صائب سلام..

أحداث وذكريات تسعة عقود.

الذين كانوا حاضرين أيام تسيدت الصحافة اللبنانية المشهد الثقافي العربي سيتذكرون على الأغلب هذا السياسي، كان مميزا بالأناقة الظاهرة، يعلق زهرة قرنفل على عروة معطفه اليسرى، وأحيانا يحمل سيجاره الفاخر، وكان رسامو الكاريكاتير يرسمون زهرة قرنفل وسيجارا فيفهم مقصدهم. كان رئيسا للوزراء فترة قصيرة، ولكنه ظل أكثر من نصف قرن أبرز زعماء الطائفة السنية، كما كان أبوه من قبله. ظهرت مذكراته “صائب سلام.. أحداث وذكريات” في ثلاثة أجزاء أولها يغطي الأعوام بين ١٩٠٥- ١٩٧٠، وثانيها أعوام ١٩٧٠- ١٩٨٢، وثالثها الأعوام بين ١٩٨٢-١٩٩٩. وقد غطت هذه الذكريات احداث حياته وأحداث قرن من تاريخ لبنان، والكتاب يصلح أن يكون مرجعا للحياة السياسية والمجتمعية اللبنانية، منذ الأعوام الأخيرة الدولة العثمانية، مرورا بالاحتلال الفرنسي، ثم الاستقلال، وفيها تفاصيل مهمة عن أهم الأزمات التي تعرض لها هذا البلد، الاقتتال الداخلي، والغزوات الصهيونية، وتاريخ منظمة التحرير الفلسطينية حتى رحيلها من لبنان، ويمكن للقارئ من خلالها أن يتعرف على أهم سياسيي لبنان، وأدوارهم. كما كان الرجل على علاقات جيدة مع معظم قادة الوطن العربي، بدأت علاقاته بالسعودية منذ قابل الملك عبد العزيز واستمرت مع أبنائه الملوك: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، كما كان له علاقات بأمراء البيت السعودي الآخرين، وحكام وأمراء الكويت، وزعماء الجزائر قبل الاستقلال وبعده، وكان صديقا للرئيس عبدالناصر والسادات في مصر حيث يتم استقباله استقبال الرؤساء، على المستوى الشخصي. لعائلته علاقات مع عائلة الخالدي المقدسية، أخته الكبرى: عنبرة سلام الخالدي متزوجة من المؤرخ أحمد سامح الخالدي، وقد صدرت مذكراتها من قبل، كما أنها قامت بترجمة الإلياذة، التي أصدرتها بتقديم من طه حسين، أما أخته الصغرى رشا فقد تزوجت من الدكتور وليد الخالدي، وهو أحد المؤرخين الفلسطينيين، ممن ارتبط اسمه بمؤسسة الدراسات الفلسطينية، وتظهر المذكرات أنه عمل فترة مستشارا لصائب سلام. من الصعب عرض مذكرات ظهرت في حوالي ألف وسبعمائة صفحة، وكان صاحبها يوالي كتابتها أولا بأول خلال سنوات عمره، رغم ظهورها مطبوعة متأخرة على وفاته، ولكن بعض ما فيها لا يزال يثير فضول القارئ. في بعض الكتابات عن تاريخ فلسطين الحديث ظهر اسم عائلة سلام وكأنها باعت أراض مهمة للغزاة الصهاينة، ولكن المذكرات توضح أن تلك كانت فرية كبرى، نالت بغير حق من عائلة اشتهرت بالوطنية عبر تاريخها. يذكر صائب أن حكاية “ امتياز الحولة” كانت أقسى التجارب التي مرت على والده وكافة أفراد عائلته. منطقة الحولة تضم بحيرة ومستنقعات مقسمة إداريا إلى جزء شمالي تابع لمرج عيون في لبنان، وجزء شرقي تابع للقنيطرة في سوريا، وجزء جنوبي يتبع صفد في فلسطين. وعندما انهارت الدولة العثمانية جًعلت منطقة الحولة بأكملها ضمن فلسطين التي يحكمها الانتداب البريطاني. امتياز الحولة هو عقد اتفاق بين الدولة العثمانية والسيدين “محمد بيهم” و” ميشال سرسق” وكلاهما من أهالي بيروت، أعطاهما الامتياز حق القيام بتجفيف مستنقعات وبحيرة الحولة، ومن ثم لهم حق تملك الأراضي المجففة مقابل ليرتين عثمانيتين لكل دونم، تم توقيع الاتفاق في الأستانة قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بأشهر، في بيروت تصدت العائلات المتنافسة للأمر، وألزمت أصحاب الامتياز بترك ٢٠% من أسهم الشركة التي سيتم إنشاؤها لتنفيذ المشروع لهم، وتم تأسيس “الشركة الزراعية السورية العثمانية المحدودة” و ُين السيد سليم على سلام والد صائب رئيسا للشركة. نلاحظ هنا إطلاق صفة السورية على الشركة لأن لبنان وفلسطين كانتا ضمن ما يطلق عليه اسم سوريا. وما كادت الشركة تبدأ أعمالها حتى بدأت الحرب وتعطل العمل، لأن الدولة أصبحت تصادر معظم المواد الأولية اللازمة لحاجات الحرب، وسيق كل الرجال الذين في سوق العمل للتجنيد مع الجيش العثماني. فأصدر عزمي بك والى بيروت قرارا حكوميا بمد فترة الامتياز ست سنوات بما يعادل الفترة المقدرة لإنهاء الحرب. انتهت الحرب بانهيار الدولة العثمانية، وسيطرة الفرنسيين والإنجليز على الولايات السورية، وبدأ سليم سلام العمل لتنفيذ الامتياز، حصل على الرسوم التي كانت تأخذها ولايتا دمشق وبيروت على اصطياد سمك البحيرة، وعلى شجر البابيروس الذي يُصدر إنتاجه إلى غزة لتصنيع الحصير. وأخذ يتردد ما بين القدس وحيفا لتحصيل إذن باستئناف الامتياز من السلطات البريطانية التي تحكم فلسطين. في عام ١٩٢٢ سُجن السيد سليم سلام بقرار صادر عن السلطات الفرنسية المستعمرة، و عاد بعد النفي ليجد أن السلطات البريطانية قد أحالت الامتياز إلى ما يسمى “وكلاء التاج” في لندن، وهي الدائرة المسئولة عن أملاك فلسطين، نصحه الحاج أمين الحسيني بالسفر إلى لندن لاستعادة الامتياز، وإيجاد ممولين من البنوك الأوروبية. يوضح صائب سلام هنا أن الحدود الدولية تقام عبر موانع طبيعية أو تتبع خطا جغرافيا، لكن خريطة فلسطين توضح ان حدودها الشمالية تمتد من البحر غربا، ولكن بدلا من أن تستمر إلى الشرق بخط مستقيم فإنها تنعطف بصورة مفاجئة نحو الشمال مسافة عشرين كيلا، ثم تعود للاتجاه شرقا نحو خمسة عشر كيلا، تسير بعدها جنوبا حتى تلتقى بخط الحولة، وكان هذا تحايلا لضم أراضي الحولة كلها إلى فلسطين، وبالعودة إلى نص صك الانتداب البريطاني على فلسطين فإنه يفترض أن تسلم كل الأرض الموات لليهود، وامتياز الحولة يشمل أهم الأراضي الموات في فلسطين، وهكذا فإن التعديلات الجغرافية تفضح حقيقة نوايا البريطانيين واليهود نحو امتياز أراضي الحولة. أراضي الحولة منخفضة تبلغ مساحتها مع المستنقعات ٣٨٠ كيلو متر مربع يحدها شرقا مرتفعات الجولان السورية وغربا مرتفعات جبل عامل اللبنانية وشمالا مرجعيون لبنان، وتغذيها ثلاث روافد مائية، نهر بانياس الذي يأتي من مرتفعات الجولان السورية ونهر الوزان الذي يأتي من لبنان ونهر اللدان الذي يأتي من فلسطين، وكلها تنتهي في بحيرة الحولة ويخرج منها نهر الأردن، وهذا يفسر إصرار الدولة الصهيونية على السيطرة على منابع المياه هذه في جولان سوريا وشبعا لبنان. يسكن المنطقة عرب الغوارنة الذين قدموا من مصر وشيخ مشايخهم يسكن قرية الخالصة التي أصبحت فيما بعد مستوطنة “كريات شمونة”. السلطات البريطانية بشخص رئيسها في فلسطين اليهودي “هربرت صموئيل” ترفض إمضاء امتياز الحولة لأنه يتعارض مع “امتياز روزنبرغ” وهو امتياز منحته السلطات البريطانية لشركة صهيونية بمجرد انتدابها لفلسطين، حيث تقوم الشركة بتوليد الكهرباء من مسقط نهر الأردن في بحيرة طبريا، وامتياز الحولة سابق على امتياز روزنبرغ، ولكن هيربرت صموئيل يصر على أن الأمر بيد وزارة المستعمرات في لندن. في لندن أمضى سليم سلام خمس سنوات من الصراع القانوني مع “وكلاء التاج في بريطانيا” من خلال مكتب محاماة بريطاني، وكلما كادوا يصلون إلى اتفاق تفرض الوكالة بنودا جديدة وتهدد بإلغاء الامتياز التركي، وقد انقطع مبكرا مرتبه الذي يتقاضاه من شركته، وتم الاتفاق على أن يتحمل المشروع وحده، بعد ثلاث سنوات فُرض عليه مشروع الامتياز الجديد، ومن ضمن شروطه إنشاء شركة برأسمال مقداره ربع مليون جنيه استرليني، وهو مبلغ باهظ في تلك الأيام. قبل سليم مشروع الامتياز الجديد دون أن يتنازل عن مشروع الامتياز التركي، وأخذ يبحث عن ممول عربي أولا. قصد صديقه الاقتصادي المصري طلعت حرب، لكن طلعت لم يكن قادرا على إنجاده. قصد بعدها سبعة أثرياء ورجال اعمال عرب ومسلمين ذكرهم بالاسم، كانوا يتحمسون في البداية ثم يتراجعون أمام ضغط الوكالة اليهودية على كل من يحاول التمول من البنوك الإنجليزية. و أخيرا قال له أحد الإنجليز وهو ينسحب من المشروع “ يجب أن تعلموا أن كل جنيه في السيتى اوف لندن فيه على الأقل شلنٌ لليهود”، تواصل مع ملك العراق فيصل الأول فلم يستطع فعل شيء وتواصل الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين مع اثنين من زعماء الهند المسلمين فما استطاعوا، أخيرا تواصل عن طريق “عصبة النساء الوطنية” مع مستثمرين إنجليز، والعصبة الإنجليزية المشار إليها كانت تناصر الحقوق العربية، وقد نجحوا في الشوط الأول لكنهم كانوا يتراجعون بعد أن تعلمهم وزارة المستعمرات أنه لا يمكنهم أن يؤيدوا أي عمل اقتصادي في فلسطين يتضارب مع مصالح الصهاينة. فقد الرجل مدخراته، وعجز عن دفع نفقاته، لكنه استطاع ان يحصل على دين جديد سدده فيما بعد. عاد الى بيروت ليجد أن بيته قد استولى عليه الدائنون. هنا حصلت مفاجأة، جاءه خطاب من المندوب السامي في فلسطين: أنه حسب المادة السادسة من نص الامتياز التركي يسحب الامتياز إذا لم يبدأ العمل خلال فترة ست سنوات لم يبق منها إلا سنة، الواضح ان بريطانيا لم تتوقع أن يكون قادرا على فعل شيء ولذا فإنه سيتنازل رسميا عن الامتياز وسيُسجل ذلك عليه. أعاد الرجل احتشاده وذهب إلى العمل مع أبنائه السبعة، بديون جديدة وموارد قليلة تأتي من بيع سمك البحيرة وبيع أوراق نبات الحلفا، والذرة التي تطلع بغزارة في الأرض المجففة، لم يسلم أي منهم من الاصابة بالملاريا، وفي إحدى المرات ابلغهم الطبيب بأن اصابة صائب هذه المرة قاضية، ولكن الله أنجاه، استمروا يعملون خمس سنوات، أحيانا يتعرضون لوابل من رصاص مستعمرة زبيد الصهيونية القريبة. كانت حياة قاسية لا يأكلون إلا مما يصيدون من أسماك البحيرة، ومن الطيور التي يصطادون، ومن بعض الخضار الذي يزرعون، وقد دُعوا مرارا للمحاكمة بسبب استعمال السلاح ضد من يهاجمهم، رغم أنهم يحملون سلاحا مرخصا توسط لهم به المفتي. استطاعوا أن يجففوا جزءا من البحيرة بناء على مخططات وضعها ضابط ألماني عمل مع الجيش الألماني في فلسطين قبل انهيار الدولة العثمانية، واستعانوا بمهندس ري إنجليزي من مصر ومهندس ألماني غير يهودي كان يعمل في حيفا. ومن ثم تبين أنه لا يمكن إنجاز كامل المشروع إلا بتوسيع مدخل نهر الاردن، وقد عملوا على إنجاز سد للقيام بذلك، ووظفوا أربعمئة عامل، حاولوا التعاقد مع ممولين جدد. شجعهم ما بدأ بالظهور من إنتاج المشروع. عام ١٩٣٤ وضح أن إتمام المشروع رغم الإنذارات البريطانية بسحب الامتياز غير ممكن، عمل الرجل وأبناؤه فوق طاقة البشر، نصحه الزعماء بأن يقبل التنازل عن المشروع للحكومة البريطانية مقابل تعويض على أن يتم تمليك الأراضي التي تم تجفيفها للفلاحين العرب بصكوك رسمية ليس من حقهم التنازل عنها لغير الدولة وبلغت مساحتها ٢٢ كيلا مربعا ، تسلم الرجل التعويض فسدد ديونه، وبالباقي أقام عمارتين في حيفا استولى عليهما الصهاينة بعد أربع عشرة سنة، وأقام مدرسة ومستوصف للاجئين الفلسطينيين، ويشهد صائب المفتي الحسيني على أن والده كان يشتري السلاح سرا ويوصله للثوار. تحول امتياز الحولة إلى مستثمرين يهود ولم يقوموا بعمل شيء مدة أربع عشرة سنة حتى انتهى الانتداب البريطاني . إذا لم يستطع زعماء عائلة سلام الصمود أمام ظلم بريطانيا فما حيلة الفقراء العاجزين؟