سطوة الفساد لا تدوم!

الفساد في معاجم اللغة مأخوذ من “فَسَدَ”، وهو ضد “صَلُحَ”. و”الفساد” لغةً يعني البطلان، فيُقال: “فسد الشيء” أي أصبح باطلًا وبعيدًا عن الحق والصلاح المنشود. أما في معجم أكسفورد، فيُعرَّف الفساد بأنه “انحراف وتدمير للنزاهة في أداء الوظائف العامة”. وللفساد أنواع عدة، لكنها جميعًا تشترك في أصل واحد: الفساد الأخلاقي. فعندما يبلغ الفساد الأخلاقي مداه في حياة الإنسان، يصبح كل نوع آخر من الفساد أسهل وأقل تعقيدًا، نتيجة موت الضمير، الذي هو بمثابة الميزان الحقيقي للعقل والروح. الضمير، إن كان يقظًا، يدفع الإنسان نحو الخير ويردعه عن الشر. أما إذا غاب، تتوالى المفسدات في النفس، وتتجه نحو الانحراف في التعامل مع الحياة، والناس، والممتلكات العامة والخاصة. وفي هذه الحالة، تنفتح شهية الفاسد بلا حدود، تمامًا كشهوة النار التي مهما ألقيت فيها، قالت: “هل من مزيد؟”. وللفساد أبعاد مجتمعية واقتصادية وسياسية واضحة. فعلى المستوى المجتمعي، يُضعف الفساد الثقة بين الأفراد والمؤسسات، ويُحطم أواصر العدالة، مما يؤدي إلى خلق بيئة من الظلم والتهميش. أما سياسيًا، فإن الفساد يُعيق تقدم الدول ويُدمر قيم النزاهة في إدارة شؤون الحكم. اقتصاديًا، يُثقل كاهل الدول بالديون، ويُضعف البنية التحتية بسبب سوء إدارة الموارد وسرقتها. لذلك، فإن أثر الفساد لا يقتصر على الفرد الفاسد فقط، بل يمتد ليطال المجتمع بأسره. وينعكس الفساد الأخلاقي في عدة صور، منها الفساد الإداري الذي يُظهر نفسه في المحسوبية والرشوة وتجاهل الكفاءات، والفساد المالي الذي يتمثل في سرقة الأموال العامة وغسيل الأموال، وكذلك الفساد السياسي الذي يهدف إلى تزييف إرادة الشعوب وخيانة مصالحها. ورغم اختلاف الأشكال، فإن جميعها يؤدي إلى تدمير المجتمعات على المدى الطويل، لكن مهما تمادى الفساد وطال مداه، فإن نور الحق يظل أقوى وأبقى، مصداقًا لقوله تعالى: “إن الله لا يصلح عمل المفسدين”. فالله عز وجل لا يتعامل بردود الأفعال كما يفعل البشر، بل يمهل ولا يهمل، خصوصًا فيما يتعلق بالفساد الذي يطال حقوق الآخرين، سواء كان ذلك وطنًا أو أفرادًا. وفي واقعنا المعاصر، رأينا العديد من الأمثلة التي أثبتت أن سطوة الفساد، مهما كانت قوية، لا تدوم. فكم من أنظمة ودول قامت على الفساد واستنزاف الشعوب، لكن مصيرها كان الزوال، لأن الشعوب لا تنسى، ولأن الفساد بذاته يحمل عوامل فنائه، ومحاربة الفساد ليست مهمة الحُكّام أو المؤسسات وحدهم، بل هي مسؤولية كل فرد في المجتمع. تبدأ المواجهة من غرس القيم الأخلاقية في النفوس، وتعزيز مفهوم الأمانة منذ الطفولة. كما أن دور المؤسسات التعليمية والإعلام لا يقل أهمية عن دور القانون في بناء وعي مجتمعي يُدين الفساد ويُشجع على النزاهة. كم من مفسدين عاثوا في الأرض فسادًا، فطوتهم الأيام وتعاقبت عليهم العصور، ولم يسجل التاريخ نجاحًا واحدًا يرفع من قيمة الفساد أو المفسدين. على العكس، جاءت قصصهم في القرآن الكريم عبرةً وتأكيدًا على أن حقوق الغير في الإسلام محترمة ومصونة، كما هي في الإنسانية جمعاء، أما المعاصي الفردية بين الإنسان وربه، فحكمها عند الله وحده؛ إن شاء عذّب، وإن شاء غفر، والله غفور رحيم. لكن الفساد المتعلق بسلب الحقوق لا يُغفر إلا إذا رُدت الحقوق إلى أصحابها أولًا، ثم تبع ذلك التوبة الصادقة. حينها، يبقى أمر قبول التوبة بيد الله عز وجل، وهو القائل: “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين”. إذن، الفساد ليس مجرد مشكلة فردية، بل قضية مجتمعية تمس الجميع. ومع ذلك، فإن وعد الله وقوانين التاريخ تظل شاهدةً على أن الفساد مهما طال أمده، فهو إلى زوال، وأن الخير هو ما يبقى في النهاية.