قراءة في شعر سليمان عبد العزيز العتيق..
انتقالات مدهشة بين فنون الخطاب ، وحِراك لغوي ومخيال نسّاج وعدسة لاقطة.
في مقالة سابقة أشرت إلى أن كتاب (بين الشعر و الثقافة) الذي نشرته دار الأندلس للنشر و التوزيع التي أولت أهمية خاصة لنشر نتاجات كتّاب حائل يتضمن رؤية نقدية لآراء مفكرين وأدباء سعوديين معروفين ، ووعدت بقراءة أخرى لشعر مؤلفه سليمان عبد العزيز العتيق المنشور في هذا الكتاب . لفتني منذ القصيدة الأولى نهج الشاعر في تشكيله الفني من تساؤلٍ لافت وتجاوبٍ مدهش والتماس ملحاح وتعجبٍ متكرر، وتجليات مبهرةٍ وحِكم مقرّرة وتوكيد وتصوير، وتوصيفٍ وسرد وتنبيه وتمثيل وخطابٍ مضمرٍ واطمئنانٍ مؤطّر. تشكيلة متنوعة من الأساليب في الخطاب الشعري تنزاح عن مألوف القول ومعتاد الحديث ، وانتقالات مدهشة بين فنون الخطاب ، وحِراك لغوي وتسلسل وتدفق وتداع منهمر ، وتبصّر وتصوّر ومخيال نسّاج وعدسة لاقطة، ومرآة عاكسة و معجم مُتسق ونسيج منسجم،وتوجيه صريح وهمس خفيف ، وإيقاع موزون في بحر كامل أو تفعيلة موزونة ؛ ولعل ما يلفت الانتباه إلى أهم خاصيّة من خصائص الخطاب الشعري الاتّساق و الانسجام مع الإيقاع لإنتاج الدلالة وهو - فضلاّ عما أشرت إليه من حراك أسلوبي عبر الأنساق التركيبية -الحقل المركزي الذي تتكاثف حوله الدلالات و يمثّل نافذةً تطلُّ على أمواج المعاني ؛ فنحن - هنا - أمام لفظة محوريّة الدلالة تشير إلى الماء منذ العنوان (أشربت) وهي تمثل الانتهال من معين لا ينضب ، فضلاً عن بناء الفعل في العنوان على المجهول ، وهو ما يوميء إلى الاضطرار وغياب الإرادة ، بالإضافة إلى الشرخ الذي يحوّل الذات إلى متحدث و متلَقٍّ في غيبة التعريف بهوية المخاطب ، والتدرُّج في إملاء الفعل المركزي (أشربت) من الكأس إلى النهر ، ومن الانتهال إلى الاغتسال إلى التطهر ، ومن الذات المخاطبة المخصوصة إلى المتلقي العام المطلق (أيها الإنسان ) ومن الاضطرار إلى الاستغفار ،ومن الإرغام إلى الرضا ، ومن الفعل الظاهر إلى الارتداد إلى الداخل ومن القلق إلى التوكُّل ، ومن الإنسان إلى الرحمن ، ومن الهواجس القلقة إلى التسليم المطمئِن حيث تتهادى أساليب التعجّب مُتحدرة في طمأنينة ، مُتكرّرة في عذوبة ، مُتنقّلةٍ متداعية في تفاؤل وسكينة ( ما أطيب ، ما أوسع ، ما أرحب ، ما أعذب، ، ما أبأس، ما أضيق ) ويتداول الشاعر أوعية الفعل بين الزمان و المكان في تناغمٍ و أنسجامٍ ، وبين الرحابة و الضيق تتكرّر المفردات الدالّة على الزمن ؛أما المكان فهو يمتدّ من صفحات القلب والصدر في محيط الجوارح و النفس إلى الآفاق والدنيا والبحر والخيمة و الخميلة والجنة و الروح ؛ حيث التوازي بين اضطراب الموج وقلق النفس واطمئنانها ، وحراك الزمن بين التذكار الماضي و الحاضر الراهن ، وتتداخل الحقول الدلالية مُزهرة في وجدان المتلقّي فإذا الحزن والتيه والآهات والصبابة والسلوان و التوهج و الكآبة والاطمئنان و حراك النفس يتقاطع مع ظواهر الكون ومرابع الطبيعة ، وتنتهي القصيدة في تناميها وجدائل الدلالة فيها إلى محطتها الأخيرة متمثّلةً في زوال الركام وانزياح الغمام والاطمئنان إلى القرآن ألقى بكل كآبة ثم انتحى روحا يعانق قلبه القرآن وفي قصيدة ثانيةٍ عنوانها (اشتهاءاتي) حيث التزام تفعيلة الكامل أيضا بين (متَفاعلن ومتْفاعلن ) بين الإضمار و الإتمام ، ما يتّسق مع سلسلة من البوح بالأحوال و الرغائب ، في ثلاثة محاور تتواصل و تتدايرالقراءة ، والعنوان الذي يوحي بظلال الرّغبة الفائقة في حسِّيّة ملموسة ؛ فالشهوة تصل الرغبة بذروة تطلعاتها لتلامس سقفاً لا مسافة بعده ،مقرونةً إلى ضمير المتكلم ، وأول هذه المحاور وصف الحال الراهنة ، فهو يصرّح ولا يُلمّح ؛ فثمة مشاهد مرئيّة تستوعب حركة الجوارح مابين السير بين أكداس الورق والغناء المبحوح و التبرم الضّجِر والنوم المستغرِق والاغتسال الرهيف ؛ وكلها أفعال روتينية تفصح عن معتاد الحركة وهُويّة صاحبها في جملِ اسميّةٍ تقريريّة تلتقط ُبعدستها صُوراً لأنماط الحياة المتكرّرة ، وتختار مفرداتها من الشائع و المألوف في جمل اسمية تعبّرُ عن الاستقرار ، ومجازات بين استعارة قريبة وكناية شفيفة ، ولغة حميمة ومحاذاة لحركة الأكوان ورتيب الأزمان: وأنا الذي لا شغل لي .. غير التسكع بين أكداس الورق وقراءة الأشعار في الإصباح أو عند الغسق وغنائي المبحوح للأمطار و الأشجار / للتبرم و النزق و المحور الثاني الرغبة في التحوّل و التغيّر بادئا بفعل الإرادة :إني أريد : سلسلة من الرغبات تُكنّي عن ممارسة الحرية في رفقة الأكوان، وبكارة الأزمان، ليلاً ونهاراً فجرا ومساء والتحرّك عبر الرغبة مطلقةً من القيود و السدود والغناء والانتشاء وبكارة الطبيعة قفاراً وجبالاً وطيراً وأغصاناً وبكاءً للفراق وغناء للتلاق؛ وأما المحور الخاتم فيمسك بأذيال النهايات في الزمن الأخير : الشيخوخة في طمأنينتها خشوعاً في الصلوات و الخلوات و الدعوات والرحمات والحركات و السكنات ختاماً بالسجود و الهجود ، واستلهام المفردة القراآنيّة الدالة على الهدوء والسكون( في جوف ليل المخبتين وما وسق) وحدة عضويّة وثيقة وبوح شعريّ صادق . وانهمار دلالي سخيّ. وفي قصيدته المرثية الملحميّة (ذكرى عصيّة) انهمار غزير يتدفّق في كلمات موجوعة مرهقة بالحنين ،مُشبعة بالوفاء، مثقلة بحمولة وجدانيّة ينوء بها قلب شجيّ وفؤاد مكلوم ؛ يبدؤها بتوصيف ينوء بأحمال من الحزن تليها صورة تمثّل مشهداً مقتبساً من مألوف الجمال مُشتقّاً من جمال الطبيعة، مُشبعاً بحركة جياّشة من زمن مضى وانقضى؛ ولكنه يسكن الوجدان و لا يغادر الجنان ، تتقاطع فيه المطلقات المجرّدة مع المشاهد المحسوسة المُبصرة ، في سلسلة من السكون و الخشوع و الرضا مصادر الرؤيا وأطياف السكينة ، تقابلها في تنامٍ وجدانيٍّ نقائضها من اللوعة و الجوى و الفقد والأنين في صورة صادمة ، تتعامد فيها الأزمان و تتقارب متباعدة مابين حاضر محزون وماض مخزون في تلافيف الذاكرة و سويداء القلب ، ورد من الأنس الذي طارحته ومن الرضا و القرب للمظنون جاولت أن أنسى و لكن الجوى والفقد يوقظ لوعتي و أنيني. بَثّ ونجوى وشكوى ووصف للحال و المآل ، في لغة تعتمد على الفعل في زمنه الراهن وتدفقه الواهن ، وحراكه وإيقاعاته التي تنسجم مع حركة النفس ولواعج القلب ، والنّدب واستلهام تراث العشق بظلاله وما يحيط به من تفاصيل، تستعيد أنفاس المحبين ولواعج العاشقين . أما القصيدة الرسالة فهي إحدى الظواهرالشعريّة لدى شاعرنا سليمان العتيق ، وهي تخالف المنطق المألوف في الخطاب التواصلي المباشر المعتاد في الرسالة ؛ إذ يعمد إلى رسم الصورة التي تحمل الخصائص الفكرية و النفسية و النمطية (البورتريه) إذ تتواشج شخصيته بمحيطها الطبيعيّ تؤثّر فيها وتتأثّر بها وتختزل بعض صفاتها ، وهي ذات بناء مقطعي ؛ في الأول منه تتصادى الشخصية مع محيطها فثمة أعاصير ومنحى وتيه ونشيج وصياح وهو : مُدركات تشكّل خلفية الصورة وتداخلت معها(والريح ضجت ثورة بين جنبيك وذئب قد عوى ) فثمة تجسيد للمجرّدات التي تحولت إلى فضاء مكانيٍّ كونيٍّ وتوحّد بين حراك الطبيعة وأحيائها وحركة الجوارح وآلام النفس وصراعات الآلام والأحزان؛ تشكيلة متواشجة في صورة تعصف في داخلها موجبات الشَّجن في تعالقاتها المتعدّدة مع ما حولها وما يكافئها من هواجس النفس و آلام الروح حيث الالتفات في الخطاب يُغذّي هذا الحراك ويُشعل أُوارَه ، وفي تنامٍ انفعالي وجدانيٍّ يقف الشاعر ليستشرف ما يدور في أعماق المخاطب مُرهفاً سمعه لما يهجِس به مصوّراً له في مشهدٍ تتشابك فيه خلجات القلب وهموم الروح وأحلام النفس في تمثيلٍ حيٍّ منظورٍ يختزل الكدح والمعاناة : ترهف السمع .. لأنات الحيارى ولحلم قد توارى خلف ركب التائهين خلف كدح الممعنين لينتقل بعد ذلك إلى الخطاب المباشر عبر أسلوب النداء للبعيد فيغوص في الأعماق ليستلَّ منها ما يضطرب في دواخله من إحاسيس الغربة في مقطع طويل يخاطب فيه الشاعر(القصيمي) ملتقطاً ما يهجس به وما يتراءى له، في تقصٍّ حميم لحالته النفسيّة من غُصَصٍ و أكدارٍ و أمنيات و خواطرٍ وبوحٍ وأنينٍّ مستدعياًّ عبر انثيالاتٍ منهمرةٍ كل ما يخامره من أشكال الألم و الحلم و الرغبة في لغةٍ وصفيةٍ تقريريّةٍ تصويريّةٍ؛ وكأنه يوَجِّه عدسته اللاقطة إلى أعماقه،وإحساسه بعذابات الآخرين محاولاً استدراجه إلى حوارٍ يستأثر به في تأمّل المصائر و الأقدار ،ضاربا الأمثلة الكونيّة في سلسلة من التساؤلات التي تضطرب بينت جوانحه ؛ وقد عمد إلى تساؤلات تحمل معنى التقرير و التنبيه ، ومتقصّية مستقرئة في صيغة الاستفهام المرتكز إلى النفي الظاهريّ و الإثبات الضمنيّ ، ويمضي في تساؤلاته إلى أن يرسو في مرفأ يفضي به إلى خلاصة فكره وتشخيص حالته وتصوير رؤاه ، مُنبِّها له، فيصفه بأنه ضارب في التيه غاضب باكٍ مقيَّد بتراب الأرض ووحشة الليل و، سلسلة من الأحوال والصفات في لغة بيانيّة مجازيّة ساطعة. وهذا المنهج التصويريِّ الوصفيِّ الكنائيِّ الاستقرائيِّ للأحوال و الأزمنة و الأمكنة وهواجس النفس والإلمام بتفاصيل الموقف في وصفيّاته ورسائله وأحزانه و وطنياته، كما في تتبدّى فقصيدته عن بيروت ومناجاته واستكشافه لأغوار الذات في قصيدته (كن كما أنت) حيث التقاطع بين الذات الشاعرة ومشاعرها تجاه الجمال: مُطلقاته وأزمنته و روحانيّته مما يحتاج في تحليله إلى صفحات ورثائيّاته و لواعج قلبه كما في قصيدته (لا أستحي) أو في مفاهيمه الإبداعية في نصّه (الشعر) و (الشعر و الذكرى) و(انثيالات الغربة) فهو شاعر وجداني في معجمه وصوره واشتعالاته التي تظهر في لغة حيويّة تتنقل صيغها مابين التقرير و الاستفهام و النداء و التساؤل و الاستجواب و التعجب و الحوار و التكرار ، ولا أستطيع في هذه العجالة أن اقف عند ما يستوقفني في هذه المجموعة المتنوعة في بحورها و إيقاعاتها ورؤاها وموضوعاتها ؛ إنما أكتفي باللمحة العابرة و الفكرة الشاردة والإطلالة الوامضة مُنبّهاً إلى إمكانات الدراسة المعمقة لهذه النماذج الفاخرة من الشعر محاولاً التقاطها من بين صفحات هذا السِّفر داعياً إلى استقلالها في ديوان خاص يمكّن الدارس من تأمُّلها في سياقها الكلي مع يقيني بأن هناك قصائد أخرى ضاق عنها هذا الكتاب . ولعل لي عود إذا سمح الوقت مجددا إن شاء الله.