البناء في الذاكرة.. ما بين العاطفة والعمارة.

كانت الحديقة الخلفية لبيت طفولتي مسرحًا لكوابيسي لفترة ليست بالقصيرة، ولا تزال تزورني في أحلامي وإن كانت بوتيرة أقل.” أخذتني هذه الجملة الاعتراضية لمحاضر معماري إلى الممر الخلفي لبيت جدي القديم، المهيمن على أحلامي المخيفة أيضًا، بجدرانه الطويلة الخالية من الإضاءات، والكيانات السوداء التي اختلقها عقلي لتلاحقني ليلًا. كانت جملته تلك مفتاحًا لعام كامل قضيته في البحث والقراءة بين تقاطعات العمارة وذاكرة المكان والمشاعر المصاحبة لهما، حيث تحول سؤال واحد إلى بوصلة تحدد وجهتي: لماذا ترسخ ذلك الممر بالذات كأكثر الأماكن المخيفة في عقلي؟ توصلت في نهاية المطاف إلى قائمة من الخصائص المعمارية التي تجعل للأماكن رواسي في ذاكرتنا عبر كم وقوة المشاعر والأحاسيس التي تستثيرها. الفروقات في العناصر المعمارية التي تفصل بين الأماكن التي نذكرها عن غيرها هي أسرار يعرفها أغلب المعماريين، وقلة منهم من يجيد فن اللعب بها لخلق تجربة مشاعرية تُذكر. في هذا المقال، سأسلط الضوء على خاصيتين، وأربطهما بمناطق مختلفة في مدينة الرياض: حي السفارات، ومركز الملك عبد الله المالي، وسوق المعيقلية وما حوله، حيث تظهر تلك الخصائص بتجليات معمارية متنوعة خالقة مشاعر مختلفة. فن التلاعب في النسبة والتناسب يقصد بالنسبة والتناسب استخدام العلاقات الرياضية لتحقيق التوازن البصري والجمالي بين أجزاء التصميم نفسه أو بينه وبين محيطه ومستخدميه. على سبيل المثال، تحدد أغلب ارتفاعات النوافذ مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع السقف والأبواب ومستوى نزول الإضاءات، هذا كله بالإضافة إلى النسب العامة للإنسان. فُصِّل وشُرح مفهوم النسبة والتناسب في كتابات ونظريات عدة، مثل النسبة الذهبية أو مقياس لو كوربوزيه الأكثر حداثة. مع ذلك، يُطبِّقهما أغلب المعماريين في السعودية من ناحيتي الوظيفة والجماليات، لكنهم يغفلون أو يتغافلون عن التلاعب فيهما للتأثير على أحاسيس المستخدم ومشاعره، مع العلم أنهما يؤثران على خلق تجارب ومشاعر مثل الرهبة والطمأنينة والسكينة والقوة، ومن ثم زيادة احتمالية بقاء الفراغ في الذاكرة. إن الانطباع الأول لحي السفارات، على سبيل المثال، دائمًا ما يدور حول حميميته وهدوءه مقارنة ببقية أحياء الرياض. وكأنه الحي المثالي لتربية طفل يذهب ويعود مشيًا من مدرسته، يلعب في حديقة الحارة بأمان، ثم يعود لمنزله ذي الواجهة البسيطة ذات السور القصير والباب الأقصر، مرحبًا به بعد يوم طويل. لو أمعنا النظر في بقية تفاصيل البيوت والحدائق والأرصفة، سنجدها بشكل عام أصغر حجمًا وأقصر طولًا من أي حي آخر. ولأنها قريبة من الأطوال العامة للإنسان، فهي تخلق مشاعر الأمان والحميمية والسكينة. ولا نغفل بالتأكيد عن وجود عوامل أخرى مساندة مثل المواد المستخدمة التي تبدو طبيعية، والتشجير، وسهولة المشي التي تتيح تأمل وتقدير التفاصيل الصغيرة القريبة من كل من يمشي. وعلى النقيض، فإن تجمع ناطحات السحاب المختلفة الشكل في مركز الملك عبد الله المالي جعل من المكان معلمًا للرياض من الخارج، وكأنه حصن منيع يحمي جوهره. فور دخولك إلى مناطقه الخمسة، فإن طول المباني وتجمعها يحجب أي امتداد بصري مع الرياض، ليشعرك وكأنك دخلت بلورة الزمن مسافرًا عبرها إلى مستقبل بعيد. العجيب أنه مع تنافس المباني في الطول، إلا أن شعور التجول داخل المنطقة مريح. قد يُعزى ذلك لرحابة الساحات والفراغات بين المباني المخصصة للمشي، وما ضاق منها ظللته جسور تربط بين المباني لتقريب المسافة من الشخص الواقف أسفلها. هذه الرحابة سمحت أيضًا بخلق مساحة لتأمل تشابكات المباني واختلافاتها، ومن ثم الارتباط بها بدلاً من الاختناق منها. وبشكل جزئي، فإن التلاعب في ارتفاعات المساحات والسلالم خلق لحظات من السيطرة والقدرة لمن هم في الأعلى. مثلًا، جلسات المطاعم المرتفعة المطلة على مساحات منخفضة، تسمح لمستخدميها بمراقبة المشاة من الأعلى، ليخلق ذلك شعورًا بالقدرة على منافسة المباني ومن هم داخلها. ولو كانت الساحات على مستوى واحد في مقابل ارتفاع ناطحات السحاب، لخلقت تجربة تقزم عوضًا عن ذلك. استمرارية عنصر الدهشة إن اختلاف مستويات ساحات مركز الملك عبد الله المالي بالإضافة إلى عدم استخدام التخطيط الشبكي للمباني خلق فرصًا مستمرة لاكتشاف مناطقها. رحلة المشي من مكان العمل في المنطقة الثالثة، على سبيل المثال، إلى مطعم في منطقة أخرى يتطلب نزول سلالم وصعود غيرها، وأحيانًا الدخول داخل مبنى ثم الخروج من نقطة أخرى. رحلة الوصول إلى الوجهة يتضمنها اكتشاف مقهى جديد في زقاق لم يكن واضحًا، أو يظهر زاوية جديدة لتأمل جمال الجامع الأكبر بشكل مختلف. حتى الجالس في أحد الجلسات الخارجية تجده يكرر النظر لتعانق المباني وروعة تصميمها. استمرارية الدهشة تشمل أيضًا المنظر الثابت من مكاتب الموظفين، حيث يجدد المنظر نفسه مع تغير أيام فصول السنة، بدءًا من غروب الشمس اليومي، لاكتناز السماء بالغيوم في الشتاء، حيث كلها تغير من درجات الألوان وانعكاسات السماء في عالم المرايا الممتد على مبانيها. خلق الدهشة واستمراريتها لا يتطلب ناطحات سحاب صممها أبرز المكاتب المعمارية في العالم لتأخذك للمستقبل، فستجده حاضرًا في سوق المعيقلية الشعبي متنقلًا بين الأزمنة كلها. هذا السوق يبدو كالمتاهة التي لا تعلم بدايتها من نهايتها، ومن أي نقطة بدأت جولتك فستعيش رحلة مختلفة كل مرة. أسواق متجمعة بالطريقة العشوائية للأسواق القديمة، مجاورًا قصر المربع الطيني الضخم، وقصر الحكم، وميادين تحاول جاهدة أن تجمع تلك الوظائف المختلفة مع بعضها البعض، كل ذلك محاطًا بأحياء ومباني وأشجار لا تزال صامدة منذ عقود من الزمن. تباين الباعة والبضائع يوازي اختلاف الزوار من طبقات المجتمع المختلفة وجنسياتهم المتنوعة. لذا، فهو محطة ممتعة لكل زائر أجنبي يرغب بلمس الأصالة الحقيقية للرياض. أثناء تجول لزملاء لي أوروبيين، قال لي أحدهم: “يبدو لي هذا المكان كموقع لفيلم أكشن ينجو فيه البطل بتمويه من يلاحقوه من خلال تلك الأزقة التي لا تعلم ما نهايتها”. والحقيقة، إن تخيل نوع الفيلم الذي قد يشغل فراغًا وقصته طريقة فعالة وسهلة لمعرفة درجة المشاعر ونوعها التي يستثيرها المكان. إذا كان بلا قصة، فهو فراغ شفاف باهت لا يأخذ المستخدم ومشاعره ودهشته بعين الاعتبار. ختامًا، تمركز الإنسان في عملية التصميم هي قيمة لا يختلف عليها اثنان، والانتباه لمشاعر الإنسان وأحاسيسه ونوعها هي من أهم ما يخلق التجارب العميقة التي تربط الإنسان بالمكان. وكالقيم الأخرى، أحيانًا ما تُجنب عند اتخاذ قرارات وظيفية عملية أو تجارية، تاركة فراغات باهتة تنسى أو أماكن ذات ممرات خلفية تعلق حتى في أحلام أطفال مروا من جانبها. * كاتبة ومعمارية سعودية - الرياض