ننجرف غالبيّتنا في عصر الحداثة التي تعدّ السرعة أبرز سماته؛ إلى عناوين المنشورات التي تقترح علينا استهلال عادة جديدة في خطوتين! وتقدّم لنا مادة تعليمية ضمن ١٠ تغريدات، ومعرفة خصبة كنا نتوق للعيش في غمارها هاهي أصبحت متوفرة في فيديو مرئي لا يزيد عن ثلاث دقائق! سأتناول المشهد في كلماتي القليلة هذه من بُعد وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولا أعدك -عزيزي القارئ- أن يكن حديثي مفيدًا ولكن ربما سيستدعي لديك التفكير في سلوك نمارسه اليوم دون إدراك، يبدأ الأمر من تصفّح روتيني تواكب فيه متغيرات العالم، ثم يحدث أن يخطف انتباهك منشور ثمين! تستدل على قيمته من الوعد المباشر الذي يملأ فجوة ما لديك، مُعضلة يمتد أثرها على ملامح أيامك، حاجة تمنعك عدم تلبيتها من إكمال المسير، لكن هاهو المنشور كنزك ونجاتك، يقول لك بصراحة أنك ومن خلال هذه الخطوات المعدودة التي سنخبرك بها، سيصمت ألمك وإلى الأبد؛ ثم سنحضّك على حل مشكلة أخرى أيضًا ! بذات عدد الخطوات أو أقل، ولن نكتفي بحل المشاكل بل سننتقل منها إلى تطويرك، بثلاث خطوات أو سبعة فقط، تستغرق من وقتك دقيقة قراءة، وأسبوع تطبيق، ولن نتوقف هنا، بل سنشاركك كل يوم خطوات لمعارف جديدة، ولأن التقنية تنمّي حداثتك، أتاحت لك أيضًا مزايا حفظ المنشورات وبهذا لن تخاف فوات المعارف! هناك العلامات المرجعية، وصناديق الرسائل، وأقسام التفضيلات، ستتمكن من العودة دائمًا لما تريد، ما رأيك ؟ يبدو السياق مُغريًا وحلًّا فعليًّا عالج صعوبة الوصول إلى المعلومات، وأتاحها بشكل يواكب خواصّنا النفسية المتغيرة بفعل هذا العصر السريع ؛ ثمّ إني لا أستطيع أن أتحيّز بشكل كلّي ضدّ هذا الواقع فلديّ ما يُدينني على صفحاتي الاجتماعية، في المنشورات التسويقية ووِفقًا لسيكولوجية المستهلك، لن يُقبل المحتوى المرسل إن لم يكن واضحًا مختصرًا وحين تضيف وعد استهلالي وعدد خطوات سيزيد هذا من نسبة إقبال جمهورك لعلامتك، أقبل بهذا، فمن يحتمل أن يصرف تركيزه على وصف منتج أو تفكيك رسالة أو محاولة فهم الحيلة الإبداعية، ولكن؛ ما يثير قلقي هو أن يمتد نقص الانتباه إلى مواطن أخرى، حين تُعلّب المعرفة التي لا ينبغي أن نتناولها على عجل، وتصبح متسلسلة في خطوات محددة وكلمات محصورة، ثم حين تطبقها بهذه الطريقة ولا تجد نتيجة ستعتقد أن الخطأ نابع منك، وستتوجه بالملامة والتشكيك لنفسك يخبرنا العلم أن الدماغ و «على الرغم من قدراته الهائلة، لا يزال بحاجة إلى وقت لاستيعاب المواد التعليمية، ومعالجة هذه المعلومات، وتوحيد كل ما استهلكته، وبناء مسارات عصبية للمفاهيم الأخرى ذات الصلة» بالتأكيد أنت تملك هذه البدهية، لكنّك مازلت متأثرًا من هوْل ما تتعرض إليه خلال اليوم من معارف معلبة في شتى الحقول، والتي أغرتك بالتهامها، مُغيبة عنك عنصر التجربة وفضيلة الخطأ، المعرفة التي تحتاج زمن أطول بكثير من هذه الوعود الفارغة، والتي لا يمكن اختزالها في محتوى فقير لا يعطيك إلا قشرة ستتناهى في تزامن دقيق مع انتهاءك من التعرّض، فحين تريد أن تُشفى من الاكتئاب لن يتم هذا بخمس تغريدات، وحين تريد أن تصقل مهارتك في تحسين محركات البحث لن يكون ممكنًا بمجرد خطوتين، والأفق الذي ترنو له حين تؤصل معرفة قديمة لن يحدث بأربعة أسطر، والنور الجديد الذي انبثق من معرفة جديدة لن يكتسيك فورًا ! لا يوجد فورًا هنا، ولا حتمًا، بل رحلة طويلة تتناسب منطقيًا مع أصل العلّة، رحلة ومحطات متعددة، تلتقط فيها أنفاسك، تفهم بها ما تناولته، تناقشه، تكرره، تصبر من أجله، تجتهد، ولا تعجل على قطف ثمره، تقبل بفكرة أن التحسين عملية تراكمية ليست ذات أثر فوري، وتطمئن في نهاية المطاف أن هذه المعرفة باقية، وأكيدة، ليست خاوية، بل مُستحقة لكل ما بذلته من أجلها، حينها ستعرف معنى النّور .