بعد طول انتظار وترقب اتحف معالي الشيخ جميل الحجيلان القراء- في المملكة والعالم العربي والناطقين باللغة العربية- بمذكراته التي أتت في جزأين ضخمين يربوان على ألف وأربعمائة صفحة. وهي ليست مذكرات فقط، بل إنني أعتبرها كذلك قصة- أو رواية- واقعية وممتعة- بسبب جمال تسلسل أحداثها وكثافة المشاهد والحالات النفسية والذهنية فيها ووفرة الأحداث ومواقع الإثارة فيها؛ وهي إثارة غير متخيلة من صاحب المذكرات، بل تعكس الواقع الذي عاشه بأفراحه وبعض أتراحه، كما أنها ثرية بالدروس والعبر والطرائف، وشدتني في صفحاتها الشفافية والصدق والوضوح، من خلال المباشرة الناعمة وغير المتكلفة في السرد، التي تريح القارئ من عناء التفكير فيما قصده كاتب المذكرات من هذه الفقرة أو تلك من محطات هذه المذكرات، فضلاً عن توخي الدقة في توثيق التفاصيل، وما أغزرها من تفاصيل. ومن العبث إعادة سرد بعض ما هو مرويٌ في هذه المذكرات. وأؤكد على أن هذه السطور ليست إلا مجرد وقفات وخواطر، وأنها ليست عرضاً لما ورد في هذه المذكرات؛ ولو أردتها عرضاً لِما في جزئيها لتطلب الأمر كتاباً آخر، لا مقالاً من جزأين أو ثلاثة أو أربعة. هذه مذكرات- كما أسماها كاتبها (ج. 1، ص. 563)، وهي سيرة ذاتية أعدها لأبنائه وأحفاده، وليست تأريخاً لأحداث وطنه، كما ذكر في الجزء الأول من المذكرات (ج. 1، 461)، يتخللها- كما يقول هو- «مزيج من الخواطر يتوارد من هنا وهناك...» (ج.1، ص. 588). وعلاوة على ما تضمنته دفتا جزئي المذكرات من أحداث كثيفة وتصوير لمشاهد إنسانية عديدة في مسيرة الكاتب الذاتية والرسمية، وبالإضافة إلى كم ضخم من المعلومات والتفاصيل ذات العلاقة بالدبلوماسية السعودية وبالإعلام السعودي وبالمجتمع السعودي بوجه عام، منذ بداية سبعينيات القرن الهجري الماضي- الخمسينيات الميلادية-، ففي هذه المذكرات قصصٌ عديدة يتوفر في معظمها عنصر الإثارة؛ وبلا شك الدروس والعبر؛ وتذكرني هذه القصص عندما أنظر إلى الأثر الذي تتركه في النفس بمجموعات القصص القصيرة للروائي البريطاني الشهير سومرست موم، التي طالما استمتعت بقراءتها في مرحلة مضت، أو بعض المشاهد في بعض قصص الروائي والطبيب السوري الراحل الدكتور عبدالسلام العجيلي، ابن مدينة الرقة، الواقعة على نهر الفرات، على مسافة 130 كلم شمال غرب دير الزور، المدينة التي ولد فيها صاحب المذكرات: «جميل الحجيلان.. مسيرة في عهد سبعة ملوك». وإذا ما تركنا جانباً ما صوره كاتب المذكرات من لوحات وضع فيها بعض تفاصيل مرحلة طفولته؛ طفولة ابن «العقيلي» الذي عاش في كنف والدته، وفي رعاية جدته التي جسدت في ذهنه معاني الكفاح والصلابة، ومعاناته مع افتقاد وجود والده عدة شهور كل عام، بحكم ظروف تجارته؛ إذا ما وضعنا ذلك جانباً نجده قد صوَّر وضع منطقة من سوريا خلال فترة الاستعمار الفرنسي- المسمى انتداباً-، مع تفاصيل مدهشة تتراوح ما بين الاضطرار لتجديد الإقامة كل عام، وتفتح الوعي السياسي، والجو العام الذي كان يلتهب تارة ويخبو تارة أخرى، بفعل المقاومة السلمية وما كان يرافقها من مسيرات ومظاهرات وقصائد حماسية؛ كيف لا والأهالي يرون «الطائرات تنطلق من قاعدتها عند أطراف المدينة وتندفع في التحليق على انخفاض يكاد يلامس أسطح المنازل، كأنها تحاول اقتلاع الأسطح والجدران وتدمرها على كل من فيها، لتثير الرعب في قلوب المواطنين... أما الرجال فقد كانوا يلتهبون بمشاعر الغضب وهم يصبون اللعنات على فرنسا ويدعون عليها بالدمار». باختصار، تصوير ما عاشه طفل في بلد طبع شعبه على الاعتزاز بعروبته، في سوريا التي وصفها الحجيلان- الجزء الثاني، ص. 539- بأنها «دولة شعبها قومي الفكر والمشاعر، العروبة خبزه، وماؤه، وهواؤه، توارثت أجياله هذا الاعتزاز القومي، هذا التعلق بكل ما هو عربي، وقدم الشهداء تلو الشهداء، حماية لعروبة سوريا من الهيمنة العثمانية، والانتداب الفرنسي عليها...». قلت إن بعض ما ورد في جزئي المذكرات- وهو كثير- يستحق وبجدارة أن يكون مجموعة قصص قصيرة ومثيرة، وكان بوسع الكاتب أن يتوسع في إيراد تفاصيل أجزم بأنه لم تتسع لها صفحات هذه المذكرات- على ضخامتها- ليقدم للقراء لوحات إنسانية أدبية وفنية واقعية؛ ولو كان لي أن اقترح بعضاً من عناوين القصص الواردة في المذكرات، لاقترحت العناوين التالية: «الأبُ الغائب»، «الجدة التي علمتني الصلابة»، «قوميٌّ مبتدئ»، «استعرت العباءة وغاب الملك فاروق»، «شاهد على حريق القاهرة»، «حياة رتيبة في جدة»، «ضيف إسباني في المربَّع»، «مع سفير مُسن في بلاد الشاه»، «في بلاد مصدق والشاه المذعور»، «بؤس دبلوماسي في كراتشي»، «من متاعب المنصب الأول»، «غُربة سفير في بلد قريب»، «متاعب مع الترميز والرموز»- إشارة إلى مقال وكتاب وردت قصتاهما في المذكرات-، «إعلان جارح في بلاد الألمان»... مدرسة الثقافة الشعبية لطالما تساءلت حينما كانت تمر تحت نظري مقالات وأخبار عن مؤسسة الثقافة الشعبية: ما هي هذه المدرسة؟، هل هي حكومية» أم أهلية؟، ومن هو مؤسسها؟- ولم أجد لها أثراً في المراجع التي تناولت مسيرة التعليم في المملكة-، أم هي مبادرة تحولت إلى مؤسسة عملاقة مثل مدارس الفلاح التي أسسها محمد علي زينل، الشيخ والتاجر الذي ذاع صيت نبله ومكارمه وأياديه البيضاء الجزيرة العربية ومنطقة الخليج وشبه القارة الهندية؟ جاء الجواب الشافي على تلك الأسئلة في الجزء الأول من هذه المذكرات (ص ص. 130-134). لقد كانت مبادرة فرد- أحمد صلاح جمجوم- انضم إليه قرابة خمسة عشر شاباً من خريجي الجامعات والمعاهد المصرية، تطوعوا- مع زملاء لهم انضموا إليهم لاحقاً- لتلبية نداء الواجب، وأداء ضريبة العلم، من خلال مدرستين لاستكمال تعليم بعض أبناء وطنهم، ممن لم تتح لهم فرصة مواصلة التعليم الثانوي أو الجامعي. كان ذلك في ربيع عام 1951 م- في بحر عام 1370 هـ. لم أجد الجواب في مقالين نشرا عن «المؤسسة السعودية للثقافة الشعبية»- بعد إطلاق تلك المبادرة بفترة وجيزة- في الصفحة الأولى من صحيفة «البلاد السعودية»؛ الأول «خطاب الأستاذ حامد دمنهوري بين يدي سمو الأمير عبدالله الفيصل.. في الحفل الجامعي»، في العدد 1121، الصادر في 3 ربيع الأول 1371 هـ، الموافق 1 يناير 1952 م، والثاني بقلم محسن باروم: «أيها المواطنون الأعزاء: هذه هي المؤسسة السعودية للثقافة الشعبية»، المنشور في العدد 1123، الصادر في 8 ربيع الثاني 1371 هـ، الموافق 6 يناير 1952 م. وكلا الرجلين كانا- على ما اعتقد من بين المجموعة المؤسسة التي تحدث عنها الحجيلان في مذكراته، وهما- كما هو معروف- من بين أوائل الذين تبوؤا مسؤوليات كبرى في وزارة المعارف بعد تأسيسها عام 1373 هـ. العباءة المستعارة وقصر عابدين من بين ما ورد في المذكرات من قصص، تلك المتعلقة بتكليفه بإلقاء كلمة باسم البعثة التعليمية السعودية، في مأدبة العشاء التي اعتاد الديوان الملكي في مصر أن يقيمها في شهر رمضان من كل عام، تكريما للطلبة المسلمين المغتربين في مصر، ويشرفها «صاحب الجلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان». يقول الحجيلان إنه كان مطلوباً من الطلبة المدعوين أن يرتدوا ملابسهم الوطنية، وأنه استعار من زميله عبدالرحمن البيز– الطالب في كلية الحقوق آنذاك السفير لاحقاً- عباءته ليتمكن من حضور المناسبة، ولن استطرد هنا في إعادة سرد ما رواه الكاتب. وكم تعجبت بعد قراءة تلك القصة- وهي قصة قصيرة بالفعل- عندما تذكرت حادثة مشابهة حدثت بعد ذلك بعام. يروي الوجيه والتاجر الكويتي صالح حمود العلي الشايع في مقابلة أجريت معه عام 1987 م، في برنامج «صفحات من تاريخ الكويت» أنه قدم من بومبي- حيث كان يقيم منذ عام 1922- إلى القاهرة في مطلع شهر يناير 1952 م، لحضور حفلة من حفلات أم كلثوم ولزيارة بعض أصدقائه. وصادف أن وصلته دعوة لحضور حفل عيد ميلاد الملك فاروق في قصر الزعفران بالقاهرة يوم 11 فبراير 1952 م. ويقول إنه تردد في حضور الحفل ثم قرر ألا يحضر. وقبل الحفل بيومين التقى الشايع بأبي سليمان، محمد الحمد الشبيلي الذي صادف أن كان متواجداً في القاهرة آنذاك. وخلال ذلك اللقاء علم الشبيلي من الشايع أنه مدعوٌ لحضور الحفل، وأنه غير متحمس لذلك، قائلاً: «والله ما عندي استعداد اشتري ردنجوت- بدلة سوداء، طويلة من الخلف ترتدى في بعض الحفلات الرسمية- وجوتي أسود- أي حذاء أسود». فقال له أبو سليمان: «ليش ؟ هذه فرصة العمر ولا تتفوت»، وأمام حيرة الشايع قال الشبيلي: «الحل عندي، البس لباس عربي...»؛ وأعاره أبو سليمان عباءة- بشتاً وملحقاته من طاقية وغترة وعقال. وحضر الحفل. ويقول الشايع على سبيل السخرية من نفسه: «لم أكن أعرف أن وجهي كان وجه نحس على الملك فاروق، إذا كان ذلك الحفل آخر حفل يقام لعيد ميلاده». ومثلما حدث مع الحجيلان في مأدبة العشاء في عابدين، لم يحضر الملك كذلك حفل عيد الميلاد الذي حضره الشايع، إذ كان الملك- وقت بداية الحفل الساعة الرابعة عصراً- يعقد قرانه على الملكة ناريمان. وذكر أن الذي كان يستقبل الضيوف بدلاً من الملك كان رئيس الوزراء النحاس باشا، والذي رآه الشايع مرهقاً وفي حالة تثير الشفقة وهو في ذلك السن المتقدم، إذا كان في اليوم نفسه قد عاد إلى القاهرة من بلدته سمنود في صعيد مصر، بعد تلقي التعازي في وفاة أخيه، وحضور مراسم دفنه. وعندما سأله المذيع رضا الفيلي: من هو الشبيلي؟، رد الشايع: «هذا أشهر سفير سعودي على الإطلاق». وصالح الشايع كان يدير مع أخ له فرع بيت عائلة الشايع التجاري في بومبي- واحد من أكبر البيوت التجارية في الكويت- قرابة خمسة وثلاثين عاماً، منذ بداية العشرينيات وحتى منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي. رحم الله الشبيلي والشايع. الشبيلي تحدث عنه الحجيلان (ص ص. 215-217) حديثاً رائعاً ومؤثراً، مقراً بفضله ومعروفه عليه، وهو أمر ليس بالمستغرب من كل من كتبوا عن رجل مثل ذلك السفير الأسطورة؛ وكم هو نبيل قول الحجيلان: «كتب- أي الشبيلي- لكل من الملك سعود، والأمير فيصل وزير الخارجية اللذين كانا يُقَدِرانه، ويَعرِفان مدى إخلاصه، كتب لهما يوصيهما بموظف واعد كفؤ اسمه جميل الحجيلان، ولن أنسى فضله عليّ عندما ساند تعييني مديراً عاماً (لمديرية) الإذاعة والصحافة والنشر...». ولن استطرد هنا في الحديث عن الشبيلي. متاعب في كراتشي واتصالاً بالشبيلي الذي عمل مع الحجيلان خلال فترة خدمته في سفارة المملكة في كراتشي، روى الحجيلان تفاصيل مثيرة عن قصة الكلمة الترحيبية المثيرة والمشهورة، التي كادت أن تتسبب في أزمة دبلوماسية، بل وفي قطيعة كاملة في العلاقات بين المملكة والباكستان. كان ذلك عندما نشرت صحيفة «اليمامة»- في العدد 46، في 11 صفر 1376 هـ، الموافق 16 سبتمبر 1956 م- كلمة ترحيبية برئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، الذي كان سيزور المملكة ذلك الشهر. وكانت المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر قد أوعزت للصحف المحلية بنشر كلمات للترحيب بالزعيم الهندي الزائر للمملكة. كان الاعتقاد السائد لدى من قرأوا عن تلك الحادثة التي- بسببها- أوقعت على «اليمامة» وصاحبها الشيخ الجاسر عقوبة معروفة، أنها وصفت لال نهرو بأنه «رسول» السلام. ولم يكن أحد يعرف شيئاً عن الوجه الآخر لتلك الحادثة؛ تلك الأزمة الدبلوماسية الحادة التي كادت أن تعصف بالعلاقات بين البلدين. ومع ذلك فلم تُوقَف الصحيفة، إذا صدر العدد التالي- العدد 47- وما بعده بانتظام. ولم يمض عام إلا وتحدث حادثة أخرى كادت أن تعصف بالصحيفة؛ نشأ عنها مرة أخرى توتر شديد في العلاقات بين الباكستان والمملكة وتسببت في إيقاف الصحيفة بضعة أسابيع، والمتسبب فيها هو سطورٌ بقلم عمران العمران- نشرت في العدد 96، في 20 صفر 1377 هـ، 14 سبتمبر 1957 م- في الزاوية الأسبوعية للعمران. تناول العمران بالنقد «الآغا خان»، زعيم الطائفة الإسماعيلية التي تحدث عنها الحجيلان في مذكراته (الطائفة الإسماعيلية، ص ص. 196-199)، ويقول الشيخ حمد الجاسر عن تلك الحادثة في كتابه من سوانح الذكريات (ص ص. 989-990): «وكان مما حدث أنني في شهر محرم سنة 1377 هـ (1957) وصحيفة «اليمامة» في سنتها الرابعة رأيت قضاء فترة من الوقت في مصر، وفي مساء اليوم الذي قررت السفر في صبيحة اليوم الذي يليه... أسندت عمل الإشراف على شؤون الصحيفة للأستاذ عمران بن محمد العمران... ولكني لم أشعر وأنا في القاهرة استمع إلى إذاعة لندن في أحد أيام آخر شهر صفر، ولم استكمل الشهر في غيابي إلا بإذاعة خبر فحواه: أن الحكومة السعودية قررت إيقاف صحيفة «اليمامة» مدة شهر، ومحاكمة صاحبها لنشرها مقالاً يمس الحكومة الباكستانية». وبقية القصة ذكرتها في احدى حلقات المقال الذي نشرته عن «عمران العمران» في هذه المجلة قبل شهرين؛ لكن الذي تمنيته بعد قراءة مذكرات الحجيلان هو لو أنه أورد الوجه الآخر من هذه الحادثة وهو في موقعه في السفارة السعودية في الباكستان. ولعله أراد بالحديث المطول عن كلمة «مرحباً برسول السلام» فقط الاكتفاء بإيراد مثال واحد من أمثلة الأزمات التي تسببت بها الصحافة في تعكير صفو علاقات دبلوماسية بين بلدين صديقين. واتصالا بالباكستان التي كانت المحطة الدبلوماسية الثانية للحجيلان في النصف الثاني من خمسينيات القرن الميلادي الماضي، هذه حادثة ثالثة سمعتها من الشيخ حمد الجاسر خلال أحد لقاءاتي به في منزله بالرياض في صيف عام 1991 م، تتعلق بالمملكة والإعلام والباكستان، وحدثت بعد عودة الحجيلان إلى المملكة وتعيينه مديراً عاماً للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ثم إعفاؤه وعودته إلى مقر وزارة الخارجية. كنت قد سألت الجاسر عن رحلته إلى الباكستان في جمادى الثانية 1381 هـ، الموافق لديسمبر 1961 م، والتي دامت أسبوعين، مع كل من الصحفيين ياسين طه ومحمد أحمد جمال. وكان مما قاله الشيخ حمد عن تلك الرحلة- التي كانت بدعوة من الحكومة الباكستانية- أنه وزميليه زاروا ضمن جدول برنامج الزيارة وزير خارجية الباكستان في مكتبه. ويقول الجاسر إنه فوجئ بأحد زميليه خلال اللقاء مع الوزير ينتقد أمام الوزير سجن الحكومة الباكستانية للشيخ أبو الأعلى المودودي، وطلب منه الإفراج عنه. فور خروجهم من مبنى وزارة الخارجية- وقبل ركوب السيارة- انفجر الشيخ الجاسر في وجه زميله غاضباً، ومعاتباً إياه على عدم احترام أصول الضيافة والتطاول على بلد يحلون ضيوفاً عليه. كان الشيخ أبو الأعلى المودودي قد سُجن بسبب معارضته الشديدة للرئيس محمد أيوب خان، الذي وصل إلى الحكم بعد انقلاب عسكري على الرئيس إسكندر ميرزا عام 1958 م. والعجيب أنه بعد الإفراج عن أبي الأعلى المودودي استمر في معارضته القوية للرئيس محمد أيوب خان، وأيد بقوة ترشيح السيدة والطبيبة فاطمة علي جناح- أخت زعيم باكستان التاريخي محمد علي جناح- لرئاسة الباكستان، في الانتخابات التي أجريت عام 1965 م. ويقول طبيب وسياسي سوداني شاهدت مقابلة معه منذ سنوات أن عدداً من الأحزاب والشخصيات السودانية أيدت ترشيح فاطمة أخرى- السيدة والزعيمة الشيوعية فاطمة أحمد إبراهيم- في الانتخابات البرلمانية التي أجريت ذلك العام، والتي فازت فيها بأحد المقاعد، لتكون أول امرأة عربية تفوز بمقعد في انتخابات برلمانية. ويذكر ذلك السياسي- الدكتور الأمين محمد عثمان- أن تلك الشخصيات والأحزاب- بما فيها الحزب الشيوعي- قد استندت في حملتها لدعم ترشيح تلك القيادية الشيوعية في مواجهة معارضة أحزاب تقليدية قوية إلى أن الشيخ أبو الأعلى المودودي دعم ترشيح امرأة لرئاسة الباكستان. وقال الدكتور عثمان بأن الصحافة الباكستانية قد سألت أبو الأعلى المودودي حينذاك: كيف تؤيد ترشيح امرأة في مقابل مرشح ذكر؟ فقال: هنالك شرطان في الإسلام لتوفر الأهلية لتقلد منصب الرئاسة: الذكورة والدين. والسيدة فاطمة علي جناح أنثى وعندها دين، بينما محمد أيوب خان ذكر، ولكن ليس عنده دين، والدين مقدم على ما سواه، سواءً كان المرشح ذكراً أو أنثى !! ولا يسعني أن أختم هذه الحلقة من هذه الوقفات والخواطر دون أن أتطرق إلى ما ذكره الحجيلان عند حديثه عن إلغاء المملكة لاتفاقية الظهران (ج. 1، ص ص. 256-263)، وهي اتفاقية وقعتها المملكة بعد موافقة الملك عبدالعزيز، لتقديم تسهيلات للطيران الأمريكي في 23 يونيو 1949 م، ونصت في مادتها التاسعة عشرة على عدد من القيود على استخدامات تلك القاعدة، وجددت- أي الاتفاقية- في شهر رمضان 1376 هـ. صدر قرار مجلس الوزراء برئاسة الملك سعود بعدم تجديد تلك الاتفاقية- أي إلغائها فعلياً- يوم 19 مارس 1961 م. ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية فعلياً في حاجة إلى تلك القاعدة بقدر حاجة المملكة إليها، حيث كان الطيارون والعسكريون السعوديين يتلقون بعض تدريباتهم فيها (انظر على سبيل المثال «البلاد السعودية»، العدد الصادر في 13 جمادى الأولى 1372 هـ، الموافق 29 يناير 1953 م، «مع الطيارين السعوديين في الظهران»، وانظر العدد الصادر في 27 جمادى الأولى 1373 هـ، الموافق 1 فبراير 1954 م «الشباب في المطارات.. مدرسة التدريب في الظهران»... ثم إن بريطانيا- حليفة الولايات المتحدة الأمريكية- كانت مهيمنة هيمنة مطلقة على كل إمارات الخليج العربي واليمن الجنوبي ولديها قوة ضاربة لحماية مصالحها في المنطقة وفي غربي آسيا. وشاء الله أن تلغى تلك الاتفاقية قبل أشهر من انفصال سوريا عن مصر في 28 سبتمبر 1961 م، وانفراط عقد الوحدة، وقبل أن يصب نظام جمال عبدالناصر جام غضبه- عبر إعلامه- على المملكة وينفس عن جرح الانفصال- النازف في قلبه حسب قول الحجيلان (ج. 2، ص. 546)- بعد ثلاثة أشهر من محاولة الإفاقة من الصدمة، ابتداءً من مطلع شهر جمادى الثانية 1381 هـ، أوائل نوفمبر 1961 م، وهو سعار إعلامي اشتدت ضراوته بعد الانقلاب في اليمن- أو الثورة اليمنية- المدعوم من مصر في 26 سبتمبر 1962 م؛ سُعارٌ استمر سنوات، ولم يخمد إلا بعيد هزيمة 5 يونيو 1967 م- والتي تحدث الحجيلان عنها وعن ظروفها مطولاً في الجزء الثاني من المذكرات. أقول إن الله ألهم قيادة البلاد لتلغي المملكة الاتفاقية في 19 مارس 1961 م، أي قبل ستة أشهر من انفصال سوريا عن مصر. ولو أن الإلغاء حدث بعد الانفصال لكان الإعلام الناصري- في مصر وخارجها- قد صور ذلك على أنه إذعانٌ لإملاءاته، ونصرٌ مؤزرٌ «للقومية العربية» على الغرب، وإزالةٌ لأحد معاقل «الاستعمار» أو أوكاره في العالم العربي... وسيجد القارئ في مذكرات الحجيلان صفحات وصفحات طوال من الذكريات عن معايشة تلك الفترة العصيبة وتبعاتها على المملكة وعلى الإعلام السعودي في تلك الفترة والتعامل معها كمواطن عربي سعودي مُسلم وكمسؤول ورجل دولة، داخل المملكة وخارجها. تلك بعض من هذه الوقفات والخواطر، وأدع بقيتها لعدد قادم.