في (ظمأٌ أزرقُ) للشاعرة حوراء الهميلي..

انغماسٌ في أعباء ذاكرة مكتظة .

[ إلى ظمئي الأول وهو ينحتُ شفاهَ الوقت إليه وحدَه انهماراً أبدياً في عمري إلى أبي ] تلك كانت كلمات الإهداء في مقدمة ديوان ( ظمأ أزرق ) للشاعرة السعودية حوراء الهميلي ،وهو الإصدار الأول للشاعرة ،وفي الإهداء امتنانٌ عظيم وعرفانٌ جليل لروح والدها،والديوان يحوي ثلاث مجموعات هي على التوالي : (تأويل على وجه المرايا،مَنْ شَدَّ خاصرة الحنين ؟! ، نبوءة يد..!) وصيغة التنكير في عتبة العنوان ظمأ حاملة لمدلولين في آن واحد، على درجة سواء من التأويل، فالظمأ هو العطش إلى الماء بصيغته المادية المحسوسة وبصيغته المعنوية يحضر الظمأ بمعنى الشوق للغائب والاشتياق للمحبوب المحجوب والظمأ في عمومه الدلالي أصلٌ يدلُّ على الذبول والافتقار وانعدام الارتواء،والعنوان حضر في تركيب ثنائي لتخصيص الدلالة فهو ظمأٌ أزرق في استدلال أقرب ما يكون إلى الاشتياق للغائب المتصف بالنأي والبعد عن الحياة الأرضية،ولعل لوحة الغلاف الأولى تظهر تماهياً مع هذا التدليل وأما إذا أردفنا هذه الدلالة بما تقوله الشاعرة في أحد نصوصها على فإننا واجدون ما يجلي هذا الاستدلال [ شَفَتي تَجفُّ / ولا سبيلَ لمائِكْ / أ بقطرةٍ شَحَّتْ غيومُ سمائكْ ؟! / عَتَبي على الدرب الذي عبَّدتُهُ / ما خلتُ بعدَ الشَّوقِ يُصبحُ / شائكْ ! ] أو حيث تقول : أنا ظمأُ السَّرابِ وأنت ماءٌ تَشَرَّبني و أَنْبتني كغصنِ يُشاغبني هواك كأنَّ طفلاً تُعوِّده التدللَ و التمني لأنَّك واحدٌ في دين قلبي عهدتُ إلى الهوى ألّا أُثَنِّي . والزرقة من الألوان المقربة من النص الشعري في الديوان ،وحضور اللون الأزرق في دلالات الخير والعطاء خاصة في البحر ،ويحضر أيضاً في الحقول المعنوية السماوية في بعض النصوص،فالنص لدى الشاعرة يغلِّب التطلع الدائم إلى الملكوت السماوي في رمزية للصفاء والنقاء و أنه مثوى الأرواح الطاهرة وأحياناً يحضر هذا التطلع كمداخلة وجودية تأملية للكون العام [ يطلُّ شجاك من أقصى عروج / إذا ناديتُه / خوفاً / حبستُ الليل في جفنيَّ / حتى / أخيط لأجل عينيك النهارا / بشال البحر شفَّتْه الأماني / ومن عينيك زرقتَهُ استعارا …أُحسّكَ من وراء الوعي / تأتي إليَّ / مُحمَّلاً نوراً ونارا / أُحبك / ملْءَ وعيي / فوق وعيي / ولا أنوي لأشواقي اختصارا / أُحبك لا لشيء غير أني / إليك / إليك/ أحتاج الفرارا / إذا كان الهوى قدري / فإني/ نذرتُ العمرَ / أهواك انتظارا ] فالزرقة في عتبة العنوان إشارات إلى الفقيد الغائب الكائن في الملكوت السماوي والذي يطلُّ علينا من أقصى عروجه عندما تشتاقه الذات في نداءاتها،فيحضر إليها تخفيفاً من وطأة الانقطاع المسبب لحالات من الرهبة وفقدان الشعور بالأمان الروحي،فيهبط السماوي حاملاً بين جنبيه النور والضياء والرضى والوقار ؛ ولذلك لا نستغرب اندفاع الذات في الاستعداد المفرح لهذا اللقاء الذي اتخذ الليل مزاراً ومسرى ، ففي الليل تستكمل الذات وعيها [ أنَّى تواريتُ انكشفتُ / كأنني /شخصٌ ثنائيٌّ ولي وجهان ! /في الليلِ / أخلعُ ما النهارُ أعارني / لأرى شحوبَ الوعي في الإنسان ! …أمشي / حقائبيَ الفضولُ / تساؤلي /عقلي به،في الغيبِ،قد أوصاني /حبلى / بأسئلة الوجودِ /هززتُها /سقط المجاز بلونهِ الفتَّانِ … أُحررُ روحي من /مغاليق طينتي / فأسقطُ /من وعيي / على هذياني / لمَ / الروح تسعى للخلود؟ / يجرُّها إلى الأرض / جسمٌ في الحقيقة فاني ! ! ] فالنص في الديوان يسعى بدأب احترافي إلى الاستفادة التوظيفية للمتناقض من الثنائيات ( الليل والنهار ،الانكشاف والتواري، والصعود والهبوط، وأهمها بالطبع الأنا الموجود الحاضر والآخر المفقود الماضي ) فالصعود للأزرق السماوي المفقود والهبوط للأزرق الأرضي الموجود في رمزية البحر وكلاهما متسمان بالزرقة والعطاء والوضوح [ لأنَّ اليوم ميلادي / أجرَّبُ أن أعيشَ بدهشة الأطفال، أقرأُ دفتر الكون / تأمَّلتُ السما .. قُطْنٌ ندَيفٌ فوق فستان المساءِ/ على طَبَقٍ أُكوِّرُ قطعة الغيماتِ أعواداً من الحلوى/ لتَسْكرَ في فمي الأحلامْ / أُشكِّلُ من خيوط الشمسِ في الإطلالة الخجلى /ملامحَ والدي الراحل …ملامحَهُ القديمةِ / ربما تنسلُّ من كفيَّ رملاً من حنينٍ غَصَّ / بالخطوات فوقَ شواطئ الأحزانْ / أُديرُ عقارب الأزمانِ حيثُ الحاضر الماضي / وحيثُ أكونُ بعدَ غدٍ أُحررني وأرحلُ / إنَّ قيد الوقت يشنقني / لأنَّ الوقت جلادي/ نسيتُ شموعَ أعيادي/ سأهربُ من أديم الأرض/ نحو الشمش / حيث خلودي الأبدي ] . الطفولة والذاكرة كتب فرانز هيلينز عن الطفولة ( ليست الطفولة شيئاً يموت فينا،وينحلُّ ما إنْ تنتهي دورتها،إنها ليست ذكرى، إنها الكنز الأكثر حياةً،وهي تستمر بإغنائنا رغماً عنا ،ويلٌ لمن لا يقدر أن يتذكر طفولته ،أن يدركها من جديد في داخله،كجسد في جسده الخاص كدمٍ جديد يمور في الدم القديم، فهذا الجسد يضمحلُّ إذا تركته طفولتُه) هذا الموران الصاخب الذي يختلج الجسد الحي هو الذي يتيح له أن يعطي تقييماً عالياً لثيمة الطفولة ،ومن خلال ذلك يستطيع الجسد الحاس،في لحظة زمنية فارقة ولكنها عميقة في تجذرها،أن يستعيد الماضي المنصرم والعابر للزمنية ،ومن خلال الذكريات والاسترجاعات للزمن الطفولي فإننا سنظفر ولو مؤقتاً بامتلاك الحاضر على امتداده [ شاختْ ملامحُها البريئة في جفون الوردِ /حين لمستُها انبجستْ دموعاً طاهرةْ / خِيطتْ جراحُ العمر بالخيبات / نزّتْ في يديَّ الأمنيات البيض كنتُ دسَسْتُها / في جيب أحلام الطفولة / والسنين العابرةْ / أجهضتُ ذاكرة الطفولة من دمي / ونفضتُ عن وجهي رمادَ أنوثتي / فلربما حاولتُ هندسة الجراحِ / ركضتُ في مضمار أمسي عدتُ للصفرِ / اكتشفتُ بأنَّ جرحي كان متخذاً مسارَ الدائرةْ / و هزِئتُ من جرحٍ كشكل الدائرةْ !! ] لأنَّ الطفولة هي الصوت الداخلي الطاهر النقي الذي تواصل مع العالم في تلامسه الأول ونتج عن ذلك التواصل تلك الدهشة الأولى تجاه النفس والآخر والعالم ،وهذا الصوت الناصع غير الملوث بالكدرة دائم التفكير التأملي و البريء من المطالب الأنانية والخالي من شوائب الجشع والقصي عن الرغائب الحريصة على المطامع سيصلنا حتماً إلى أعماق الذات ،وهذا الصوت هو الجاذب للنفس ، فالطفولة كيان محايد وملكوتي الروح [ وقطفتُ شوط الذكريات وحيدةً / طيف اليتيمةِ / لم يزل يجتاح ذاكرتي / ملامحُها / تطاردني / وتصهر داخلي قمم الحنين / وصوتها / يُعري الصدى في بحَّة الألمِ / المسافر في دمي / ياللعجب ! / تلك الفتاة أنا / انسلختُ وعدتُ للزمن البريءِ / وجدتني / أجترُّ بعضي من تفاصيلي القديمة ] وفي الليل تدأب الذات على السفر في ذاكرتها باحثة عن أناتها المفقودة وعن نسختها الأولى البكر ،ولو استعانت بأدوات غير اعتيادية مثل قمقم الأفكار الخاصة ،الأمر الذي يغيث الأنا في تحقيق أحلام فتاتها لرؤيتها ذاتها العتيقة والبريئة ، فتقطع المسافات الزمنية بواسطة قمقمها الذي يظل مستودعاً حافظا أمينا ومحمَّلاً بأعباء مضنية من ذكريات الطفولة المبكرة، وقد تستدعي التجارب الخاصة،وتحديداً الطفولية منها،الأسى والشجا أو العذوبة والمتعة جراء التذكر والاستعادة ، ونحن عادة نستعذب تلك الارتدادات الزمنية بسبب طبيعتها الخصوصية لذواتنا ،ولعل ما يجعل لهذه الإحساسات لمعاناً مصاحباً هو تخليها عن مبادئ الرشد والصرامة في الحياة الراشدة والتحلي بحق العيش الهنيء غير المتحفظ بضوابط الواقع في مصاحبة الأحداث ومرافقة المعطيات سواء الإنسانية منها أو الكونية . ختاماً المتتبع للديوان سيدوِّن تعليقاً يتضمن أنَّ الديوان ينحو إلى تبني مذهبية النص المترع بالفردانية والمكتنز على رؤى شعرية تبتغي التفرد وتنشد أيضاً رؤيا خاصة تروِّض انكشافات الذات الحائرة أو الذات الباحثة [ مذ تشظَّيتُ / حيثُ نصفي رمادٌ / من أنايَ انتشى / ونصفي انفجارُ / أعبرُ الأفقَ / باحثاً عن وجودي / لُجتي فكرةٌ / سؤالي فنارُ / من أنا يا ترى إلى أين أمضي ؟!] فالذات منشغلة بالإيماء إلى تفرداتها مقارنة بالآخرين ، و النص مشتغلٌ على الأنا لذاتها من خلال الوعي الفردي وهو وعي وجودي يمايز الذات عمن سواها وكأنها تعيد اكتشاف كنهها في مغايراتها ،والسؤال هنا استبطاني محصور في الباطن النفسي [ كلُّ بحثٍ / عن الذوات انعتاقٌ / للكمالات / ملؤها الانبهارُ / كلُّ بحثٍ / عن الذوات اكتشافٌ / لجمال الإله فينا اختبار … أهوى التفرد / إذ لا شيء يشبهني إلّاي / أنثى وما مرتْ على رجُلِ ! / بي استحمَّتْ نجوم الضوءِ / تغمرها أنهار جفنٍ / بفيض الحب مُنْسْدلِ •