ثقافة على الرصيف

اشتهرت مدينة “باريس” منذ زمن بعيد بمن يُسمّونهم ببائعي الكُتب القديمة أو المُستعمَلة Boucuinsite، الذين يعرضون بضاعتهم على شاطيء نهر “السين”، في صناديق ثابتة أو مُتنقّلة، تجتذب المُتنزّهين من هواة الكُتب قراءةً واقتناءً، فيُقبلون عليها مُنقّبين ومُقلّبين بين أكوامها. وقد يقع هؤلاء الهواة بين هذه الأكوام على الكتاب النادر أو الطريف، أو ربّما وجد أحدهم فيها كتاباً مفقوداً ضائعاً بين رُكامٍ من غَثّ المنشورات ونفايات المطبوعات، حتى أصبحت النُزهة على أرصفة “السين” بين مكتباتها هذه معروفة ومشهورة عند أهل “باريس”، من طُلّاب المعرفة والمولعين بالأدب والثقافة. وبعيداً عن بيع التذكارات السياحية لزائري العاصمة الفرنسية، فإن المشهد الباريسي لا يكتمل دون التعرّف على جُزءٍ من نحو 230 صندوقاً باللّون الأخضر الداكن، تفتح أبوابها من شروق الشمس إلى غروبها، على امتداد ثلاث كيلومترات من بائعي الكُتب القديمة، الذين يُساهمون في تشكيل سِحر ضفاف نهر “السين”، باعتبارهم جذباً سياحياً وتُراثاً ثقافياً لا يُمكن الاستغناء عنه في هويّة البلد. وقد أشبهت “باريس” في هذه الناحية بُلداناً كثيرة في الشرق والغرب، فكثيرٌ من المُدن الكُبرى لا تٌعرف فقط عبر بوّاباتها التاريخية ومعالمها الأثرية وأبنيتها التُراثية، بل يُشار إليها أيضاً عبر مكتباتها العتيقة، وتحديداً “بسطات” كُتبها الشعبية الموزّعة على أطرافها، وكأنّها زنارٌ ثقافيّ غايته حماية المكان من زحف الحداثة، ومن محو الثقافة الأصلية للبلد. فعلى مدى أكثر من قرنٍ من الزمان، كان “سور الأزبكية” في “القاهرة” منارةً للثقافة وقِبلةً لمُحبّي الكُتب.. هُنا تَشُمّ رائحة الكٌتب وتستحضر عبق الماضي، من خلال الورق الأصفر القديم، بين مكتبات السور التي تلاصقت في شكل أكشاكٍ خشبية، لا تخلو ممرّاتها من الزبائن الباحثين عن ضالّتهم من الكُتب في شتّى التخصُّصات، بأسعارٍ زهيدة ومُتفاوتة، جعلتهُ أشهر أسواق الكُتب العتيقة في “مصر” والوطن العربي. وتعود بدايات هذا السوق إلى أوائل القرن العشرين، عندما كان باعة الصُّحف والكُتب الجائلون يمُرّون على المقاهي المُنتشرة في ذلك الوقت، لبيعها على الروّاد. ثم يستريحون في فترة الظهيرة تحت الأشجار المُطِلّة على رصيف سور حديقة “الأزبكية”. وهذه الحديقة أنشأها “الخديوي إسماعيل” في سبعينيات القرن التاسع عشر، بالقُرب من “دار الأوبرا الملكية” بحيّ “العتَبة”، وجلب لها أشجاراً ونباتات زينة نادرة من “أوروبا”، لكي تُصبح مزاراً سياحياً، يتوافق مع رغبته بجعل “مصر” قِطعةً من “أوروبا”! وابتدأ افتراش الكُتب على أرصفة السور في عام 1926، واستمرّ نشاط السوق حتى عام 1981، عقب حريق “دار الأوبرا”، حيث قرّرت مُحافظة “القاهرة” بناء مواقف للسيارات مُتعدّدة الأدوار في مكانها، وزاد الأمر سوءاً بالحفر أسفل سور الحديقة لإنشاء خطّ سير قطار “مترو” الأنفاق، ممّا أدّى إلى إزالة السور بالكامل وإغلاق المكتبات في عام 1993. فقاد المُثقّفون والصحفيّون حملةً إعلامية لإعادة اهتمام الدولة بمكتبات “سور الأزبكية”، كأحد معالم العاصمة الثقافية، فاستجابت المُحافظة لطلبهم، وشيّدت 132 محلّاً صغيراً لبيع الكُتب في مكان السور القديم. شكّل هذا السور سوقاً رائجة للكٌتب التي تجمع بين الثمن الزهيد والنُدرة في نفس الوقت، وتعتمد تلك المحلات على الكُتب القديمة المُستعملة التي يبيعها أصحابها بعد الانتفاع بها، أو يشتريها التُّجار من ورَثة الكُتّاب والأُدباء، وبالتالي فهي فُرصة للسائح، والمواطن البسيط الذي يسعى للقراءة والاطّلاع مع ضيق ذات اليد. أما في “لبنان”، فإن شارع “الحمرا” في “بيروت”، الذي لا يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد، شكّل عبر تاريخه فضاءاً حاضناً للثقافة والمُثقّفين العرَب. فعلى هامش هذا الشارع، الذي كان يشتهر بمكتباته، نمتْ أكشاكٌ صغيرة و”بسطات” تعرض على أرصفته كُتباً قديمة وحديثة، فضلاً عن المجلّات والأفلام والمخطوطات وغيرها. لكن وقبل أن تُنشأ مكتبات شارع “الحمرا” الرصيفية، كانت منطقة “البلد” في وسط “بيروت”، أو ما يٌعرف اليوم “بالسوليدير”، هي مكتبة الناس العامّة، فضلاً عن “البسطات” المُتنقّلة للكُتب، التي تفترش الأرض وتُحوّل ساحة “البُرج” في أيام العُطل والأعياد إلى مُناسبةٍ لمهرجانات القراءة وبهجتها. كان شارع “الحمرا” يُلقّب “بشانزيليزيه” الشرق، خلال فترة الخمسينيات والستينيات، إذ يكفي أن يجلس المرء مثلاً في مقهى “الهورس شو” على رصيف الشارع، ليتأمّل العالَم بكافّة أجناسه ومُعتقداته يمرّ من أمامه، وربّما يستمع إلى نقاشات يُديرها أهمّ مُثقّفي العالَم العربي، وهُم يجاورونه في الطاولة، ويُشاهد على الرصيف المُقابل “بسطات” أرضية تبيع كُتباً تحتوي على مُختلَف الأفكار والتوجّهات، لينتقي منها ما يشاء، سواءً أكان يُريد كتاب “العُروة الوثقى” لجمال الدين الأفغاني، أو كتاب “رأ س المال” لكارل ماركس! ولكن في مُنتصف السبعينيات، قامت الحرب الأهلية، واستمرّت 15 عاماً، أكلت الأخضر واليابس، وانهار كلّ شيء في “بيروت”. إن الدمار الذي لحق بشارع “الحمرا” لم يكُن من السهل إصلاحه، حتى بعد أكثر من ثلاثة عُقود من توقّف الحرب، فهو دمار أشمل من دمار المباني والمقاهي والمؤسّسات الثقافية.. فقد التهم روح التسامح والتعدُّدية وهي المُتضرّر الأكبر، وهذا ليس من السهل نفخ الروح فيه من جديد!