إرتفغت وتيرة صناعة السينما السعودية وزاد إنتاجها بشكل كبير وحضورها في المتميز في المهرجانات السينمائية العالمية، مع افتتاح دور السينما أخيرا ومنح المزيد من الدعم الآن للمخرجين المحليين المتحمسين للتعبير عن أفكارهم. ويعد فيلم «مندوب الليل» واحدا من عدد من الأفلام السعودية التي حققت أداء وحضوراً جيدا في شباك التذاكر السعودي والحضور العالمي بعد أن كسب مكانته في دائرة المهرجانات الدولية. يركز الفيلم على واحد من الشباب المهمشين الذين يعيشون على الهامش. حياتهم لا تزال تتسم بالحرمان وفرص العمل غير المتناسبة، والفرص الضئيلة في القدرة على تسلق السلم الاجتماعي. في الواقع، كان هذا الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج “علي الكلثمي “ - المخرج والكاتب المشارك مع محمد القرعاوي، الفيلم وصل إلى المملكة المتحدة وعرض في صالتها، محتفظا بعنوانه الأصلي الذي كما هو معلن في الاعتمادات الافتتاحية، ويكشف المخرج تعريفين لكلمة مندوب: الأول - شخص يتمثل عمله في توصيل الطرود أو البضاعة، والثاني مصطلح يصف شخصا حزينا بسبب وفاته أو سوء حظه. حتى أن هناك تفسيرا ثالثا للكلمة التي تمت إضافتها في نهاية الفيلم والتي لها صلة بأحداث الفيلم وشخصيتها المحورية. تدور أحداث فيلم “مندوب” في قلب العاصمة السعودية (الرياض) المزدحمة بحركة المرور، ويروي قصة فهد (محمد الدوخي) الذي يعمل في مركز اتصال يديره أبو سعود (وهو دور قام به الكاتب المشارك محمد القرعاوي). يتم توبيخ فهد بسبب تأخره المعتاد في الوصول إلى المكتب، وعلى الطريقة التي كان يتعامل بها مع المكالمات بعد شكوى من إحدى المتصلات. ويجبر على تقديم استقالته أو يطرد من الوظيفة مفصولاً ويحرم من بعض الامتيازات. يثور فهد على مديره ويهجم عليه بمطفأة الحريق، بالإضافة إلى فصله يجد نفسه يواجه إجراءات قانونية بعد التعدي على المدير. وكان القرار في وقت عصيب، لأن هذا هو الوقت الذي يسعى فيه للحصول على علاج لوالده المريض (محمد الطويان) الذي يعاني من الفشل الكلوي. افتتاحية الفيلم مشاهد تضمنت زيارة مرحة إلى مدينة الألعاب من قبل فهد وشقيقته سارة (هاجر الشمري) وابنتها الصغيرة يسام (أماني السمي)، يصل اليه اتصال هاتفي بمثابة تهديد حيث رد فهد بقلق على مكالمة هاتفية. هذا التلميح يشير إلى مشكلة حقيقية ومقدمة للسرد الرئيسي الذي يتبعه يعيدنا أسبوعين إلى الوراء حتى نتمكن من رؤية ما الذي أوقع فهد في هذا الموقف الخطير للغاية. في فيلمه الروائي الطويل الأول “مندوب”، الذي عرض لأول مرة في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي يروي المخرج علي الكلثمي قصة فهد (الذي يلعبه محمد الدوخي بخبرة وتألق وإبداع) رجل فقير الحال في الثلاثينيات من عمره، بعد جدال ساخن مع رئيسه أبو سعود (محمد القرعاوي)، بعد طرد فهد من وظيفته كمشغل هاتف في مركز اتصال لخدمة العملاء. ويتوقع حكما قضائيا بتهمة الاعتداء على رئيسه وتخريب مكان العمل. فهد هو المعيل الرئيسي لأسرته، بما في ذلك ناصر (محمد الطويان) والده الضعيف الذي ينتظر عملية زرع كلية، وأخت مطلقة مؤخرا سارة (هاجر الشمري) والطفلة (أماني السمي) لتغطية نفقاتهم، يضطر فهد للعمل كساعي توصيل (مندوب) . لقاء صدفة يجلبه وجها لوجه مع مهرب كحول غير قانوني. يتبعه ويستدل الى المخبأ السري يقوم بسرقة الكحول من المصنع السري لعصابة التهريب. عندها يجد فهد نفسه عالقا في عالم الجريمة المهرب والممنوع في المملكة العربية السعودية، وبما أن استهلاك الكحول لا يزال محظورا إلى حد كبير، لجأ المهربون إلى إنشاء معامل منزلية حيث يمكنهم خلط المكونات وصنع مشروبات مزيفة طعمها ورائحتها مثل الشيء الحقيقي، عندما يدخل فهد هذه المنطقة المجهولة، تأخذ حياته منعطفات غير متوقعة مع عواقب وخيمة. في واحدة من أكثر اللحظات محورية في الفيلم، يطلب من فهد تسليم بعض زجاجات الخمور في حفلة ليلية في مجمع سعودي فخم. عند دخوله الحفلة، تظهر لنا الكاميرا كيف يشعر فهد بالتهميش في عالم غريب عليه. حيث يراقب المراهقين الذين يحتفلون على حلبة الرقص وهم يشربون ويرقصون، ووجوههم متوهجة بالمكياج والعرق. بطريقة ما، يطهر هذا الشاب ( فهد) لن يكون أبدا جزءا من هذا العالم ، حتى لو كان في مركزه لبضع لحظات . يؤكد المخرج علي الكلثمي في أن الفيلم يتضمن الكثير من العناصر في هذه القصة التي استخلصها إما من قصص أو أحداث حقيقية ويقول: “ أتذكر، خلال الوباء كنا نبقى في المنزل ونعتمد على عمال التوصيل . لقد أصبحوا جزءا مهما من حياتي وهذا جعلني أتذكر حدثا قبل الوباء عندما ذهبت إلى هذا التجمع في منزل أحد الأصدقاء. كان هناك الكثير من الناس، بعضهم مشهور ، وسار رجل (مندوب) في توصيل الطعام لم يهتم به أحد - لم يكن موجودا في تلك الغرفة ، لكنه نظر حوله بحثا عن الاعتراف. يعالج “مندوب” الإحباط في وضع تختلط فيه الفرص وتختلط برغبات الناس وأحلامهم. أحد هؤلاء الأشخاص هو الشاب فهد (محمد الدوخي) الذي يظهر ضعيف الصبر والإرادة وذو روح هشة، ولكنه مصمم على إنقاذ والده المريض الذي يكافح مرضه المزمن، مما تجعله تلك الظروف عازماً على إيجاد طريقة للخروج من هذه الأزمة، ينتهز الفرصة كرجل توصيل ليلي. في رحلاته التي لا نهاية لها في شوارع العاصمة السعودية، يتصارع مع معضلاته الشخصية. غالبا ما يكون طريقه وحيدا ومرهقا، ويتمنى أن يختفي من على وجه الأرض. لكن لديه مسؤوليات: أخته المطلقة سارة (هاجر الشمري) وابنتها الصغيرة. يحتاج الآن إلى المال فيما يتعلق بدعوى المحكمة ضده، اختزال عمله الليلي في توصيل البيتزا، يجد فرصة بمحض الصدفة في أثناء توصيله لطلب لشقة رقم 420، يصادف شخصاً يتعامل في البيع غير المشروع للكحول لأولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليفه. يتبع هذا الرجل ويستولي على صناديق الويسكي التي يشرع بعد ذلك في بيعها بنفسه. في سياق سرقة هذه البضائع، تصبح هويته معروفة لأولئك الذين يديرون هذه التجارة وبالتالي يخرجون للحصول عليه . الفيلم صور مدينة الرياض مدينة متألقة أراد المخرج البارع (علي الكلثمي) أن يظهر المدينة التي يعرفها (الرياض الحقيقية) التي يفتخر بها حسب قوله، أحداث الفيلم تدور في مدينة الرياض الجميلة، وقد نجح المخرج المبدع الكلثمي في فتح نافذة كبيرة للمشاهد كي يطل على مدينة الرياض وجمال ليلها وطيبة أهلها، وأبدعت كاميرا المصور (أحمد طاخون) في تصوير المشاهد الليلية الساحرة لأجواء مدينة الرياض . لكن أكثر ما يلفت النظر في الفيلم هو الطريقة التي يستخدم بها الكلثمي والمصور السينمائي أحمد طاحون كاميراتهم لتصوير الرياض كمدينة متألقة يتناقض جمالها مع عدد لا يحصى من الانقسامات الاجتماعية. إنها مدينة مليئة بالحياة والتعقيد ونفس ظلال الفرح والحزن التي تلون التجربة الإنسانية في كل مكان. ويوضح المخرج قائلا: “الدور الذي تلعبه المدينة في الفيلم دور مهم “ . نقل المخرج في سرده لحكاية فهد قصص حقيقية، حتى المشهد محاولة فهد ضرب مديره بطفاية كان حقيقي وحدث لأحد أصدقائه، وهكذا ارتبطت القصص وسردها في الفيلم في عكس صورة المملكة السعودية التي أصبحت دولة عالمية، وعاصمتها الرياض مزارا ثقافياُ وفنياُ . وعلق الكلثامي في كلمة المخرج: “كنت دائما منجذبا إلى الثقافات الفرعية السرية في المدن، وأعرف أن الرياض لديها العديد من هذه المتاهات والتقاطعات تحت الأرض، والظواهر الاجتماعية التي لا يراها الكثيرون في الحياة اليومية” . الشعور بالذنب والندم يجلد فهد يبدأ فهد في بيعه للعملاء الأثرياء لكسب النقود التي تشتد الحاجة إليها. كمسلم متدين، يشعر فهد بالذنب لأنه أصبح تاجر كحول. ومما زاد الطين بلة، أن فهد أصاب أحد أفراد العصابة في حادث سيارة. خوفا من عقوبة السجن، يصاب بالذعر ويهرب من مكان الحادث. في غضون أيام، فقد فهد وظيفته ومكانته الاجتماعية وبوصلته الأخلاقية. يتم اختبار حالته العقلية الهشة إلى أقصى حد من خلال الإجهاد والقلق والأرق الذي لا هوادة فيه. يظهر في مشهد يأخذ رشفة من زجاجة ويسكي ثم يقضي ساعات في محاولة محو الطعم من فمه، إن تقدير خلفية فهد كمسلم يساهم بطبقة مهمة أخرى في ارتباط المشاهد العاطفية به وفهم دوافعه. يهرع فهد إلى المسجد للصلاة، غارقا في البكاء بعد أن ضرب عضو العصابة عن طريق الخطأ. صلاته وحده في المسجد الكبير في الساعات الأولى من الصباح تلفت الانتباه إلى وحدته وعزلته الاجتماعية. تعكس هذه المشاهد المصممة بخبرة مشاعر الندم من عمله في تجارة الكحول المحرمة يرافقه لحد يجلده ، وذلك بعد أن خبأ كراتين الخمر نراه فوراً يصلي في المسجد بوجه متضرع وشاحب، بعد ارتكاب معصية كبيرة كان أداء محمد الدوخي في هذا المشهد بشكل مذهل وتلقائي . فيلم “مندوب الليل” أخرجه علي الكلثمي، وشارك في تأليفه مع محمد القرعاوي، ولعب بطولته كل من محمد الدوخي ومحمد الطويان ومحمد القرعاوي وسارة طيبة وهاجر الشمري، وهو من إنتاج شركة “تلفاز 11 . المخرج الكلثمي هو المؤسس المشارك لشركة الإنتاج السعودية المؤثرة تلفاز 11 استوديو إعلامي إبداعي سعودي متخصص في المحتوى الترفيهي ذي الصلة محليا. الفيلم هو نقلة جيدة جداً في عمر السينما السعودية الناشئة، هو عمل جيد يستحق المشاهدة وسيستمتع به أي شخص مع اختلاف خلفيته، ولكن أهل الرياض ومن زارها سيعجب به على نطاق اكبر ، وقدم الممثل محمد الدوخي أداءً متميزاُ ، في حين قدم محمد القرعاوي شخصية المدير الشرير في (مندوب الليل)، وكذلك ظهر في مشهدين مؤثرين في سياق الفيلم . * كاتب عراقي