في رواية « حكايتان من النهر » لعبد الله ناجي ..

بساطة الفكرة وعمق التأويل .

تتجلى خطورةُ العمل الروائي، أيّ عملٍ روائيٍ حقيقي، في قدرته على الأخذ بلبِّ القارئ، والسفر به إلى عوالمه، وإقناعه بالقيمة الإنسانية المضافة التي يمكن لهذا الفن الحكائي، الموسومِ بفنِّ الرواية، أن يأتي بها من هامش اليومي والمعتادِ البسيط، ليضيفها إلى المتن الإنساني الخالد. هناك أعمالٌ روائية مرحلية فاصلة في الأدب بشكل عام، وخاصة في فنِّ الرواية، كونها داخلة في سلسلة الفنون الأدبية الحديثة في العربية، تلك الأعمال امتازت بطاقاتها الإبداعية التجديدية المختلفة، وغوصها العميق في الذاتِ الإنسانية، ووسمت شخوصها بملامح خالدة في الذاكرة، إذ لا يمكن نسيانُها أو تكرارها على ذات النسق الخاص بها أبدا. تتعقُّد مهمةُ الروائي هذه الأيام، وتكاد خطواته تصطدم وتتعثر في خطوات السابقين له، ويكادُ صوتُه يتوه في الأصوات الروائية المحتشدة في ذاكرته، لذا تبدو مهمةُ الروائي الآن -إن جاز التوصيف- مهمةً معقّدة، ورغم هذا الطوفان الهائلِ من الروايات العربية الذي لم يتوقف منذ منتصف بداية الألفية إلى لحظتنا الراهنة، تبرز وتغيبُ بسرعة الكثير من الأسماء والأعمال الروائية، لعوامل مختلفة ومتشعبة. تأسيساً على ما سبق أدلفُ إلى رواية “حكايتان من النهر”، وهي آخر أعمال الشاعر والروائي عبد الله ناجي، وقد صدرت عن دار رشم في 262 صفحة من القطع المتوسط؛ وهي من تلك الأعمال التي تنتهج البساطة في فكرتها، والعمق في مراميها، وهذه الصفة تجعل العمل من حيث القراءة مقبولاً من الكل، بحيث يستطيع كل قارئٍ تفسير الأفكار الواردة في العمل، والسعي بها إلى أبعد أمدٍ ممكن. تميّز هذا العمل باعتماده تقنيةَ السرد الزمني للأحداث، في خط متسلسل متواصل، دون أي رجوعٍ حادٍ إلى الماضي، أو انعطافاتٍ مباغتة نحو المستقبل، رغم وجود صوتين أساسيين في العمل، يتوازيان، ويلتقيان، ويفترقان، ليسافرا معاً في زمان الرواية المحدد، وبيئتها المحصورة بين مكة وجدة، هذان الصوتان هما صوت بطلي الرواية، “أحمد”، و”إيمان”، اللذَين اختطا للرواية مسارها الحكائي، ورسَما لأحداث الرواية طرائقها المختلفة، من وجهتي نظرٍ مختلفتين، وجهة نظرِ الذكر والأنثى؛ هكذا يروي أحدُهما شيئاً من قصته/قصتهما، ثم يترك المساحة للآخر كي يواصل هذه الرواية، واصلاً ما انقطع من خيوطها. كانت الاقتباسات الثلاثة التي استلها الكاتبُ ليفتتح بها الرواية، منسوبة إلى شخصيات مختلفة عن تلك التي اعتاد الكُتّابُ أن يلتفتوا إليهم في اقتباساتهم، من مشاهير الفلسفة والأدب وغيرهم، التي يزينون بها الصفحات الأولى من مؤلفاتِهم،؛ ربما لأنَّ عبد الله ناجي أراد لشخوص روايته أن تكون أكثر من مجرد شخوصٍ عابرة، فأفرد لها صفحةً في الخلود كشخصياتٍ حقيقية ملهمة؛ يشيرُ الاقتباسُ الأول لـ”أحمد بن يحي الحداد”، إلى شخصية بطل رواية “منبوذ الجبل”، وهي الرواية الأولى للكاتب ضمن أعماله الروائية الثلاثة، وهو أيضاً “أحمد” أحد بطلي هذا العمل، في البدءِ يعطي الكاتبُ هنا القارئَ -الذي سبق وقرأ رواية “منبوذ الجبل- الحريةَ التامةَ في اعتبار هذا العمل متمماً للرواية الأولى بشكل ما، ولكنَّ الكاتبَ يعودُ ليؤكّد في الفصول الأخيرة من الرواية، أنها تتمة لسابقتها، ويقول: (انفتحت كوة ضوء في جدار الظلام، شاهدتُ منها أصابعك وهي تضع الكلماتِ الأخيرةَ من حكايتك، حكاية المنبوذ الذي أحب الكلماتِ حبه للجبل...)، ويأتي الاقتباسان الثاني والثالث لشخصيتين ثانويتينِ عابرتين في “حكايتان من النهر”، هما “قاسم الضبع”، و”نجلاء حجازي”. لغة الرواية عربيةٌ فصيحةٌ، مطعّمةٌ ببعض المقاطع القليلة المكتوبة باللهجة العامية الحجازية، ببساطةٍ وتلقائية؛ تأتي اللغةُ هنا منطويةً على أبعاد قد تكون أكثر تعقيداً وغوصاً في الفلسفات بشكل عام، بخلافِ ظاهرها السهل التناول، حاملةً تساؤلاتِ الإنسانِ المحاصر بفواجعه ومواجعه وأوهامه وأحلامه، ويأتي استخدام ضمير المتكلم في أغلب الرواية، على لسان بطليها، ليؤكد فكرة استقلال كل ذاتٍ عن الأخرى لحظةَ البوحِ والحكي، وذلك يعود إلى أنَّ فصول الرواية أشبه ما تكون بلقطات أو مشاهد مستقلة ومشتركة، بين بطلي الرواية. من اللقطات المهمة في الرواية ذلك المشهد الافتتاحي، بالغناء الوجودي الفطري النابع من ذاتِ الإنسانِ والطبيعةِ المتحدةِ به، بكل ما يرمز إليه هذا المشهد من اتحادٍ إنساني حقيقيٍ بالموجودات وفناءٍ فيها، واستحالة هذه الحالة إلى بكائيةٍ غنائيةٍ كونيةٍ جماليةٍ مفرطة في الجلال. تبرز حادثةُ اغتصاب “إيمان”، وما تلاها من تحولات لتكون هي المسار الذي تنعقد عليه كل تفاصيل وأحداث الرواية، فقد أصبحت “إيمان” بعد هذه الحادثة في حالة من الرهاب المستمر من الرجل، تقول: (كنتُ أتحاشى العمل مع زملاءِ التخصص من الرجال ما أمكنني... وعلى الرغم من أن مديري المباشر كان رجلاً طيبا ومحترما، لم يغب عني الإحساسُ الدفينُ بالخوف...)، هذه الحادثة غيّرت نظرة “إيمان” للحياة بشكل عام وللرجل خاصة، وأشعلت في روحها أسئلتها الوجودية الغاضبة المضطرمة، وقد ترسَّخت نظرتُها تلك بعد قصتها مع “يوسف”، شقيقِ صديقتها المقربة “هيفاء”، لذلك لم يكن مُستغرباً من “إيمان” أن تخرج بهذه القناعة التقريرية التنميطية للرجل في آخر الرواية، باعتبار الرجل -أيّ رجل- مجرد وحشٍ جنسيٍ مفترس -مؤقَّت- يتحيّن الفرصة للانقضاض على فريسته الأنثى، إذ تقول موجهةً حديثها إلى “أحمد”: (هذه طبيعتكم، تتساوون فيها جميعاً، رجلُ الدين ورجلُ الشوارع ورجل الصالونات الثقافية...إننا نُغتَصبُ منذ دهورٍ في ظل نظامكم الأبوي القاتل يا أحمد...)، ولكنها مع كل ذلك حاولت أن تجعل علاقتها بـ “أحمد” مختلفةً بطريقتها التي ارتأتها، وفلسفتها التي آمنت بها، رغم كل ما صاحب تلك العلاقة المرتبكةِ المشتبكةِ من ظروفٍ حالت دون استمرارها، ولكنها كما يبدو علاقةٌ مستعصيةٌ على الارتهانِ لاشتراطات فلسفتي بطلي الرواية في الحب والحياة، تقول إيمان: (حتى لو أحببتُه وأعلنتُ حبي له، فليس من حقه اجتياز تلك المسافة القصيرة إلى جسدي دون أخذ الإذن منّي، دون أن أكون أنا واهبةَ الحب، لا المسلوبةَ باسم الحب)!. بينما تغوص “إيمان” في أوحال ذاكرتها التي يبدو أنْ لن يكون بمقدورها النجاةُ منها، يغوصُ “أحمدُ” في بحر إحباطاته وذكرياته، وتخطفه تلك النوستالجيا العميقةُ مهما حاول الابتعادَ والتسليَّ عن خواطره، تلك المتعلقة بالعائلة، وبيت العائلة الذاهب في مشروع تطوير مكة المكرمة، وما تلا ذلك من تشتت أفراد العائلة بعد أن أخذ الجميعُ أنصبتهم من قيمة العقار، وتضاعفت أنصبتهم من الشوقِ لذكريات المكان والزمان الغابرَين. يؤكد “أحمدُ” ما مضى حين يؤكدُ أنَّ: (أنفاس البشر تؤثِّثُ المكان الذي نعيش فيه، وترسم حدوده، فكلُ نفَسٍ يخرجُ من صدر إنسان، إنما هو روحٌ تنفخ في رئة المكان، وتضفي عليه حياةً كحياةِ ساكنيه)، وتحيل المكان إلى روحٍ حيةٍ تشاركنا أفراحنا وأتراحنا، وتحزن وتأسى لوداعنا؛ هذه الروح التي حلّت في تلك الأماكن هي أشبه ما تكون بروح الأنثى، التي يستعيرها “أحمد” لتوصيف المدينة شعرياً وفلسفياً فيقول: (المدينةُ كالمرأةِ، متى ما أكثرتَ من مخالطتها... اعتادت عليك، وبدأتْ في تركِ الاحتشامِ منك، والتعري أمامك شيئاً فشيئا)؛ وحين حمل “أحمدُ” مكتبته-آخر ما يربطه بمكة- ومضى بها يذرع الطريق إلى جدة، اتسع في أفقه معنى الوطن بشكله الأوسع، مسافراً في أبدِ الروحِ، ليخرجَ من حيز مكة الجغرافي، إلى الوطن الشاسع من كل جهاته ونواحيه، الوطنُ الذي يمكن أن توقظ ذكرياتِه بين جنبيك أغنيةٌ وطنيةٌ عابرة، وهي تنداحُ من صوت الأرض “طلال مداح”، حين أدار “أحمدُ” مفتاح مذياع سيارته، لتعانق روحَه تلك الأغنيةُ الوطنية الشهيرة: (روحي وما ملكت يداي فداهُ وطني الحبيبُ وهل أحبُ سواهُ وطني الذي قد عشتُ تحت سمائه وهو الذي قد عشتُ فوق ثراهُ منذ الطفولةِ قد عشقتُ ربوعَه إني أحبُ سهوله ورُباه). اعتمدت الرواية على السرد الحكائي المتدفق من أعماقِ بطليها، بحمولاته الفلسفية، وتساؤلاته الذاتية والنفسية المحتدمة، بين “أحمد” وذاتِه، و”إيمان” وذاتها، وكان حضور سؤال الكتابة والقراءة كثيراً في الرواية، مثلاً، تقول إيمان: (“لماذا لا أكتبُ، وأنا أملك كل هذا الخيال؟”، كثيراً ما أزعجني هذا السؤال، إلاّ أنَّ اللذة التي كنتُ أجدُها في القراءة كانت تفوقُ ذلك الانزعاج، وتُنسيني إياه، وكنتُ أتذكر دائماً ما قاله بورخيس العظيم في أحد كتبه: “فليفخر الآخرونَ بالصفحاتِ التي كتبوا، أما أنا فسأفخر بتلك التي قرأتُ)، كأنَّ الملاذ الحقيقي والإنجاز الأهم هو أن نقرأ، لنفهم هذا العالم، ونحاول الخروج منه بأفضل المكاسب، أو أخفّ الأضرار، لا أن نسوّد أوراق العالمِ بكتاباتنا أو أوهامنا الطارئة. تواصل “إيمان” فلسفتها الخاصة عن الانعتاق والحرية ولذة الخطأ، قائلة: (كان يعنيني أن أكون صاحبةَ القرار في كل ما أريدُ، أنْ أتحمّل مسؤوليةَ أفعالي، أن أخطئ وأصحح أخطائي بنفسي، لا أريد أن أكون إلهةً معزولة في مكانٍ ما، لا تعرفُ لذةَ الخطأ، أريد أن أعيش بشريتي بكل احتمالاتها، هكذا كنتُ أفهمُ الحرية). أخيراً تضمنت “حكايتان من النهر”، مكاشفات عن الواقع الثقافي، والزيف الحاضر والمتسيّد للمشهد، كما تناولت الحب والكراهية، والعنف الخفي والظاهر، وسلطة المجتمع الأبوي، والهجرة غير الشرعية، وخبايا وأسرار ومشكلات الأحياء العشوائية، وغيرها الكثير من الرسائل والمضامين التي حملتها الرواية. (لقد اكتشفتُ أنَّ الأحزانَ الجيدة تساعدُ على مواصلة الحياة، والعيش بهدوء، بل التكيّف مع ما حولنا). هوامش ................................................. 1 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 202 2 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 56/47 3 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 214 4 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 56 5 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 39 6 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 60 7 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 58 8 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 69 9 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 84/85 10 - حكايتان من النهر- عبد الله ناجي – دار رشم للنشر والتوزيع – السعودية – عرعر – الطبعة الأولى 2025- ص 245