الروائي السوري خليل صويلح في « نزهة الغراب» ..

دراسات تقترب من «السيرة الذاتية » .

هل هو سيرة ذاتية؟!.. ربما من المبكر أن يكتب الروائي السوري(خليل صويلح)سيرته الذاتية وينشرها في كتاب وهو في منتصف الستينات من العمر ومازال في قمة عطائه الأدبي!.. سؤال يتبادر لذهن كل من يقرأ كتاب خليل صويلح الذي صدر عن دار نينوى للنشر بدمشق وحمل عنوان(نُزهَةُ الغُراب)وجاء بحوالي مئتي صفحة. ولكن هنا الناشر يعرّف الكتاب ويصنّفه على أنه(دراسات أدبية)ومن يتعمق في الكتاب الجديد لصاحب رواية(اختبار الندم)الفائزة بجائز الشيخ زايد للكتاب لعام 2018 وصاحب كتب:(وراق الحب وضد المكتبة وعزلة الحلزون)وغيرها, سيكتشف أن(نزهة الغراب)هو دمج ما بين بدايات(خليل)مع القراءة والكتابة وانطلاقه من قريته الريفية البسيطة في أقصى شمال شرق سوريا واستقراره في دمشق صحافياً وشاعراً وبعدها ليستقر في عالم الرواية, مع رحلته في قراءته لكتب لمبدعين منهم الكبير إبداعاً ومنهم الصغير المتسلق عالم الكتابة الابداعية ـ كما يصفهم صويلح ـ فينتقد هؤلاء بقسوة في كتابه الجديد والذي تقصّد بعنوانه أن يأخذ بعداً رمزياً في إشارة للغراب بقصة الطوفان حيث يتأخر الغراب في العودة إلى سفينة نوح بسبب جيفة صادفها في طريقه فاشتبك معها بمنقاره متجاهلاً مهمته في إيصال البرقية, فيما تُنْجِزْ الحمامة مهمتها كساعي بريد أمين, بغصن زيتون في منقارها, في إشارة إلى انحسار الماء عن اليابسة؟!.. ويتعمق صويلح في الرمز هنا ليقول لنا أن الغراب نفسه قد يجلب إلى رفوف المكتبة جيفاً لا تحصى من الكلمات المتفسخة لعطبٍ في الموهبة أو الذائقة .. واليوم تبدو المهمة أصعب بمراحل باقتحام المكتبة الالكترونية حياتنا!..(صويلح)هنا يرمز إلى أولئك الكتاب الذين قدّموا صخباً وضجيجاً فارغين كقرقعة دون طحين, وبالتالي يمكن لأي مثقف وقارئ جيد أن يكتشف ضحالة ما كتبوه من الأسطر الأولى وأن يكتشف الغث من الثمين فيما يُنْشَرْ وبغزارة في عصرنا الحاضر وخاصة(كتّاب وأدباء الغفلة)الناشطين على صفحات التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وغيرها, فيرى المؤلف هنا أنه في مواقع التواصل الاجتماعي نحتاج إلى مقبرة جماعية لدفن(الجيف), ذلك أن شعراء وشاعرات الفيس بوك على نحو خاص لا يستعملون جرس الباب في الاستئذان إنما يقتحمون جدران الآخرين مباشرة بكامل أخطائهم في النحو والإملاء والبلاهة. إذاً في سرد محبك والذي يبدأه بكلمات خالدة لأدباء ومبدعين عالميين متقصداً ذلك عندما يبدأ برسالة دستويفسكي إلى شقيقه ميخائيل قائلاً له فيها(أرسل هذه الكتب.. أرسلها.. أسرع, فعلى هذه الكتب يتوقف مصير حياتي)ويختم صويلح بمقولة غابرييل غارسيا ماركيز:(لقد انتهى كل شيء, وبقي ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كنّاس المسرح بعد خروج آخر الممثلين)..ففي كتابه وبأدوات الأديب الابداعية ولغته الرشيقة وبفضول الصحفي المختبئ بين ثناياه يقدم(صويلح)بشكل متقن وعبر فصول الكتاب الخمسين رحلته مع أول كتاب اقتناه وحتى الكتب التي اقتحمت حياته الكترونياً أو جاء بها. في الفصل الثاني من الكتاب وهو بعنوان(فتنة القراءة, جينات الكتابة)يروي(خليل)حكايته مع اقتناء الكتب وهو في بداية شبابه ومن ثم اقتحامه عالم الكتابة متسائلاً:(هل هي المصادفة وحدها من جذبتني إلى فتنة القراءة, أم إنها جينات غامضة تعود إلى أحد مؤسسي سلالة الحكي من أسلافي؟..)ويسترسل هنا: في خزانة خشبية صغيرة, داخل جدار غرفة الضيوف, كان أحد أعمامي يقتني مجموعة صغيرة من الكتب: لم تستهوني كتب جرجي زيدان كثيرا, تناولت مجلداً بعنوان” حياة الحيوان الكبرى” للدميري, كان أشبه بأنطلوجيا لأسماء وطبائع الحيوان والطير.. هذا الكتاب سيلهمني بعد خمسين عاماً تقريباً, ببناء روايتي(عزلة الحلزون). ولكن كيف أثّرت الحرب السورية الأخيرة والأزمة المستمرة منذ عام 2011 على كتابات صويلح؟!.. في تساؤله المرير المرتبك يظهر للقارئ حالة التشظي التي عاشها نفسياً وجغرافيا واجتماعيا: هل كان على الحرب أن تأتي الآن؟ بسبب الفزع والكارثة والأحلام المجهضة والكوابيس والحيرة, سأجد نفسي مرغماً على الانخراط بسرديات جديدة, لم تكن يوماً في خططي الروائية, فأن تكون في دمشق, على مرمى قذيفة طائشة, بالقرب من حاجز عسكري, من هدير طائرة حربية, من موجة اعتقالات, من جنون بشري, سيأتي النص إليك لا أن تذهب إليه؟ هكذا تسللت رواية(جنة البرابرة)مقطعاً وراء آخر, مثل يوميات سوف تتراكم على مدى ثلاث سنوات من التدوين, فقرر(صويلح)توثيق ألف يوم ويوم من التراجيديا السورية. وكيف أثرت عزلة الكورونا على خليل؟ في أحد فصول الكتاب وتحت عنوان(فحص فضائل العزلة وارتدادات حظر التجول)مستشهداً بمقولة الروائي الفرنسي ميلان كونديرا في كتابه الروائي حفلة التفاهة:(الكائن الانساني وحيد يحيط به وحيدون)يصف خليل العزلة الأخيرة: كانت عبارة(حظر تجول)تخص بيانات الانقلابات العسكرية في المقام الأول قبل أن نعظم السلطات في أنحاء العالم لمواجهة الوباء المستجد.. فيروس غامض يحمل اسماً أنثوياً ناعماً:(كورونا)وبصيغة علمية جافة(كوفيد 19)فيروس هز أركان الكرة الأرضية, وأثار الرعب والهلع بين البشر مثل مشهد مقتطع من جحيم القرون الوسطى, عابراً حدود القارات, واختام الحدود, شوارع خالية ومحال مغلقة, وكائنات هائمة, كما لو أن زلزالاً مدمراً أصاب المدن.. إنها عزلة قسرية في فضاء ضيّق ومغلق, و(حياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل) وفقاً لما يقوله الفيلسوف المتشائم شوبنهاور, مستعرضاً خليل هنا” مديح العزلة” متسائلاً: وهل سنطوي فهرس الأمس, في الكتابة و(مهنة العيش)فحسب ما يقول محمود درويش:)العزلة مصفاة لا مرآة). يتابع( صويلح)في فصول كتابه حديثه عن تأثير كتب قرأها على إنتاجه الأدبي وعن تجربة أدباء عاشها بقرب وحميمية أكثر من غيرها كحال فرادة تجربة( سركون بولص 1944ـ 2007) الشعرية والحياتية فخليل يعترف هنا في فصل( هناك باخرة ضائعة ترعى بين أحشائي): إننا نحب الشعراء الموتى, أولئك الذين غادروا باكراً, وتركوا لنا قصائدهم مثل تعاويذ تحمي أرواحنا من العطب, حين نكون(على حافة المتاهة)؟.. كما يتحدث خليل عن تجربة(شوقي أبي شقرا 1935)في فتنة الفاكهة المحرمة, ويفرد خليل فصلاً من كتابه للحديث عن صديق عمره الكاتب والأديب(بندر عبد الحميد)الذي رحل قبل أشهر. وفي فصل الكتاب(نعاس الحواس)يتحدث عن رؤوف مسعد(1937)وكتابة مذكراته دون مواربة أو تخييل, أو لعلّه يقوم بغربلة ما سبق أن أورده في رواياته كشذرات من سيرته الذاتية ووضعها في سياقها الحياتي؟؟!.. السؤال هنا هل فعل خليل صويلح في نزهة الغراب ما فعله رؤوف مسعد؟..(صويلح)هنا يقدّم جزءاً من سيرته وحكايته مع الكتب والكتابة خاصة وأن أسلافه قد يكونوا حكائين فانتقلت جينات الكتابة منهم له فجاء كتابه نزهة الغراب كسيرة ذاتية بشكل موارب قليلاً مع وجبة ثقافية دسمة للقارئ بكثير من التشويق والواقعية معاً.