استوقفتني قصيدةُ (مطرٌ كسولٌ على الباب) للشاعر السعودي الأديب الفخيم عبد المحسن يوسف، في ديوانه الشعري الذي اختار له عبد المحسن، ذات الاسم لرائعته (مطرٌ كسولٌ على الباب). ورغم أن الديوان يضجُّ بحوالي 145 نصًّا شعريًّا لا يقلُّ أيٌّ منها وسامةً ولا بهاءً عن نص “ مطرٌ كسولٌ على الباب” إلا أن الأخير هو من ظفر بـ”حدس” الاختيار عند الشاعر عبد المحسن، ليكون هذا النص بالتحديد هو “هوية” الديوان وروحه والمعنى الشمولي الذي وقعت ظلاله الوارفة على بقية النصوص الأخرى. وقد استهل الشاعر عبد المحسن يوسف “النص” بجملة مفتاحية، جاءت وكأنها “كلمة السر” التي عبرها يمكن للقارئ فك التشفير عن العوالم الداخلية للشاعر عبد المحسن. إلا أن عبد المحسن لن يدع القارئ يستأنس بالدخول وهو حاملٌ لصفة “استراق النظر” ، أو هو مجرد قارئ يكتنفه “الفضول”. لكن تتجلى عبقرية عبدالمحسن الشاعرية في أنه سرعان ما ينصب أمام أعين القراء لوحًا زجاجيًّا لـ(مرآة) موغلة في الشفافية، تلك المرآة التي تجعلهم ينظرون إلى ذواتهم دون تكذيب، فتختلط تصوراتهم الذاتية في أقصى درجات صدقها وحلمها ونُبْلِها، بالموقف الحسيِّ الجماليِّ المستبطنِ بداخل عوالم عبدالمحسن اللا مرئية تجردًا. يقول الشاعر في مستهل النص: ثمة ما يُبْهِجُ الروح: = هكذا يكتبها عبدالمحسن، وكأنه يتعمد تهيئة القارئ لعد وإحصاء العناصر أو التفاصيل التي عبرها تتحقق “بهجة الروح”. وحزمة العناصر هذه، تأتي تباعًا وفق تراتبيةٍ معينة، لا علاقة لها بـ “الصدفوية”، ولا تحكمها خصائص النسق الشعري للقصيدة، بل هي تسلسلٌ مضبوطٌ على درجات السلالم الحلزونية التي تدور في أعماق الشاعر، لكنها في ذات الوقت، صالحةٌ أيضًا لـ(رسوخ) كلِّ بصيرةٍ لها قدمٌ و ساق عند أولئك المرتادين على أبواب “ النص”. والروح التي يعدد الشاعر سِرَّ بهجتها، هي بالضرورة روحُ الشاعرِ نفسِهِ، لكنها ضرورةٌ لا تُلغي مفهومَ تشاركيةِ ذاتِ المكنونات والعناصر بالنسبة للآخر الممتلك شفرة الدخول منذ البداية. والشفرة هذه، أو كما أسميتها “كلمة السر” والتي تعني لي الدلالة اللفظية والمعنوية للجملة الافتتاحية، حَوَتْ سبعةَ مفاتيح أو سبعَ آياتٍ أخرجها الشاعر عبد المحسن من (جراب) ذاكرته الشعرية، لتكون برهانًا إعجازيًّا في تجريف القارئ من خاصية النظر المجرد إلى خصائص النظر الباطني عبر “الإحساس” اللا سلكي . ولنتتبع العناصر السبعة التي عددها الشاعر في نص (مطرٌ كسولٌ على الباب)، ولنستنطق مدلولاتها الحسية المستترة، لنرى كيف تكون بهجة الروح عبرها، ثم ندع اختبار “ورطة” تشاركية العالم الداخلي للشاعر، لمدى صدقية القارئ حين تعبث يداه في نبش (صندوق) الذات، بحثًا عن معنى الانسجام في الآخر. يقول عبدالمحسن بالترتيب مُعرّفًا ما يُبهج الروح: 1 - “ ضحك أطفالي وهو يتدفق في الغرف”. * الآية الأولى تصخب بالحركة والانتقال، ولكن للحركة والانتقال هنا قانونًا آخر غير قانون العناصر المادية، وبه يتحرك اللّا محسوس إلى حيز المحسوس، ثم ينتقل إلى طور الكمال الحسي المنظور روحًا ومعنى، حيث تحول ضحك الأطفال الذي هو مسموعٌ في الغرف، إلى معنى يجسد فكرة الشعور بالسعادة والبهجة داخل حيز مكاني آخر هو الإحساس بـ(الانتماء)، وكأن الآية الأولى هي دعوة للتأمل في حقيقة الانتماء للذات والذي بواسطته تُوضع أولى العتبات في بناء هرم المباهج الروحية، و عبد المحسن هنا ليس بحاجةٍ إلا لـ (طينة) من خليط الضحك البرئ داخل مملكة الخصوصية التي تحقق الذات المستقلة. 2 - “ عشب قليل في تربة القلب “. * الآية الثانية تحمل ترميزًا شائعًا ومألوفًا عن اخضرار الحياة (العشب)، إلا أن عبدالمحسن نفذ عبر ثقوب الرمز، متتبعًا مسيرة جذور المعنى الكامن في حالة الشعور بروعة الحياة، فوجد أنها حالة استثنائية لا يصلح لها مقامًا ولا منبتًا إلا في قلبٍ سليم مُشبّع بالخصوبة، و القابلية القصوى اللازمة لتنامي النظرة الإيجابية لعموم الحياة، دون سلبية، أو تشاؤم، أو قتامة في إرسال الأفكار النبيلة لتقصي أركان المدى البعيد. 3 - “ قصائد مهملة تتفتّح منها الغيوم”. * في الآية الثالثة، تظهر مجاهدة الشعر عند عبد المحسن الشاعر، كعملية ذهنية إنسانية لتطهير الروح من كل شائبة استعصت على اللغة إذابتها. وهو ما يجعل الشاعر يقر بأن ليس كلُّ نظمٍ شعريٍّ لم يُحْظَ بـ (الاهتمام) اللازم، فهو يعني أنه نصٌّ شعريٌّ عاجزٌ عن الإفصاح عن طاقته الروحية الملهمة. وفي هذه الآية دعوة غير مباشرة للشعراء والكتاب، لاستعادة الاهتمام بكل الذي يكتبونه ، فربما حين يعود المرء لقراءة ما هو (مهمل) يجده ضاجًّا بالحيوية، أو يجده نصًّا باعثًا للأحلام الواعدة. 4 - “ حقائب على الرف تهجُسُ بالسفر”. * في الآية الرابعة يكشف عبد المحسن عن مكامن الصراع الداخلي، بسبب التنازع بين الثابت والمتغير، ولأن الثابت مألوف محفز للاطمئنان والسكينة، فإن المتغير هو مثيرٌ لرغبة الاستكشاف ومتعة التعرف على ما هو جديد ومختلف. إلا أن عبد المحسن أدخل على طبيعة هذا الصراع، بُعْدًا آخر جعل المشهد أكثر عمقًا ، وذلك عبر ترسيم ظلال إضافية عنوانها : حالة الانتظار أو تأجيل البت في صناعة قرار التحول من المألوف للجديد المختلف.. (على الرف). 5 - “ شجرٌ في لوحة - في صدر الحائط يميلُ يميلُ يحرسُ وردَ الأمل “ * الآية الخامسة، فيها أحال عبد المحسن اللّا حي إلى حي متفاعل، وأدخله إلى نظام الوجود المادي الملموس، وكأنه يمنح (قُبلة) الحياة لجماليات كل إبداع فني، حتى لا يتم (تحنيط) الفنون في توابيت جامدة أو أطر نمطية ضيقة. لكنها آية اتخذت من عنصر الشجر في اللوحة، مرشدًا هاديًا لاستنطاق الجمال الداعي للأمل، وهو ذات السر الذي أفصح عنه عبدالمحسن عن كيفيته الخاصة في استلهام الرسائل الجمالية في كل إبداع فني يعبر عن التطلعات الانسانية الحرة في بناء وهندسة المستقبل الأمثل. 6 - “ مطرٌ كسولٌ على الباب” * الآية السادسة وهي سر الأسرار وأم الكبائر النبيلة، فيها تتجلي حاسة الشعر عند عبد المحسن، وهي الخزفة المضيئة في عقد ديوانه المنضود بحرفية هائلة. وهي الجملة الشاعرية التي تعبر عن الحالة “ المشاعرية” التي وراء تحقيق المبتغى والمرتجى إلى غاياته بعد طول غياب وانتظار. بيد أن عبد المحسن روّضَ التعبير عن تلك المشاعرية ترويضًا هادئًا ، حتى جعله تعبيرًا يركضُ في مضمارِ حركةٍ متناسق الخطوط والأبعاد. للدرجة التي تلاشى فيها بُعْدُ المسافة بين السماء والأرض لحظة وصول المطر، لكن في ذات الأثناء، احتفظتْ ترميزاتُ المطر والباب بمسافةٍ حسّيةٍ شاسعةٍ أفصحَ عنها الشاعرُ ضمنًا بدلالة المعنى في لفظ (كسول)، ومما يعني أن مقياس حالة الانتظار لم يعدْ مهمًّا ضبطُها على وحدات زمنية طويلة أو متقاربة، طالما أن الوصول قد تحقق، إلا أن طعم الوصول بتلك الحالة هو ما يجعله تذوقًا محفزًا لمباهج الروح. 7 - “ زرياب في الأغنية “. * الآية السابعة ذات أبعاد فلسفية في معناها البعيد، وذات قيمة إنسانية جمالية في مفهومها المباشر. لكنها الآية التي تكشف عن الذائقة الموسيقية المباشرة للشاعر عبد المحسن، وهي الذائقة التي تنفر عن “النشاز”، وتتناغم مع الأصوات الجميلة في الغناء والتي تضفي بُعْدًا موسيقيًّا داخل تراكيب اللحن الغنائي. أما البُعْد الفلسفي في الجملة الشعرية، فهو يكمن في الترميز بـ(زرياب)، وهو مثلما متعارف عليه، فإن زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، موسيقار ومطرب شجي الصوت من العهد العباسي. لكنّ “ زرياب “ أصبح له رمزيةٌ خاصةٌ في تاريخ الموسيقى الشرقية والذوق العام، فهو يعتبر حلقة الوصل بين الفن الأندلسي في المغرب والشرق في بغداد، وله بصمة خاصة في نوعية الموسيقى، لأنه هو من أدخل الوتر الخامس في آلة العود، وتعتبره كثير من كتب التراث الأندلسي بأنه هو مدرسة للذوق العام الذي يُعْرَفُ حديثًا بـ(الإتيكيت). ورمزيته هنا في الآية السابعة توضح بجلاء طبيعة المزاج الخاص للشاعر عبد المحسن والقائم على تفضيل المتعة الموسيقية التي ترتقي بالذوق العام مع ضرورة الحفاظ على هويتها القومية والحضارية ذات الطابع المميز والملهم لبقية شعوب العالم. = هكذا قرأتُ نصَّ (مطرٌ كسولٌ في الباب)، وهكذا وجدته يلامسُ عندي سقوفَ التأمُّل في ترصد اللحظات الانسانية النبيلة، وكأنها شئ من كتب الفلاسفة والحكماء، وليست مجرد نظمٍ شعريٍّ يبعثُ نغمًا موسيقيًّا في النفس وحسب ، بل طاقة قصوى تدفع الروح إلى فضاءٍ شاسعٍ لتلمس عتبات المباهج الممكنة، قبل رحلة الارتداد للأسفل من الحياة الوجودية. * كاتب صحفي وروائي سوداني.. صدر له عن دار إضافة للنشر والتوزيع بالإسكندرية في 2023م ، رواية “ ذو القرنين.. سِفر الخروج من وادي الطُندب “.