جميل الحجيلان..

مسيرة في عهد سبعة ملوك.

مسيرة طال انتظارها، صدرت في كتاب ضخم يصل بجزأيه إلى ألف وخمسمئة صفحة محملة بالوثائق والصور، وأظنه سيبقى فترة طويلة أهم مذكرات ذات طابع سياسي صدرت في السعودية، ولكن الذي خلق لهذه المذكرات طابعها الفريد ليس فقط ثراء التجربة وتعدد مجالاتها بل هو في نظري لغتها الأدبية الراقية، لم يكن مستغربا أن تتألق اللغة الأدبية في مذكرات غازي القصيبي (حياة في الإدارة- سيرة شعرية- الوزير المرافق)، ولا تستغربها في مذكرات الدكتور عبدالعزيز خوجة الشاعر والوزير(التجربة)، ولكن أن تكون مذكرات الحجيلان ذات جمال أدبي أخاذ يجعلها في الصف الأول مقارنة بغيرها، فإنها مفاجأة سارة. الجيل الذي يصل حاليا إلى سن التقاعد لا يذكر أن الحجيلان قد فاز بالمركز الأول في مسابقة للشعر أقيمت خلال دراسته الجامعية في القاهرة، كما فاز بالمركز الثاني في سباق القصة القصيرة في ذات الوقت، ولعل أغلبنا لم يقرأ قصصه القصيرة التي كانت تذاع في الإذاعة السعودية يوم كانت تحبو. حين يذكر قصصه تلك فإنه لا يراها على مستوى قصص وشعر الكتاب الآخرين، ولكننا إذ نبحر مع الكتاب نجد مقاطع طويلة تحمل كل منها سمات القصة القصيرة الباذخة الجمال، خذ مثلا مقالته عن جدته آمنة، أو مقالته عن المناسبة التي حضرها في قصر الشاهنشاه في طهران والتي حضرتها الزوجة الثانية للشاه، خلب جمالها لب الدبلوماسي السعودي الناشئ ففاضت قريحته الأدبية باللغة الشاعرة، ليت الإمبراطورة المسكينة قد قرأت كلماته عنها، لكان لها خير العزاء عن البؤس الذي انتقلت إليه. لأنها لم تنجب ولي العهد، فاستبدلها الشاه، وحلت الإمبراطورة فرح ديبا محلها، الكاتب يأخذنا من حيث كانت تلك الأسرة تسكن الأفلاك إلى حيث تنكر لها الأهل والأصحاب، ذهب الثراء والجمال، وبقيت القبور والظلال. وفي حكايته عن إصابته بمرض السل (معالى الوزير… أنت مريض) قصة مثيرة أخرى. الرجل بارع في تتبع الأحداث والإضاءة على حكمة التاريخ. ففي مقاله الذي يتحدث فيه عن ذكرياته عند حضوره مؤتمر عدم الانحياز الذي عُقد في بلغراد يوغسلافيا، يتحدث عن نجوم المؤتمر، يصفهم بكل دقة وبأسلوب خلاب ثم يتابعهم إلى حيث ينتهي بهم الحال، تيتو الشخصية العظيمة الذي كان الأكثر نجوميةً والذي خلق لبلده مكانا مرموقا بكفاحه وحسن إدارته، انتهت يوغوسلافيا بانتهائه، النجم الثاني كان عبد الناصر، بعد المؤتمر بأسبوع حصل انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، طعنة قاتلة لم تأت عليه، تركت له أربع سنوات يعيشها حتى مات في هزيمة ١٩٦٧م، كذلك سوكارنو من اندونيسيا، ونكروما من غانا، ونهرو من الهند الذي انتهى كلٌ من ورثته نهاية مأساوية (انديرا غاندي وراجيف غاندي) رغم أن الشعب الهندي وضعهم في أرفع مقام. الاستثناء الوحيد كان شو إن لاى رئيس وزراء الصين عاش متألقا وانتهى كذلك، لم يرثه أحد ولم ينته إلى مصيبة، مقال من الأدب السياسي الرفيع يذكرك بقليل ممن وصل إلى هذا المستوى من كتاب الوطن العربي، يذكرك أحمد بهاء الدين، وهيكل، ومحمود عوض وسمير عطا الله. ولولا أن المقال لا يسمح بالاستفاضة لذكرنا الكثير من الأمثلة. نشأ طفلا في بادية دير الزور لأب يعمل في تجارة الخيول يغيب سنوات تاركا عائلته لأم من بنات عمومته ترعاهم صابرة محتسبة. تعرض للتنمر لأنه عقيلي، وهذا غريب فالعقيلي تحمل معنى المديح في دمشق، لكنه يعزو ذلك إلى الطبيعة القبائلية الطاغية في المنطقة، كما آذاه كثيرا طبيعة معاملة الموظفين الفرنسيين له بإهمال وعجرفة عندما يذهب سنويا لتجديد إقامته. ظل طوال عمره يكره العنصرية، احترق قلبه يوم زار أحد الوجهاء بعد أن زار نيلسون مانديلا مرحبا ممثلا الحكومة السعودية، فذكر له الوجيه صفات بالغة العنصرية عن الأفريقي الذي تهتمون به. ترى ماذا يقول الوزير إذا عرف ان عنصرية الكبار اليوم اخترقت براءة الأطفال وأصبح بينهم تنمر يعكس اضطراب الأحوال السياسية بين بلد عربي وآخر. كما تراه بين العرب في مراكز الجوازات العربية أيضا! انتقل إلى مصر ليصحب والده وإخوته غير الأشقاء، درس في مدرسة خاصة لأن لغته الثانية فرنسية، شعر باختلاف الثقافة السياسية بين سوريا ومصر، في سوريا تسكنهم القومية العربية، في مصر الهموم الوطنية هي الغالبة. درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول، لم توافق البعثة السعودية على دراسته تلك، إذ لا يعتقد بأنهم يحتاجونها في السعودية، ولكن بعد مرور السنة الأولى عدلوا عن قرارهم، فاتيح له أن يستفيد من دخله في البحث عن مصادر الثقافة، حتى إن صحفيا من السعودية عثر عند سور الأزبكية على كتب معروضة للبيع بعد أن قُرئت، بينها مجلد لمجلات الهلال، كانت للشاب جميل وعليها خطوطه وتعليقاته. عمل في وزارة الخارجية في جدة عملاً لا يوافق طموحاته، ولا يلبي حاجته للمال بعد أن أصبح يتكفل بأًسرة والده الكبيرة بعد وفاته. كتب في الصحيفة الوحيدة آنذاك “ البلاد السعودية” مقالات عن وكالات الأمم المتحدة، ثم كتب القصة القصيرة للإذاعة. وقام بالترجمة من الفرنسية إلى العربية عندما زار وزير خارجية إسبانيا الملك عبدالعزيز، وأخيراً استُجيب لطلبه بالالتحاق بالسلك الدبلوماسي، حتى يتحسن دخله ويوسع على عائلة أبيه، عمل سكرتيرا ثانيا في سفارة بلاده في طهران وكراتشي، المدينتان لا تُقارنان بالقاهرة ولا بالمدن الأوروبية، وكلتاهما تفتقر إلى مباهج الثقافة. لكن القارئ ظفر بحديث مهم عن أحداث انقلاب مصدق على الشاه، وتأميم النفط الإيراني، ثم عودة الشاه، كذلك هناك تفصيل مفيد عن تاريخ نشأة باكستان، ونشوء مشكلة كشمير، ثم الانقلاب على الديمقراطية في باكستان وحكم الجنرالات، وبعدها انفصال بنجلاديش، نتابع عائلة ذي الفقار علي بوتو ومآسيها التي شابهت في مصائرها مصير عائلة كينيدي في أمريكا، والأزمة العابرة بين السعودية وباكستان يوم أن رحبت جريدة اليمامة بنهرو ونعتته “رسول السلام” ، فأًبًعد الشيخ حمد الجاسر عن رئاسة التحرير، وتطاولت إحدى الصحف الباكستانية على السعودية، وكاد هذا يؤدي الى قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما. عاد إلى ديوان وزارة الخارجية ليجد أن زملاءه قد سبقوه في الترقيات، ولكن عودته جاءت في الوقت المناسب الذي نُحي فيه الشاعر عبدالله بلخير عن إدارة الاذاعة والصحافة والنشر، ومع دعم الشيخ محمد الحمد الشبيلي، أصبح الحجيلان مديرا لها. خلال العهد القصير استطاع إصدار أسبوعيةٍ باللغة الانجليزية توصل للسفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي أخبار السعودية، كما تم وضع أساس المبنى الجديد للإذاعة، وأصبح هناك تعليق سياسي على الأخبار يعده ويقدمه الحجيلان نفسه، واستطاع أن يطوق ثلاث أزمات كادت أن تعرض مجموعة من الصحفيين للمساءلة. ولكن هذه الفترة انتهت بسرعة ليعود عبدالله بلخير مشرفا، ويستعفى جميل، لأن العمل لا يدور برأسين، عاد سفيرا بوزارة الخارجية. ثم كُلف بالعمل سفيرا لدى دولة الكويت التي استقلت حديثا، وكان عبدالكريم قاسم حاكم العراق يدعى أنها جزءاً من العراق. في الكويت أحيط بالتكريم، وكان يحضر مجلس الأمير المفتوح كل يوم خميس دونا عن باقي السفراء، وأعطته الحكومة أحد قصورها ليسكنه، ولكن المواطنين الكويتيين كانوا يظهرون نفورا نحو السعودية، سببه هجوم الإعلام المصري على السعودية، كانت الصحافة والإذاعة المصرية حاضرة بقوة في المشهد الكويتي، ولكن لا وجود لصحافة السعودية، من يتلقون من السفارة نسخا من الصحف السعودية يعيدونها غير مقروءة، ولم تكن الإذاعة السعودية مسموعة. وتعرض ابنه للتنمر في المدرسة الابتدائية بسبب ألفاظ التخوين التي تُطلق من الإذاعات المصرية، وزعت السفارة كتابا للكاتب المصري محمود أبو الفتح عن جمال عبد الناصر لعله يساعد في إصلاح الحال، لكن المسؤولين في الكويت نصحوا بعدم توزيعه والاكتفاء بتوزيع الصحف السعودية. أجرى كبير مذيعى إذاعة الكويت موسى الدجاني (فلسطيني) مقابلة مع السفير، استمع إليها الملك فيصل فأعجبه أداء السفير. عندما اعترفت الكويت بالنظام الجمهوري في اليمن عاد الحجيلان إلى الرياض ليطلع حكومته شفهيا على بعض الملاحظات، والتقى الملك فيصل (ولي العهد) فكًلف بأول وزارة للإعلام. سنوات الإعلام صعبة لكن مبهجة توسع فيها الإرسال الإذاعي ليغطي أرجاء البلد والبلاد المجاورة، وأصبح هناك بث بالإنكليزية والفرنسية. دعا صحافيين لزيارة البلد والحوار مع المسئولين، اعتمد التعليق السياسي الرصين الذي لا ينجر إلى المهاترات، ويقدم الحقائق، أنتج فيلم هذه بلادنا، وفيلم الطريق إلى عرفات، كلاهما يوزع على نطاق واسع، محطات التليفزيون تتزايد فتغطى كافة الأنحاء، الجذب الإذاعي والتلفزيوني لاستعادة المواطن من الإذاعات الخارجية يستدعي إدخال المرأة مذيعة ومغنية وممثلة، وهذه أثارت الكثيرين وأحسب أن الحوار حولها أو ضدها لا زال مستمرا حتى اليوم وكلا الطرفين يجد أسانيد إضافية. تعرض بعض المشاركين في ندوة عن المرأة المسلمة إلى محاكمة، عوقب بعضهم بخصم راتب شهرين، شُكلت لجنةٌ للتعامل مع الشكاوى العديدة برئاسة الوزير وعضوية اثنين من علماء الدين وشخصيات حكومية، مال علماء الدين الى الرأي المتحفظ، فوجئ الحاضرون إذ أبلغوا باغتيال روبرت كينيدي ساعتئذ، فأُجل النقاش إلى لقاء لم يعقد بعد حتى اليوم، يتلقى الملك الشكاوى فيحولها إلى وزيره دون تعليق، والوزير آخذ بزمام المبادرة، أصبح التلفزيون اداة الترفيه الوحيدة في بلد لا زالت على مشارف الصحراء حيث القيظ ولفح الهجير والغبار، استمرت برامج لسنوات بنفس الزخم، برنامج نور وهداية للشيخ علي الطنطاوي استمر ثلاثين عاما، وكذلك برنامج الطب والحياة للدكتور زهير السباعي، ليلة العيد كانت بداية البث التلفزيوني في المدينة المنورة ، غنت أم كلثوم “ يا ليلة العيد أنستينا” وغنت فيروز “ غنيت مكة أهلها الصيدا”، سر الناس، جاء مراسل مجلة ناشيونال جيوغرافيك ليصور البلاد من أقصاها إلى اقصاها، آبار البترول، والربع الخالي، ثم دخل مكة حاجا فقد أعلن إسلامه رغم شكوك الوزير، ولكن لا أحد يستطيع حرمان مسلم من الحج. تحولت صحافة الأفراد إلى صحافة مؤسسات. يتحسر الوزير على أن المؤسسات لم تطور نفسها عندما أقبل عليها الثراء، لم نر معاهد أبحاث مثلا كما في الأهرام، وزادت الصفحات لتستوعب الاعلانات التي درت ملايين توزعها المساهمون، لم تتطور كما يجب، ولذا تكاد تنتهي. ولا زالت الرحلة تعطينا المزيد من المعلومات والأسرار والإثارة، هموم وزارة الصحة، ثم سفارةً في ألمانيا عامين، وبعدها عشرون عاما في فرنسا، الحجيلان أفضل من يستطيع حشد القوة الناعمة التي تملكها السعودية، بينما يتألق هو بلغاته العربية والفرنسية والانجليزية، وبالحمل الثقافي الضخم على كتفيه، وتتألق السفيرة أم عماد بأثوابها العربية التراثية المطرزة التي تبرز منها إطلالة نسائية أوروبية، تشد زوجات الوزراء ورجال السياسة والصحافة إلى حوارات تزيد فعالية أحاديث زوجها، يتحدث ضيوفها عن ذائقتها الفنية التي تظهر في زوايا البيت وفي الطعام والآنية، شارك الوزير بأكثر من خمسين ندوة وحوار خلال أزمة الخليج، أراد أن يجمعها في كتاب ثم قرر أن يتركها للنسيان، يطلعنا على المحادثات السرية بين السعودية وإيران عامي ١٩٨٤ و ١٩٨٧ فقد كان ممثل بلاده ، يلبس معطف المحاماة ليترافع عن سياسة بلاده، ولا يتوقف عند الدفاع والتبرير، بل هو رأس حربة في السياسة مع الحكمة والرقي اللغوي. ثم يحط الرحال عند الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، قطر الدولة التي عارضت ترشيحه في المرة الأولى هي التي رشحته لدورة ثانية، وبعد هذا كله يكتب لنا موضوعات مركزة عن الوحدة بين مصر وسوريا، والعدوان الثلاثي، وحرب ١٩٦٧، وحرب أكتوبر، وما بعد أكتوبر، هو معاصر وليس شاهدا عليها كما قال، وجد كثيرا مما ظهر بعد الأحداث من أسرار تجلو بعض الغموض، لا بد أن يترك للأجيال الجديدة معلومات وتحليلات قيمة تغنيهم عن مصادر أخرى، وتلك زادت الكتاب نفاسة وثمنا.