«المجهول» و«اللا مرئي» في شِعر الثُّبيتي.
الخوفُ من الغامض المجهول، والبحث عن الجديد المبتكر؛ أدَّى لهروب الذات إلى الخارج، حيث الوجود مزدحمٌ بكائنات لا مرئية، يصعب تخيُّلها، أو حتى التفكير في ماهيَّتها؛ ما دفعَ الجاهلي إلى اختراعِ “وادي عبقر”، و”شياطين الشعراء”، فمنحهم سُلطة لا محدودة، ظلَّ العرب يتوارثونها، داخل نظامهم الذهني، ونسقهم الفكري. لا غرابةَ أن يؤمِن الجاهلي بعالم الخرافات، والأساطير، والغيلان، والشياطين، فحياة الصحراء القاسية، حيث الحرارةُ اللاهبة نهاراً، والعتمةُ ذات الأصوات المرعبة ليلاً؛ أجبرته على عيش حالة مستمرَّة من (القلَق)، وكان لا بد لعلاج هذا القلَق من بحثٍ عن (طمأنينة)؛ وجدها في الشِّعر، إذ الكلمات وحدها؛ مَن أغدقَت على روحه الراحة، والأمان، وجلبت لها الحكمة والاطمئنان، إلى أن بات “سيد البيد”، و”أمير القصيد”. غدا شيطانُ الشعر شُغلَ العرب الشاغل، في جاهليتهم وإسلامهم، فأخذ الشعراء يفتخرون بشياطينهم، وينسِبون إليهم الأشعار، حتى وصل الحال إلى تسميَتهم، والتفاخر بأنهم من ذكُور الشياطين لا إناثهم، مثلما صرَّح أبو النجم العجلي: “أنا وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر” آمن العربُ في جاهليِّتهم بأن القوة والسلطة لا تكون إلا بيد الذكر، أمَّا الأنثى فمصيرها السبي، وحينما نطق أبو النجم بمقولته، عمِل على تكثيف حِكمة الجاهليين، وطريقة حَياتهم، حيث أجملَها في بيته الشعري، وهو ليس وحده في هذا الصنيع، فهذا أمية بن كعب المُحاربي يصرِّح: “فإن شيطاني أمير الجن”، إذ لم يكتفِ بجعله ذكَراً، بل جعله أمير الجن قاطِبة، فعبر هاتين العبارتين، يمكن رؤيةُ أحلام الشعراء، وسعيهم للتفُّوق والانتشار. توثَّقت عُرى العلاقةِ بين الشُّعراء والشياطين، فغدا لكلِّ شاعرٍ شيطانٌ خاص به، وقد يشترك شاعران أو أكثرَ في النِّسبة إلى أحد الشياطين؛ ما أعطاهم مكانة عالية، تمت على أساسها تسميتهم ومخاطبتهم بتقدير وإجلال، إذ هم مَن وهب الشاعر اللغة، ونطق على لسانه بالشعر؛ كالأعشى الذي تفاخر بشيطانه الشعري، وصرّح باسمه: “دعوتُ خليلي مِسحلاً ودعوا له جهنَّام جدعاً للهجين المذمَّم” وقد ذكر أبو زيد القُرشي في “جمهرة أشعار العرب” بعضاً من أسماء شياطين الشعر، فقال: “أما لافظ فصاحب امرئ القيس، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر (بن أبي خازم)، وأما هاذرٌ فصاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه”، فهذا الاستقصاء والتدوين لأسماء شياطين الشعراء، إنما يحيل إلى نسق ثقافيٍّ ظل سائداً بين العرب، وصولاً إلى عصرنا الحالي، حيث الشعراء لا زالوا يؤمنون بشيطان الشعر، وينسبون إليه أقوالهم، وأشعارهم. تميَّز شعراء الجاهلية عن غيرهم من الشعراء اللاحقين، بأنهم اقتربوا من شياطينهم، وتآلفوا معهم، واخترعوا لهم أسماء يُعرفون بها، أما شعراء المسلمين، فلم يهتموا بتدوين أسماء لشياطينهم، إذ اكتفوا بالإشارة إليهم، كما فعل الفرزدق: “لتبلُغن لأبي الأشبال مدحتنا كأنها الذهب العقيانُ حبَّرها مَن كان بالغَورِ أو مروى خراسانا لسانُ أشعر أهل الأرض شيطانا” إذ ذكره كناية لا تصريحاً، وأسند إليه (تحبير) شعره، والتحبير عملية تتضمن المعاناة، والمكابدة في التعديل، والمراجعة، والنظر، والتجويد إلى أن يستقيم، وهو عين ما قام به العجاج (الشاعر عبد الله بن رؤبة)، أحد مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، حيث أكَّد على وجود شيطانه الشعري، دون تسميته: “فلم يُلث شيطانه تنهُّمي صَقعي وردِّي بالقوافي الحُتَّم” وعلى طريقته سار الشاعر الزَّفيان العُوفي: “أنا العُوفي فمن عاداني أذقته بوادر الهوان حتى تراه مطرق الشيطان علمني الشعر معلِّمان” كان لا بد للإيمانِ بالمجهول واللا مرئي؛ أن يُنتج نسقاً ثقافيًّا يمجد الغائب والمخفي، وهو ما حصلَ في العصر الجاهلي، فتم الإعلاءُ من شأن الشياطين، الذين تفردوا بمنزلة لا تدانيها منزلة، وباتت لهم هيمنةٌ وسلطة، لكن الحال اختلف مع قدوم الإسلام، حيثُ أعاد توجيه التقديس للخالق الواحد، ملغياً ما عداه، وهو ما يمكن تلمُّس آثاره في اختفاء تسمية الشياطين، وإن بقيت فكرة الإيمان بنسبة الشعر إليهم حاضرة في الأذهان. التأثرُ بفكرة انتسابِ الشعر إلى الشياطين، وأنهم الذين ينطقون به على ألسنة الشعراء؛ استمرَّ إلى العصر الراهن، حيث نجد في كتابات شعراء؛ كمحمد الثبيتي، وعبد الله الصيخان، وشفيق العبادي ما يؤيد ذلك، إذ كل واحد من هؤلاء كتب قصيدة أو أكثر، حملت اسم “القرين”، الذي يعتبر مرادفاً لـ: “الشيطان”، فما الذي يعنيه استمرار حضور “القرين”، أو “شيطان الشعر”، داخل الذهنية العربية؟ محمد الثبيتي: تنبني العلاقةُ بين الثبيتي وقرينه، على خِلاف الشائع، داخل الذهنية العربية، إذ عبر مطلع القصيدة؛ يمكن إدراكُ نوع العلاقة التي تجمعهما، حين صوّر الثبيتي نفسه في موقع (قوة)، بينما صوّر قرينه في موقع (ضعف)، ما أثار مجموعة من الأسئلة لدى القارئ، حولَ هذه العلاقة المعكوسة! لتأتي الإجابة: إنها تأثيرات الزمنِ الراهن؛ زمن العقل والمعرفة والتقنية، لا زمن الخرافات والأساطير والعجائب، لهذا السبب لن يكون غريباً؛ اختفاءُ دور القرين، وإفراغ صورته الذهنية، من امتداداتها السابقة: “مقيمٌ على شغف الزوبعهْ له جانحان .. ولي أربعهْ” شياطين مكبَّلة، لا تستطيعُ الحراك، أو التأثيرَ، تلك صورة عملت الثقافة العربية على تكريسها، مع مجيء الإسلام، حيث تم تقييدُ الشياطين، ومنعهم من استراق السمع، وكذلك قذفهم بالشهب والنيازك؛ ما أضعفهم، وشوّه صورتهم الذهنية، وهذا ما استغلَّه الثبيتي، وأبرزه بشكل واضح في قصِيدته، التي تُعد امتداداً للقصائد الواردة، منذ القرن الإسلامي الأول، إذ لم يكتفِ بإخفاء اسم قرينه، وإظهاره عاجزاً، هشًّا، لا حول له ولا قوة، بل حرَمه كذلك من إمكانية تقديم أيِّ نوع من المساعدة، ولو كانت إجابة على بعض الأسئلة: “يخامرني وجهه كل يوم فألغي مكاني وأمضي معهْ أفاتحه بدمي المستفيق فيذرف من مقلتي أدمعهْ وأغمد في رئتيه السؤال فيرفع عن شفتي إصبعه” الشيطانُ العاجزُ، الفاقدُ للتأثير، الذي ليس لوجوده أهمية، بل هو عَالة، وعبءٌ؛ صورة رسمها الثبيتي، وعمل على تكريسها، لذا لا عجب أن يصرُخ: “زمني عاقرٌ”؛ لا ينجب إجابات عن أسباب سقوط وتخلف الأمة العربية، وهو الهمُّ الذي شغله، وتسبب في دفعه لممارسة الكتابة الشعرية: “أرى بين صدري وبين صراط الشهادة شمساً مراهقة وسماءً مرابطة ويميناً غَموس” للثبيتي أيضاً قصيدة أخرى عنوانها: (قرين)، تناول عبرها علاقته مع قرينه، وكيف نظر إليه، وتعامل معه، يبدؤها بـ: “لي ولك نجمتان وبرجان في شرفات الفَلك ولنا مطر واحد كلما بلَّ ناصيتي بللك” لا فرقَ بينهما، حيث لكل واحد نجمتان، وبرجان، ومطرٌ مشترك، فإذا تبلل الشاعر تبلَّل شيطانه؛ ما يشير إلى تبدُّل العلاقة وتطورها، فالقرين ما عاد ضعيفاً وهشًّا فحسب، بل أصبح كذلك تابعاً، حيث كل ما يمارسه السيد، ويقوم به؛ يؤثر عليه، ويزيده هشاشة وضعفاً. علاقةٌ غير مألوفة، بل مفارقة لصورة شياطين الشعر، كما رسمتها الذهنية الثقافية العربية، لكن المفارقة تزول، إذا أدرك القارئُ؛ أن المقصود بالقرين هنا ليس شيطان الشعر، إنما صديقٌ، وصاحبٌ، وأخٌ؛ ابتعد زمناً، ثم عاد: “فرقتنا النَّوى زمناً ثم لمَّت شتات نوانا على بقعةٍ من حلك” النظرُ للقرين باعتباره بشريًّا؛ يمثِّل تطوراً في مقاربة شياطين الشعر، كما يعتبر تتويجاً لمسيرة بدأها الدين الإسلامي، حينما أزال عنهم صفات الهيمنة والتسلط ومعرفة الغيب؛ فباتوا عاجزين عن إحداث تأثير، أو حتّى تقديم إجابة.