ملاحظات روائية.
تقف الرواية الجيّدة على عناصر تبهر القارئ منذ صفحاتِها الأولى، ومع تقليب الصفحات تجذبه إليها أكثر وتبني مع مخيّلته علاقة وثيقة، فيستمتع مع القراءة وهو يمضي في رحابة عالَم الرواية، يعيد قراءة بعض الجُمَل، بعض الصفحات، بعض الفصول. يرى القارئ مهارة الروائي في كتابة روايته والتحكّم بزمامها بشكلٍ جيِّد، يختار الأسماء التي تتناسب مع أفعال شخصيّاته، ينتقي لها الثياب المنسجمة مع طبيعة هذه الشخصيات التي تكون متنوّعة تنوّع عناصِر الحياة: هذا شخصٌ أنفه شديد الاحمرار، وذاك شعره منفوش، وتلك وجهها مُحتَقن، وتلك في ذاك الموقف تتحدَّث بريق جافٍّ، ويأتي هذا إلى قامة الشخصية بين الطول والتوسط والقِصَر. الزمن الزمن من العناصر المهمَّة في بُنية الرواية، فينتقل القارئ بجماليّةٍ مِن زمنٍ إلى آخر، ويكون ذلك من خلال إظهار ما يتمتَّع به كل فصل مِن فصول السنة مِن خصائِص وأجواء وطقس. ويكون الروائي متحكّماً بالزمن فيديره بمهارة ودقّة، وهذا من شأنه أن يشدّ القارئ أكثر إلى الانسجام مع القراءة والتغلغل في أجوائِها. الدهشة يكتشف القارئ بأن الروائي لا يقبل أن تكون روايته باردة، هشّة، ركيكة، وعظية، مكرَّرة، تقريرية، فجَّة، مملَّة، ويعتبر بأنَّه يُهان عندما يرمي قارئٌ روايته بضجرٍ ويكفّ عَن قراءتها وهو ما يزال في الصفحات العشر الأولى منها، أو ربعها، أو حتى نصفها، فلابدّ مِن إدهاش القارئ بموقفٍ ما، بتقنيةٍ فنيةٍ ما، بعبارةٍ مؤثّرةٍ ما، بحيث تهزّه وهو يقرأ، فيتوقَّف ويُعيد قراءتها، ويضع خطوطاً تحت الجُمَل المُلفتة التي أثارت انتباهه بقوّة. لذلك ثمّة روايات لا يُشبَع مِن قراءتها، ويمكن لك أن تقرأها خمسين مرة بدون أيّ تردّد وكل مرّة تكشف لك ما لم تكشفه المرة التي سبقتها. بل وكل مرة تستمع بقراءتها كما لو أنّك تستمتع بقراءتها للمرة الأولى. ويحدث هذا كمثال مع روايات فرانز كافكا، وجوزيه ساراماغو. مرادفات اللغة الاستخدام الدقيق لمُرادفات اللغة يُساهِم كثيراً في إدخال القارئ إلى أجواء الرواية، ويُحقّق له مُتعةً وهو يقرأ، ونظير ذلك فإن سوء استخدام هذه المُرادفات، أو تكرار الكلمة دون استخدام المُرادفات، يبثّ إليه شعوراً بالمَلل. وعلى سبيل المثال عندما يتم تناول الطعام على المائدة، فلا يجوز أن تذكر (الطاولة)، ففي هذه الحالة تكون (المائدة)، وعندما يجلس الشخص ليعمل على الحاسوب، تكون الطاولة، ولا يجوز تكرار ذات الكلمة لأن الاستخدام اختلف والموضع اختلف من المطبخ إلى المكتب. وقس هذا على سائِر مرادفات الكلمات، تجنّباً لتكرار الكلمة التي لا تكون في مواضعها على الأغلب. فهذا الشخص في موقفٍ ما: ينظر، وفي موقفٍ آخر: يُحدّق، وفي موقف آخر: يحدج، وفي موقفٍ آخر: يرمق، وفي موقفٍ آخر: يرنو. الأسلوب الروائي أسلوب الكِتابة في الرواية له خصائِصه التي تختلف تماماً عن أسلوب الكِتابة في القصة القصيرة مثلاً، أو المسرحية، أو المقالة. والأسلوب هو الذي يقوم بالتنسيق الدقيق بين عناصر الرواية، وهو الذي يبثّ التشويق، ويُعتمَد عليه في استخدام الضمائِر والتقنيات الفنيَّة، وتصوير الانفعالات والأوضاع النفسية للشخصيّات، والعِبارات الإيحائية والعبارات المُباشَرة، فأسلوب حديثك مع شخص تحبّه يختلف تماماً عن أسلوب حديثك مع شخصٍ لا تحبّه. وأسلوبك مع شخص تثق به، يختلف عن أسلوبك مع شخصٍ تحذر منه، ويمكن أن نرى مثالاً جيداً على ذلك في رواية (الأخوة كارامازوف) للروائي الروسي الكبير دوستويفسكي. الخيال الروائي في العصر الحديث خلال المئة سنة الماضية، وانطلاقاً من فرانز كافكا، اختلف استخدام الخيال عمّا كان عليه في الأعمال السردية الكلاسيكية، فجاءت السوريالية، والوجودية، والعبثية، والفانتازيا على سبيل المثال في أعمال: فرانز كافكا صاحب رواية (المسخ)، وألبير كامو صاحب رواية (الغريب)، وأندريه بريتون صاحب رواية (نادجا)، وجان بول سارتر صاحب رواية (الغثيان)، وأتى غابرييل غارسيا ماركيز صاحب رواية (مائة عام من العزلة) بالواقعية السحرية. الرواية بشكل عام هي عملٌ مبنيٌّ على مخيّلة الكاتب، فيأتي بعناصر روايته من وحي المخيّلة، ولكنّها تكون على أساس الواقع، وتكون لها جذورها الواقعية، لماذا؟ لأنَّه لا يكتب لأناسٍ افتراضيين، بل لأناسٍ واقعيين. وفي بعض الأعمال الروائية، يوظّف الروائي الخيال للتنبؤ بأحداثٍ ستقع في المستقبل استناداً إلى مجريات الواقع. روايات المسابقات مع انتعاش وتعدّد المسابقات والجوائز الأدبية، بدأ بعض الروائيين يكتبون رواياتهم خصيصاً لتلك المسابقات، ليحصلوا على شهرة، وعلى القيمة المالية للجائزة، وهي عادة تكون جيدة يمكن أن يشتري بها بيتاً وسيارة، أو يقوم برحلة حول بعض دول العالَم، إضافة إلى ترجمة روايته إلى العديد مِن اللغات. وهذه الروايات عادةً تكون جيّدة لأنّ الروائي يبذل كل جهوده وإمكاناته وخبرته فيها حتى تكون الأفضل من بين مئات الروايات المُتنافِسة، وتقوم بتحكيمها نخبة ممتازة من المختصّين في نقد الرواية. ويمكن اعتبار أن هذه المناسبات أيضاً تُسهم في إنتاج أعمالٍ روائيّةٍ جيدة. وعلى هذه المُعطيات، فإن الرواية الجيدة تكون ابنة عناصر الجودة التي يشتغل عليها الروائي بكل حرفية. الرواية والقراءة على قدر ما يقرأ الروائي، فإنَّه يُقرأ، وعلى قدر ما يستمتع بقراءة روايات لغيره، فإنّ القرّاء يستمتعون بقراءة رواياته. بالقراءة يتجدَّد الروائي ويغتني أسلوبُه في الكِتابة، وتنفتح قريحته الروائية، كل رواية جيدة هي بصمة عميقة للكاتب في الحياة، وهي جزءٌ مِن تاريخه، بل هي رائحته الفوّاحة في البيوت والمكتبات والمعارض، والكتابة هي موهبة عظيمة على الإنسان أن يُحافِظ عليها ويُصقّلها بالقراءة، بل بمزيدٍ مِن القراءة. مِن عيون المكتبة الروائية في العالَم عوليس، لجيمس جويس البحث عن الزمن المفقود، لمارسيل بروست الجبل السحري، لتوماس مان مرتفعات وذرنغ، لإيميلي برونتي المسخ، لفرانز كافكا 1984، لجورج أورويل قلب الظلام، لجوزيف كونراد الأخوة كارامازوف، لفيودور دوستويفسكي أوليفر تويست، لتشارلز ديكنز العمى، لخوسيه ساراماغو كوخ العم توم، لهارييت ستاو الصخب والعنف، لوليام فوكنر أحدب نوتردام، لفكتور هوغو ذهب مع الريح، لمارجريت ميتشل يوتنيك الحبيبة، لهاروكي موراكامي.