«البحرين» قبل 60 عاماً.
كانت “البحرين” في أواسط الستينيات لا تزال تبدو مثل فصلٍ غير مُكتملٍ من كُتب الرحّالة، الذين كانوا يبدأون منها المسيرة الوعثاء في الجزيرة العربية. وكان أول من جاءها في القرن الثامن عشر؛ الدانماركي “كارستن نيبور”، الذي سجّل رسومه وانطباعاته عن جزيرة اللؤلؤ، والمياه العذبة التي تتدفّق من عُمق البحر في عين “عذاري”. وقد ختم عصر الرحّالة الكبار، المؤرّخ اللبناني “أمين الريحاني”، الذي كان يسافر زمن السُّفن البخارية من “نيويورك” إلى “المنامة”، يجوب الصحاري ويمتطي الإبل، مُبشّراً بالوحدة العربية. وكان “الريحاني” هو النُسخة العربية من “تانتان”؛ الصحفي الفرنسي المٌغامر، بطل القصص المرسومة، الذي يخوض مُغامراتٍ النصر فيها دائماً للحقّ والعدل. كانت “المنامة” في الستينيات، مجموعة صغيرة من البيوت التي تغفو على غابة من بساتين النخيل، وكانت فنادقها العتيقة في وسط المدينة الصغيرة المتلاصقة المنازل، والأزقّة الضيّقة، ودكاكين الخيّاطين الهنود، وحوانيت السكاكر الملوّنة، وواجهات الجواهر التي تلمع على الدوام مثل صفحة البحر عند الظهيرة. وكان مُمتعاً أن تتمشّى في “السوق”، وكأنك تتنقّل في متحفٍ يضجّ بتنوّعه، بهدوء العصر الماضي وطمأنينته. إذ ربما يقتحم عليك الزقاق بائع “الكاز”، وهو ما يُعرف بالكيروسين الذي يُستخدم كمادةٍ للوقود والإضاءة، للسُّرج والفنارة والدوافير. يطوف بائع الكاز بين الأحياء والقُرى، مُستخدماً عربةً خاصّة يجرّها حمارٌ، وتحمل برميلاً كبيراً مليء بالكاز. أو ربما استرعت انتباهك بائعة “الباجِلّاء”، وهي امرأةٌ تفترش الأرض في ظِلّ أحد المباني، وأمامها قِدرٌ كبير مُغطّى بالخيش ليحتفظ بالحرارة. والباجِلّاء هي حبوب الفول الكبيرة، التي تُطبخ طوال الليل، ويتقاطر على شرائها أهل الحيّ صباحاً، صِغاراٌ وكِباراً للإفطار عليها مع أرغفة الخُبز. أو ربما تفاجأتَ بشخصٍ جهوريّ الصوت، يُسمّى “المُصوّت”، يُنادي بأعلى صوته: “يا الاجواد، يا أهل الفريج، جزاكم الله خير، من لقى ها الضالّة..”؟ ويسمّيها: كأن يكون المفقود طِفلاً أو طِفلةً، أو سخلة صغيرة أو دجاجة، ويُطوّف المصوّت بين الأحياء وهو يُنادي حتى يجد من يدُلّه على ضالّته. في ذلك الوقت، لم يكُن صيّادو اللؤلؤ بانتظار الزائرين، ولم تكُن مراكب النخيل المُجوّفة تُلوّح بأشرِعتها لهُم، ولم تكُن شِباك الصيّادين تحمل أندر أسماك العالم، وقناديل الزيت الصغيرة المُعلّقة على مراكبهم في استقبال الزوّار. إذ لم يكُن الموسم موسم صيد اللؤلؤ، فالغطّاسون قلّ عددهم، ومُزاحمة اللؤلؤ الصناعي من “اليابان” قد خفّف، إذا لم يقضِ على إنتاج اللؤلؤ الطبيعي الثمين، وقد أصبحت أسواقه صعبة، وإنتاجه أشدّ إرهاقاً وتكلُفةً. وكان الصيّادون موزَّعين، وكأنّهم مُتعبون بأجسامهم السمراء النحيلة، المُنتصبة كأشجار النخيل الطويلة على شواطيء الجزيرة الشمالية، ومراكبهم تلعب بها الأمواج.. ينتظرون الموسم المُقبل في بداية الربيع، وينتظرون أن تحمل الأمواج القادمة من شواطيء بعيدة، الكثير من المحّار، وفيه اللؤلؤ المُنتَظر. البحرين، أقدم دوَل الخليج في اكتشاف النفط، لذلك استطاعت بالمزايا التي يُقدّمها لها الذهب الأسود، أن تسبق الكثيرين إلى الاستفادة منه، فكانت فيها المدارس قبل أن يصل الكتاب إلى إمارات الساحل الطويل، وكانت الصِحّة قبل أن تُصبح مُستشفيات الخليج حُلم كلّ طبيب، وكانت الطّرق قبل أن تُصبح السيّارات أكثر من الناس فيها. ومع النفط الذي يعمل في شركاته آلاف المواطنين، تعيش هذه الجزيرة الصغيرة على الزراعة، التي تزداد امتداداً، مع حاجة السُكّان إلى الخُضار والفواكه والذُّرة. والخمسة والعشرون مليون نخلة التي تغُصّ بها رمال البحرين، هي الطّابع المُتميّز للمعالم الفريدة، في الطرف الشمالي المسكون من الجزيرة. وعندما يعود المرء للتجوّل في شوارع “المنامة”، يدور في أسواقها، ويشاهد الفتيات الإنجليزيات العاملات في البلاد، وهنّ يملأن المقاهي الصغيرة التي لا تبيع إلا القهوة والشاي والمرطّبات، مع صخب أسطوانات أغاني فرقة “البيتلز”، وآخر ما توصّل إليه زعيق الموسيقى الغربية! ولكن “المنامة” تنام باكراً، وتنكفيء الناس إلى بيوتها، ليُسلّي بعضهم بعضاً، وتبقى المقاهي والمطاعم الشعبية ودور السينما فاتحة أبوابها، مع أجهزة التلفزيون حتى منتصف الليل. الجريمة -على اختلاف أنواعها- لا تكاد تجد لها مكاناً، ومع ذلك فهناك قوّة بوليسية مكوّنةٍ من 800 جندي لحفظ الأمن، أغلبهم من مسقط وعدن وحضرموت والهند، والغريب أن التعليمات التي تصدر لهذه القوّة تكون باللغة الإنجليزية. ومن الطريف التوقّف عند تأثر كثير من البحرينيين في فترة الخمسينيات والستينيات بمصر “أم الدنيا”، إذ عرفها بشكلٍ مُكثّف السُيّاح والطُلّاب، وكانت “القاهرة” جُزءاً من أحلامهم، ووعيهم الوطنيّ والقوميّ الذي كان يصلهم عبر إذاعة “صوت العرب” والصحافة المصرية. وكانوا يستقبلون تلك الثقافة عبر المؤلّفات الأدبية والشعرية والروايات، والفنون بأنواعها عن طريق الإذاعة والتلفزيون والسينما، ومجلّاتٍ مثل “الكواكب” و”المصوّر” و”آخر ساعة”. كان السائح أو الطالب العائد من “مصر” يزهو أمام أقرانه كالطّاووس، عندما يُخرج صوَره مُمتطياً حصاناً ومن خلفه أهرامات “الجيزة”، أو يفتخر بصوَرٍ التقطها مع بعض الفنّانين المشهورين، ليُصوّر لأصدقائه مقامه الرفيع، الذي يؤهّله لصُحبة هؤلاء الفنانين، وحضور أعمالهم الفنيّة ومسرحيّاتهم. وربما تعمّد صاحبنا أثناء حديثه إليهم استخدام بعض المُفردات باللّهجة المصرية، أو قابلهٌم وهو يحمل في يده روايةً لنجيب محفوظ أو إحسان عبدالقدّوس، أو ديوان شِعرٍ لصلاح عبد الصبور أو أمل دنقل، واستمرّ بارتداء “القميص والبنطلون” لعدّة أيام بعد عودته، ليُثبت لهم تشرّبه للثقافة المصرية على أصولها! قبل أن يعود لاحقاً إلى ارتداء زيّه الوطنيّ “الثوب والغترة”.. “وتِلْكَ الأيَّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاسِ”.. صدق الله العظيم.