يكفينا شرف المحاولة.
قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وقال أيضاً: ( ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وقال: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) صدق الله العظيم. الفن جمال، هواية وعمل، فماذا لو فسرناه ضمن نطاق الآيات الثلاث السابقة وباختصار؟ حث الله الإنسان على السعي دوماً للحصول على مبتغاه، وهداه إلى العمل الذي هو لقمة عيشه في الدنيا وثوابه وعقابه يوم المصير. والعمل مهما كان نوعه أو مستواه أو مكانته فهو وسام على رأس صاحبه ما دام الشرف تاجه. منذ الصغر يسعى آباؤنا إلى تعليمنا وتدريبنا والعلو بنا إلى أعلى المراكز والمناصب، ولكن ليس كل ما ندرسه ونتعلمه نشتغل به والعكس صحيح، فمنا من درس واتجه في عمله إلى مجاله، ومنا من درس شيئاً وعمل شيئاً آخر وهكذا الدنيا تسير. الظروف قد تحكم الإنسان لكنها لا تسيره مجبوراً نصب عينيها تماما، فمن فاته ما درس دون عمل قدر إن أراد أن يحوله إلى هواية أو حرفة يزاولها كنشاط ترفيه وقت الفراغ أو عمل إضافي وحر في وقت آخر، وبالتالي يكون قد لبى جزءاً من رغباته وحد من شوقه إلى ما يحبه ولو بالقليل. ثم نأتي إلى منافع ومضار ما عمل، فإن كان نافعاً أجر عليه، وإن كان ضاراً فادحاً أثم عليه، وبالتالي فكل ما تصنعه يدانا دنيا ودين له أجره عاجلاً أو أجلاً لا مفر. والثالثة تفسر أن ما قد يكرهه الإنسان يكون هو ما ينتظره دون أن يعلم. يرسم الفنان لوحة تلو لوحة، والبعض يرسم اللوحة على مر سنين، والبعض الآخر يتفاوت في الإنتاج وفقاً لمحيطه، وكل لوحة لها مراحل في التنفيذ سواء كانت فكرة أو حلم أو طيف يبدأ الفنان في البحث عن أدواته وأعدادها وتجهيزها، ثم يأتي وقت التنفيذ والطرح، من ثم التأكيد وإعادة التجسيد، ثم مرحلة النهاية وهذا قد يعني الرضا وقد لا، وهنا يحار الفنان؟! فحين يشارف الفنان على إنهاء لوحته واصلاً إلى النهاية يظل الكثير من الفنانين يتأملون في حيرة وقد يخجلون من إطلاع الجمهور عليها، فالفنان قد لا يستطيع التكهن برضا الجمهور أو سخطه على العمل، إلا أنه في حال تشجعه لإبرازها والحصول على ما يثلج الصدر من ردود فعل وانفعالات يسعد كثيراً ويتجه إلى إنتاج الجديد بثقة أكبر. وقد يكون ما يعجب الفنان لا يعجب الجمهور والعكس صحيح، فقد تكون ثقة الفنان بعمله غير كبيرة ووقت عرضه يتهافت الحضور على إبداعه فيتساءل هل ما رآه صحيح وهكذا؟ يتحمس الفنان أحياناً إلى عمل ما ويندفع نحوه بشدة ويعمل مكرساً كل مجهوداته تجاهه إلا أن ثورة حماسه تخمد فجأة وتتغير المدلولات التي كان يحملها تجاه اللوحة والعكس صحيح، فقد يكون واضعاً ما بداخله على اللوحة وهو غير مقتنع بما يفعل ويتركها ويبتعد لساعات وأيام وعندما يعود إليها تشده بقوة جارفة وهكذا. فالحكم على لوحة لا يتطلب وقتاً معيناً وليس مقصوراً على وقت الانتهاء منها. فالنهاية قد تكون لحظة أخيرة لها وقتها بين الفنان واللوحة، ولكن البعد عنها يجعل الإنسان ينظر لها من زوايا أخرى لم يكن ملتفتاً إليها وقت التنفيذ أو قد يكون تجاهلها تجاهلاً غير مقصود لغيبته في أجزاء منها دون وعي بذلك، وهنا توضع الرتوش الأخيرة التي تقوي اللوحة وتؤكد مدلولاتها. فالحكم يتطلب التأني والتروي ليكون صادقاً خارجاً من نفس غير متعصبة أو متأثرة بأمر ما ليرضي كل الأطراف، وبالتالي فالممارسة تحد الفنان للمحاولة تلو الأخرى والتنقل من الضعف للقوة وصولاً للرسوخ، ومهما كانت النتائج يكفي أناملنا شرف المحاولة. ومما سمعنا عن فنانينا القدماء أن تيتيان كان عادلاً منصفا في تقدير فنه، فإذا ما انتهى من رسم لوحة نحاها جانباً، حتى إذا ما هبطت نوبة حماسه الأولى نحوها أمكنه أن يصدر عليها حكمه دون تحيز. * فنانة تشكيلية