مئة عام من العزلة..

إعادة نسج ماكوندو.

عندما كتب جابريال جارثيا ماركيز روايته «مئة عام من العزلة» لم يكن يملك من المال ما يستطيع به إرسال مخطوطته إلى دار النشر، لذلك كانت زوجته مرسيدس بارشا المصرية اللبنانية الأصول سندًا له، فبفضلها ومساندتها قرأنا الرواية التي توجته بجائزة عام 1982. أصبحت الرواية منعطفا سرديا بالغ الأهمية، وجواز عبور للواقعية السحرية في تاريخ الرواية العالمية، فلا تكاد تُذكر الرواية؛ إلا وعزلة ماركيز حاضرة وشاهدة بفنتازيا ماكوندو وعوالمها المتمازجة. رواية شاقة بشخوصها وعوالمها، لا أنسى أبدا قلمي وأنا أدوّن الأسماء خشية الخلط بين الأجيال، وتمييز كل واحد منهم، وربط شجرة عائلة وعلاقات ما بين الشخصيات، وتعلم الرسم يومها؛ لابتكار خارطة طريق لقراءة الرواية، هذا الأمر المرهق للقارئ يجعله على الحياد ما بين متعة الأحداث، ومشقة دوام اليقظة أثناء قراءة هذه الرواية، فلا مساحة للاسترخاء، مع أنها تعدك بشعور يوصلك إلى محطة الراحة، للبكاء الذي يطهرك بموت مؤسس ماكوندو خوسيه أركاديو بوينديا، مثلما بكى ماركيز وواسته مرسيدس يوم قبض روحه على الورق، فهذا البكاء يلازم دوما من اختلط بأبطال كل رواية لها قيمتها، وودع أحدهم. ضيق الشاشة تصحب مرسيدس «جابو» -كما يحلو تدليع الكبير جابريال- في كثير من الصور، وتشهد معه أحداثا كبيرة في مسيرته، فهي سنده وحبيبته التي عملت أثناء انشغاله بكتابة هذه الروائع التي وضعت اسمه عاليا في سجل الكبار، فلماذا مات جابو دون أن يشاهد رائعته على التلفاز؟ تمنّع جابو من السماح بظهور «مئة عام من العزلة»، وحسنا فعل! فقد كان مدركا بعسر هذا الشيء في مساحة ضيقة لا يمكنها اكتناف ماكوندو، فالشاشة أضيق من الرواية وشخصياتها، وهو السيناريست الذي يدرك هذا الأمر، فقد جرّب السيناريو في فيلم Presagio «فأل» 1974 ،وغيره من الأفلام، وهذا ما جعله يعي أن: الامتداد الزمني وكثرة الشخصيات واتساع المكان وعجائبية الأحداث؛ كلها معضلات فيلميه، بينما هي مزايا روائية، ولذلك الانصراف مكتفيا بمكتسبات ما جنته الرواية من أرقام مذهلة؛ خير من خسائر متوقعة بذم الفيلم، وإدارة الأسطوانة المشروخة (الفيلم أفسد الرواية). سعة العيش تدور أحداث الرواية على العزلة، وجاء المسلسل لينقل عزلة الحرف إلى فضاء الشاشة في هذا العصر البصري، ولتستثمر منصات البث الجديدة الأعمال المستحيلة، مثبتة أن لا مستحيل على منصات البث، فهي من مولّت فيلم المخرج مارتن سكورسيزي The Irishman ( الرجل الإيرلندي) بعدما يأس من تنفيذه لعدم قدرة أي جهة لتمويل فيلم بهذا الحجم، وها هي نتفليكس تراهن ثانية على «مئة من العزلة» بمبالغ فلكية لإنتاج هذه التحفة، وبكوادر كولموبية خالصة، مؤكدة أن ماكوندو لا يمكن أن تكون قريبة من الصورة التي رسمها جابو؛ إلا بتنفيذها في أرض تشبهها. يستشعر المشاهد هذا القرب في وجوه الممثلين، وكأنه يراهم كما قرأهم، وكأن الشاشة بمسلسلاتها ذات الحلقات المحدودة تنتشلنا من فوضى الدراما التلفزيونية المنتفخة بكثرة الحلقات قسرا، إرضاء لزمن التلفزيون وساعاته المقيتة، فجاءت هذه الحلقات ومثيلاتها مستسلمة للأحداث وما تمليه، ومتوقفة عند 8 حلقات في الموسم الأول، وفية لاكتناز الشخصيات في ساعة من الزمن، ومخلصة لنقل عزلة المشاهد إلى سعة العيش في ماكوندو، وكيفية العيش مع عائلة بوينديا. هذه التجربة تعلمنا كيف نكون معًا ؟، فنحن لم نولد كي نكون وحيدين على حدّ قول المخرج الألماني «راينر فيرنير فاسبيندر» في شأن العزلة، فالشاشة اليوم لها سحر ينقلك إلى فضائها الرحب، ما دام قادرا على خلق عوالم مثل ماكوندو، ولعزلة بعيش رحب كما عزل بوينديا نفسه في حجرة مع الأجهزة الفلكية راصدًا ما يحدث في السماء، وحالمًا برحلات خيالية يمارسها المشاهد عيانا على الشاشة في عزلة أكثر رفاهية من عزلة بوينديا. حقيقة السحر عندما تقرأ الرواية تحلم بصور سحرية، وعندما تشاهد المسلسل، تتجسد هذه الصور واقعا! ربما لا ينس أحد وداع خوسيه بوينديا بمطر كالزهر الأصفر، وإن نسي فلن ينسى من شاهد المسلسل تجسيد هذه الصورة بحرفية عالية ، أليس جابو من كتب لصديقه ميندوثا أن « أفضل صيغة أدبية هي الحقيقة دائما»؟، فلماذا كان الخيال جامحا، ما دامت الحقيقة قريبة من الواقع، والسحرية الماركزية يمكن ترجمتها صورة فاتنة نتفلكسية، وبكاميرا متجولة ترصد الأحداث، والوقائع، وتوثّق زيارات الغجر بمخترعاتهم وسحرهم الذي لا يعدو معرفة الكيمياء والفيزياء، والمغناطيس الذي يجذب الحديد، ويفتن الطماع بعمل كسول؛ لعله يقوم بذلك مستكشفا الذهب بالنيابة عنه في الأرض! بوينديا مع مرور الوقت أدرك بالعلم كل الخدع السحرية، فلم تعد يخدعه طيران رجل في الفضاء، أو موسيقى تعزف وحدها بدولاب، وهذا ما قاده إلى البحث عن الرب الذي يقف خلف هذه الأشياء، ففكك البيانو؛ ليعيده مرة ثانية في الوقت المناسب، وليسلط الضوء سلاحا حارقا، وليصنع ذهبه بنفسه، في الوقت الذي كانت روسولا تصنع الحلوى؛ لتعيل بنيها. نسيان الأرق ترجم المسلسل بعض الأحداث الغريبة مثل طاعون الأرق ووباء النسيان، وكيف تخلصت ماكوندو منهما بآلة القراءة، فكل حدث يعبر في نهاية المطاف ، والحياة تستمر بمن تبقى، فلا غياب الابن سيعثّر سير ماكوندو، وكل شيء يُنسى ما عدا بذل الباذلين، ولذلك جاءت روسولا في قلب المعادلة ، وسدت ثغرة انشغال بوينديا لتحمل ماكوندو على رأسها، ولتقوم بإعالة البيت، وتربية الأبناء والمتبنين، ولتشهد الصراع ، وتلعب دورا فاعلا محاولة تقويم ما أعوّج من خطايا الذكور، دون أن تلقي بمسئوليتها القيادية أثناء سير الأعوام الطوال ، وبناء ماكوندو، ولعبت الممثلة )مارليدا سوتو) دور روسولا ببراعة، بصلابتها، وصبرها، وتحملها لزوجها، وحبها العميق له، وخشيتها من النبوءة الأولى، وتحققها بصورة مغايرة في نهاية المطاف. ترقب الثاني لا زال الفضل لماركيز على بذرته الأولى لماكوندو، ولكن ما شاهدناه على الشاشة يعود فضله لنتفليكس التي دفعت بسخاء، وللمخرجين أليكس جارسيا لوبيز، ولورا أورتيجا، وللكتاب الذين استلوا خيوطا من مصنع النسيج الماركيزي؛ حائكين ما شاهدناه على الشاشة، وهم: نتاليا سانتا، وفريقها المبدع ألبرتوس جونزليز، وكاميلا بورخيس، وماريا كاميلا أرياس، وخوس ريفيرا، وبقية الممثلين لأدائهم المذهل، والقائمة الطويلة من الأسماء التي كانت عماد ما شاهدناه ونترقب إكماله بموسم جديد، وبإبداع متواصل، وبتحفيز لمزيد من الأعمال في كل البلدان، وما تمتلكه من درر روائية ، وفرائد تميز قطر عن آخر.