على مواطني روما بشأن ما آل إليه مصير مدينتهم وإمبراطوريتهم. وكان شعور الانحطاط الجماعي أحد الدوافع وراء كتابة القديس أوغسطينوس لعمله مدينة الله، وهو مؤلف مكون من 22 جزءًا سعى من خلاله إلى إقناع المسيحيين بصدق إيمانهم في زمن الهرج والمرج. وبعد ألف عام، نرى حالات لأوروبيين في منتصف القرن السابع عشر يتسمون بتشاؤم عميق تجاه مجتمعاتهم، حتى بعد العقود المفعمة بالحماسة والتحرر والتفاؤل، والتي نشير إليها اليوم باسم عصر النهضة. ومع اندلاع حرب الثلاثين عامًا في عام 1618، ظهرت العديد من النظريات الدورية للتاريخ، والتي رسمت وتنبأت بصعود وانحدار المجتمعات. وكانت غالبية هذه النظريات جهودًا فكرية بذلها مفكرون بارزون لفهم التحولات السياسية والدينية والفكرية العميقة التي شهدوها من حولهم. وعلى غرار القرون السابقة، شهد القرن التاسع عشر تيارًا من التشاؤم الفكري. فعلى الرغم من التقدم التكنولوجي الذي أحدث تحولات جذرية في مجالات العلم والصناعة ووسائل الاتصال، برزت كتابات تعبر عن قلق عميق بشأن مسار المجتمعات والأمم. كتب الشاعر الفرنسي شارل بودلير عام 1851: “العالم يقترب من نهايته”. وبالمثل، ظهرت توقعات قاتمة من عمالقة الأدب الآخرين، مثل الروسي فيودور دوستويفسكي والألماني توماس مان. أما الأخير، فقد أصدر روايته الأولى آل بودنبروك في عام 1901، والتي قال عنها لاحقًا إنه كتبها بهدف تتبع “ سيكولوجية القوة الحياتية المستنفدة وتجسيد الرقي الروحي والإلهام الجمالي الذي يصاحب التدهور البيولوجي”. هناك أمثلة لا تُحصى على هذا النوع من الكتابة في الأوساط السياسية والأكاديمية أيضًا. ففي كتاب والتر ليبمان الشهير الانجراف والسيطرة، الذي كتبه عام 1914 وهو في الرابعة والعشرين من عمره فقط، تضمن تحذيرات من تراجع وشيك ومقترحات للتعامل مع الواقع الجديد للصناعة والتكنولوجيا. وكانت “أزمة الحداثة” عبارة مألوفة لدى بعض فلاسفة القرن العشرين العظام، من بينهم مارتن هايدغر، وهايدغر آرنت، وليو ستراوس. وقد وصف كل كاتب، من منظور مختلف ولأسباب مختلفة، ما اعتبره الانحطاط الأخلاقي والروحي للمجتمع الغربي. وقد لاحظ الفيلسوف واللاهوتي الألماني المحافظ كارل لوويث ميلًا غريبًا أثناء محاولته فهم عصره. فقال: “الناس دائمًا يبحثون عن أوقات أفضل، إما بانتظارها من المستقبل أو بإسقاطها على الماضي، لأنهم يعانون من شرور الحاضر.” أما الإنجليزي ليونارد وولف، أحد أعضاء حركة الفابيين، فقد عبّر عن رؤيته للعملية التاريخية بطريقة أكثر وضوحًا، فقد كتب عام 1916 عن: “النظرة التاريخية الخاطئة التي يتبناها الناس دائمًا تجاه الحاضر. فمن المستحيل تقريبًا ألا نعتقد أن كل يوم هو نهاية العالم. يبدو عصرنا القصير دائمًا أنه في تاريخ العالم ذروة للتقدم أو الانحلال. ولكن في التاريخ، لا توجد ذروات ولا كوارث حقيقية؛ بل يوجد فقط تيار ضعيف للتقدم، يتراجع أحيانًا إلى جانب ثم إلى آخر، ولكنه دائمًا ما يتقدم قليلاً في اتجاه واحد.” ولكن، باستثناء هذه الفلسفات التاريخية وغيرها، قد نسأل سؤالاً أكثر عمومية: هل يشكل الاعتقاد من وقت لآخر، وبأشكال ودرجات متفاوتة، بأن مجتمعنا في أزمة جزءاً من كوننا حداثيين ـ أو من وجودنا في الحاضر. وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا التصور الذي يبدو أنه لا مفر منه مفيد أم ضار للمجتمع نفسه؟ إذا كانت النظرة التي ترى المجتمع في أزمة جزءًا من خصائص الحياة في الزمن الراهن، فقد يبدو ذلك متناقضًا. ومع ذلك، إذا ظل هذا التصور معتدلًا ولم يتسم بالطابع الكارثي المفرط، فإنه يمكن أن يوفر حافزًا صحيًا يدفع نحو التفكير والتحليل. غير أن تحقيق ذلك يتطلب إعادة صياغة لطريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى المجتمع ومسار التاريخ. من خلال هذا المنظور، يمكننا استكشاف نافذة تسهم في فهم وضعنا الراهن، وربما إيجاد مخرج منه، وذلك عبر دراسة أفكار ثلاثة مؤرخين أوروبيين من القرن العشرين: أرنولد توينبي، وبيتر خيل، وبنديكتو كروتشه. ورغم اختلاف جنسياتهم، ورؤاهم، واهتماماتهم الفكرية، فإن كلًّا منهم يقدم منظورًا فريدًا يسهم في تشكيل التفكير المعاصر حول السياسة والثقافة في العالم الغربي. أولاً، كان لكل منهم رؤية للحضارة بوصفها إطارًا مرجعيًا مفيدًا لقياس التقدم والتطور في التاريخ الدولي. فقد قال توينبي في خطاب ألقاه في جامعة أوكسفورد عام 1920: “ الحضارات هي أعظم وأندر إنجازات المجتمع البشري.” وخلال العقود الثلاثة التالية، أصبح توينبي رائد دراسات الحضارات في القرن العشرين، حيث نشر 12 مجلدًا تتناول صعود وانهيار 21 حضارة مختلفة، وظهر حتى على غلاف مجلة تايم في عام 1947. وعلى الرغم من وجود العديد من الانتقادات لحججه، والتي وُجهت إليه منذ ظهور المجلدات الأولى في عام 1934، إلا أنه لا يزال اتساع معارفه وتعمقه في التحليل الإبداعي للظواهر المعقدة يفضيان إلى تقديم رؤى مثيرة ومحفزة. ولقد كان أحد هذه الأفكار هو فكرته عن “التحدي والاستجابة”، والتي أصبحت العامل الأساسي في نشوء الحضارات وتطورها، وبالتالي فهي مسؤولة عن حركة التاريخ. فقد كتب توينبي: “إن المجتمع يواجه في مجرى حياته سلسلة من المشاكل... وبالتالي فإن كل مشكلة تظهر أمام المجتمع هي بمثابة اختبار لقدرته على التكيف والتطور” ويرى أن معظم هذه التحديات داخلية، على الرغم من أنه أعطى أيضًا أهمية للتحديات التي تأتي من الخارج، مثل الغزو العسكري أو الكوارث الطبيعية. الأهم من ذلك هو السؤال حول ما إذا كان الأفراد على استعداد وقدرة على الاستجابة بشكل إبداعي لهذه التحديات. لم يسلم توينبي من النقد في هذا الجانب. فقد اعتبر فيرنان بروديل أن فكرة التحدي والاستجابة تعد “ منطقية”، حتى عند الأخذ في الاعتبار عدد التحديات التي لم يتم التعامل معها عبر التاريخ. بينما رأى آخرون أن فكرة توينبي تعد “تجسيماً” كما كتب هيو كيرني: “قد يكون التحدي والاستجابة أمرًا صالحًا في حياة كل فرد، ولكن تطبيقهما على حياة مجتمع أو مؤسسة يشكل تبسيطًا مفرطًا”. كان المؤرخ الهولندي بيتر خيل من بين أبرز منتقدي توينبي. ورغم أنه اعتبر رؤية توينبي الشاملة للتاريخ مفرطة في التبسيط، فإنه لم ينكر أهمية فكرة استجابة الحضارات للتحديات باعتبارها محركًا رئيسيًا للتاريخ. في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وهي فترة يعتبرها الكثيرون في الغرب اليوم ذروة قصة النجاح التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تناول بيتر موضوعًا متزايد الأهمية داخل العواصم الأوروبية: غياب الهدف وتراجع الطاقة داخل المجتمعات الغربية. وقد عبّر عن هذا التحدي بقوله: “المشكلة الكبرى في عصرنا هي إنقاذ الحضارة الغربية.” ولكن في حين حذر عدد من المثقفين المشهورين في تلك الفترة، بما في ذلك توينبي وزميله البريطاني جيفري باراكلو، من مستقبل مظلم للعالم الغربي، كان بيتر أكثر تفاؤلاً. فقد شدد، في حديثه إلى طلاب جامعة أوترخت، على أهمية ما أسماها “حيوية الحضارة الغربية” باعتبارها عاملًا ضروريًا لمواجهة هذه الأجواء المشبعة بالتشاؤم. وهنا يؤكد بيتر على ما اعتبره أهم سمة من سمات الثقافة الغربية، ألا وهي مُثُل الحرية. وكان هذا الرأي يجعله قريباً من فكر أحد أعظم المفكرين في القرن العشرين، وإن كان قد تم تجاهله مؤخرًا، وهو الإيطالي بنديتو كروتشه. مثل توينبي وبيتر، كان كروتشه مدركًا لتقاليد وتجارب الحضارة الغربية، بما في ذلك نجاحاتها وكوارثها، وتأملاتها الواعية وتجديداتها الملهمة. كتب كروتشه في عام 1925: “ إن التاريخ البشري هو سجل كفاح الإنسان المستمر للتكيف مع الظروف المتغيرة، وبالتالي تعديل تلك الظروف لتناسب طموحاته، مما يتيح له استغلالها على أكمل وجه وعيش حياة كريمة”. في عام 1932، كتب كروتشه في مجلة الشؤون الخارجية، مشيرًا، على غرار ما يفعله تيموثي سنايدر اليوم، إلى ما بدا وكأنه إدراك جماعي لتراجع الحضارة. فبالنسبة لكروتشه، شكلت الشيوعية تحديًا كبيرًا لليبرالية بشكل عام، وقد أدت إلى ظهور” موجة جديدة من التشاؤم والانحطاط... هذه المرة تُنذر بتراجع الحضارة الغربية واندثار الجنس البشري بأكلمه “. ومع ذلك، ظل كروتشه متفائلًا، شريطة أن يظل الأفراد والمجتمعات ــ أو الحضارات ــ على وعي بتطورهم التاريخي، والأهم من ذلك، مسار مفهوم الحرية فيها: “ ليس “تاريخ المستقبل” (كما اعتاد المفكرون القدامى على تعريف النبوة)، بل تاريخ الماضي الذي يلخص في الحاضر، هو ما نحتاج إليه لعملنا، ولأفعالنا. وما نحتاج إليه أكثر في الوقت الحالي هو دراسة، أو على الأقل مراجعة، تلك المثل العليا التي تحظى بقبول واسع اليوم. يجب أن نكتشف ما إذا كانت تحتوي على القوة اللازمة لتفكيك أو تجاوز أو تصحيح المثل العليا التي نتمسك بها نحن؛ “حتى يتسنى لنا بعد ذلك تغيير أو تعديل مُثُلنا، وفي كل الأحوال إعادة بنائها على أسس أكثر متانة وقوة.” وكما هو الحال دائمًا بالنسبة لكروتشه — وكذلك لتوينبي وبيتر خيل — كان فهم التاريخ والوعي به، خصوصًا فيما يتعلق بالمُثُل الأساسية داخل الحضارة، أمرًا لا غنى عنه لاتخاذ القرارات للحاضر وللتأثير على المستقبل. ولكن، إلى أين وصلنا في وقتنا الحاضر؟ كبداية، قد نتساءل عمّا إذا كان لمصطلح “الحضارة” أي معنى حقيقي بعد الآن. فقد تم تشويه مفهوم “الحضارة” الحديث في الشؤون الدولية بسبب قراءات، بعضها دقيق والكثير منها غير ذلك، ومنها أعمال صامويل هنتنغتون في منتصف التسعينيات، التي كانت خاطئة وغير دقيقة، والتي كانت سببًا في تشويه فكرة الحضارات. لكن بأي معنى تم استخدام مفهوم الحضارة؟ فقد حاولت كيرون سكينر، الرئيسة السابقة لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، أن تسلط الضوء عليه في ربيع عام 2019، حيث أكدت على أهمية استخدام مصطلح “الحضارة” بحذر، لأنه قد يثير الشكوك حول الانقسامات العرقية والدينية والإثنية، بل وأسوأ من ذلك، التفوق. لكن، هل ينبغي لنا نحن المعاصرون أن ننظر إلى مصطلح “الحضارة” على أنه فارغ أو يحمل دلالات متحيزة؟ أم أن بعض العلماء الذين كانوا من دعاة الوحدة الحضارية، من أمثال توينبي وبروديل إلى مارغريت ميد وروبرت كوكس، كانوا مضللين تمامًا؟ ولكن، لا يُساعد أن المصطلح له أصوله الحديثة في بعض تيارات الفكر الغربي في القرن الثامن عشر؛ وتحديدًا كلمة “المدنية” والفعل “التحضر”. وذلك لأن هذه المصطلحات الجدلية كانت تُستخدم في كثير من الأحيان للتمييز بين المجتمع الغربي والثقافات الأخرى، وشملت مفاهيم مثل “الوحشية” و”البربرية”. هذا الفهم اعتبر الحضارة حالة عملية “تطورية”، وليست تصنيفًا ثابتًا. ظل هذا المفهوم مستخدمًا حتى القرن التاسع عشر، كما كان هناك أيضًا نسخة أكثر فردانية: تطور الإنسانية. فقد كتب جورج هاريس في عام 1861: “إن سبب الحضارة ليس قضية أي بلد واحد، بل البشرية جمعاء”. ولكن في القرن العشرين، ويرجع ذلك جزئيًا إلى مؤلفات أوسوالد سبينجلر وتوينبي، بدأ استخدام المصطلح أكثر لوصف المجتمعات الكبيرة والمتمايزة التي نمت على مر الزمن. وفي عام 1968، قدمت الأنثروبولوجية مارغريت ميد وصفًا مشابهًا، حيث قالت: “الحضارة ... ليست مجرد كلمة للإشادة، كما يقال ‘إنه غير متحضر،’ لكنها وصف تقني لنوع معين من النظام الاجتماعي الذي يُمَكّن نوعًا معينًا من الثقافة من الظهور.” ورغم ذلك، لم يقبل الجميع هذا الرأي. فقد كتب الفيلسوف الفرنسي ريموند آرون في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية أن هذه الفئة أصبحت تتلاشى تدريجياً. وقال: “نكتشف محدودية صلاحية مفهوم الحضارة وضرورة تجاوز ذلك المفهوم.” فقد أصبح العالم من حوله، دون شك، أكثر تداخلاً وتكاملاً، وهي حقيقة زادت بمرور الوقت وتمثل في العولمة، وهي مفهوم تم الإشادة به وتوجيه الانتقادات له في العقد الأخير، والذي يؤكد على هذه الحقيقة. أليس من الأفضل، كما أشار آرون بشكل خفي، الحديث عن “الإنسانية” أو “الحضارة الإنسانية” بدلاً من ذلك؟ لقد كان لبروديل، الذي عاصر آرون، رأي آخر بأن هناك مفهومًا أقدم للحضارة، مع اعترافه بطبيعته الغامضة. وكتب في عام 1994: “لا يتفق شخصان على كيفية التمييز بين الحضارات. ويختلف التمييز من بلد إلى آخر، وداخل البلد الواحد من فترة إلى أخرى، ومن مؤلف إلى آخر”. ولجعل الأمر أكثر إرباكاً، قد تتألف مثل هذه الوحدات، مثل الحضارة الغربية، من عدد من الحضارات الأصغر، بما في ذلك الحضارة المكسيكية، والبولندية، والفرنسية، والأميركية. وعليه فالمفهوم سائل، ومع ذلك، هناك شيء يجب قوله عن قدرته على التقاط الخصائص الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية الأكبر للمجتمعات عبر التاريخ. إنه مفهوم مربك وملهم في الوقت نفسه، ومحبط للعقل الميكانيكي، ولكنه محفز لطرق تفكير أكثر تاريخية وفلسفية وفنية. كما كتب روبرت كوكس: “الحضارة هي شيء نحمله في رؤوسنا والذي يوجه فهمنا للعالم، وهذا الفهم يختلف من شعب إلى آخر.” هذا المفهوم قد يكون، في عصرنا الحالي الذي يبعث على القلق، وسيلة لإعادة تشكيل تصورنا الذهني. فليس فقط أن وحدة التحليل الحضارية مفيدة، بل قد تساعدنا أيضاً في تعديل توقعاتنا، وتغيير رؤيتنا للأزمات على أنها القاعدة وليست الاستثناء، وهو ما ينبغي التغلب عليه بتواضع مستوحى من التاريخ وليس بالاستسلام الكارثي. وعند الحديث عن الحضارة الغربية، على سبيل المثال، فإننا لا ندعي التميّز أو الصواب أو التقدم، بل التمايز الثقافي، الذي هو نفسه في حالة تغير مستمر في أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية المتنوعة والمتعددة الطبقات. لأن مثل هذا التغيير هو أمر جوهري في الحضارات، فإن هذا المفهوم لا يمكن فهمه بدون إدراك تاريخي. إن مثل هذا المنظور يربطنا بالتجارب التاريخية السابقة، بما في ذلك جوانبها الإيجابية والسلبية، مع حث الأفراد والجماعات للتأمل في هذه التجارب أثناء تقدمهم. وفي هذا الإطار، قد نستعير حجج جيل وكروتشه، لنرى في المفهوم التاريخي للحرية مثالاً حياً يحتاج إلى التكيف والتعديل في مواجهة التغيرات الواقعية. وهذا يشكل تحدياً داخلياً وخارجياً للحضارة الغربية. ولابد وأن يصاغ المفهوم الحديث للحرية في مواجهة المتعصبين، الذين يدافعون، على سبيل المثال، عن القومية المسيحية على الساحة الأمريكية والأوروبية، بقدر ما هو ضد القوى الاستبدادية الخارجية. إن مثل هذا النشاط الجماعي العميق قد يكون شاقاً، ولكن في هذه العملية، قد نجد الراحة في الشعور بالانتماء، كما هو الحال بالنسبة لنا، إلى تيار طويل ومعقد من التاريخ البشري، حيث إن التحديات التي تواجه بعض الحضارات لا تستدعي الاستسلام واليأس، بل التأمل والتنظيم والعمل. * باحث في العلوم السياسية.