حشد من المشاعر الجياشة النبيلة تزخر بها هذه القصائد في لغة فيها من عفوية المشاعر وتلقائية التعبير ما يمنحها مزية الصدق وحميمية الانتماء ، عطاء شعريتّه لها نكهة خاصة تستعصي على التوصيف و التنظير، وهذه قراءة خاطفة لا تحمل من النقد إلا بالقدر الذي يلمح شيئاً من شفافية و نبل، ولعل لي بعض العذر في تقصيري . قصيدة الشاعر حسين صميلي الزيتون المضيء تتمثل هذه القصيدة مأساة غزة فتستنطق المكان والإنسان وتخاطب البراءة متمثلة في أطفالها الذين تفتحت عيونهم على ما أحدثته آلة القتل والدمار من أثر في نفوسهم الغضة، وقد كانت سردية الشاعر قد استُهلت بالانفتاح على المشهد الذي استولى على فضاء الساحة برمتها، حيث دراما الصراع بين الموت والحياة و الفناء والوجود، يتصدّر المشهد ولا يملك الشاعر إزاء هذه الصدمة الا الاستنجاد باللغة التي تبدو في حراكها وأساليبها ترجمة لهول الواقع، فمن التقربر الذي يسجل الحدث الذي لا يحتاج إلى خيال يرسم صورته ولا إلى مجاز يلتقط فجائعه؛ بل يمتح من معينه وبشاعته ما يكافئ الخيال في جموحه؛ فالواقع أبلغ من الخيال، وليس أسرع من السؤال الذي تتقاذفه المشاهد في القدرة على التعبير عن الصدمة ؛ فقد ضاق المكان وتلاشى الزمان واضطربت الأحوال، فكان الإنكار والاستهجان الذي رصده الشاعر عبر الاستفهام الإنكاري في تداعياته المتسارعة الذي تلاحق في إيقاع سريع متكرّروالصورة التي التقطتها عدسة اللحظة في ذرة اتقادها وضرامها، فكان التسجيل الأمين بالصوت و الصورة ماثلا في اختيار معجم القصيدة و تراكيبها و قافيتها وبحرها، فكان حقل النار: اللظى والموت والصوت المعبر عن المأساة، وليس أكثر قدرة على رصد إيقاعها من البحر الوافر، وقد سمي بالوافر لوفرة حركاته. أما الأساليب فالنفي الذي توارد في أول النص ينسجم مع الموقف السلبي الحافل بانتفاء كل القيم الإنسانية وغياب مظاهرها: على عتباتها الثكلى يرفّ فلا أهل ولا دار تحفّ تَضيقُ به الرِّحابُ، فحيثُ يمضي يطاردُه الهلاكُ المُستَخِفُّ ثم الأمر بالهجرة وترك المكان حيث مطاردة الموت، وتمضي الرواية إلى منتهاها عبر تثبيت اللقطات المقدودة من لحم الكارثة، وهي أقرب إلى التوثيق؛ فهي لاتحتاج إلى انزياح فني لأنها منزاحة عن المألوف إلى أقصى مدى، ومجرد تسجيلها في حدّ ذاته التقاط لجوهر اللحظة الشعرية بكل معطياتها، وحين ضاق الخطاب الشعري بما حفل به من تسجيل للمشهد الفاجع كأني به يستدعي المثل العربي (تكاثرت الظباء على خراش) ولعل الأصح أن يقال (تكالبت الذئاب) ، ويتمثّل الشاعر الموقف برمته فينحو بخطابه منحى آخر يعزّزبه الموقف الشجاع للصامدين الصابرين فيوجهه لهم مباشرة ،وكأنه يترجم عن لسان حالهم داعيا- في سلسلة من أفعال الأمر- إلى أن يبقوا صامدين على أرضهم رغم الخذلان، ولعل هذه المباشرة والوضوح التي تأتي صادمة وحادة يستدعيه الموقف، ويأتي هذا التنوع الأسلوبي و الحراك اللغوي والتصوير الأمين والحماس المتفجر بديلاً للغموض، العدول البلاغي والنحوي والإيقاعي؛ فاللحظة متفجرة والحالة صادمة، و الموقف لا إبهام فيه: إيقاعه سريع و تطوّره متلاحق في دفقة شعورية صادقة. قصيدة (رسالة من طفلة التل) للشاعرة شقراء مدخلي: السخرية السوداء أهم ما يميّز هذا النص؛ فقد عمدت الشاعرة إلى تقمّص شخصية الضحية (الطفلة الشهيدة) على خلاف ما كان عليه الخطاب في قصيدة الشاعر الصميلي الذي كان يخاطب الضحايا، فالشاعرة هنا تتحدث بلسانها وتسخر ممن تخاطبهم، فقد أعادت ترتيب المشهد بما يعبّر عن رؤيتها له بعناصره الحقيقية الفاجعة: الجثة والنعش والأشلاء التي تعبر عن الفجيعة التي طالت المكان كما طالت الإنسان، وتعدّت الفرد إلى الجميع ( وأشلاء المدينة) ومن ثم انتقلت إلى تحديد من تقصدهم وعملت على تصنيفهم وتعداد مناقبهم بسخرية مريرة: من تراهم تنكّروا لعروبتهم ووثقوا بعدوهم متمركزة في اللحظة التاريخية في قراءة صريحة صادمة، وهي إذ تباشرهم بالاتهام بلا مواربة تعود إلى تشكيل الموقف في صورة كنائيةّ رمزية عميقة الدلالة (سحقوا غصون البرتقال) وبعبارات مجازية جارحة جريئة (احتفوا بالموت) ومشهد ضاج بالمفارقة الساخرة : شكراً كثيراً للذين تأنقوا في الدمع من حملوا المشاعل من أقاموا شاهداً للقبر وعلى لسان الطفلة تبوح بأمنياتها و أسرارها وترتحل إلى أعماقها، وتتمثّل آمالها وأحلامها قبل أن تموت وفي لحظة موتها، فتتعمّق ما يدور في خلدها كاشفة عن حجم الجريمة التي ترتكب بحق مثل هؤلاء الأطفال الذين تغتال أحلامهم و تتواضع إلى درجة الاستسلام للموت، ولكن بشروطه المتواضعة في تصوير دقيق للفاجعة الجماعية التي جاءت على حين غرة فأطاحت حتى بآمال من يستشرفون النهاية في استقراء دقيق للخواطر البريئة التي قد تخالج طفلة بريئة، تَمثل وجداني عميق للحظة الفاصلة بين الوجود والعدم التي تتداعى فيها الأمنيات وتفرضها تلك الهنيهات على عتبات النهاية ملتقطة خصوصية الموقف المباغت متمثلا في رصاصات حاقدة تخترق صدرها ولا تفسح لها مجالا لوداع أقرب المقربين (الأم الثكلى). وهي إذ تفرغ من أمنياتها الشخصية تتجه إلى البوح بهمها الوطني الإنساني ببراءة، وذلك في الإطار العام الساخر من واقع مرّ أليم، وفي صورة ساخرة مفارقة تخاطب بها الإنسانية، تنثال الرؤيا الشاعرة على لسان الطفلة الشهيدة فتتمثّلها معيدة إنتاج الموقف عبر انزياحات تلامس سقف الفانتازيا فأنّى لطفلة أن تتصوّر في لحظة الموت هذه المشاهد العبثيّة على أرض الواقع الحافل بالمفارقة الساخرة، تتمنى أن تكون كبش فداء في صور رمزية شفيفة تبتاع لغزة الأمان وقربانا لآلاف السنابل ونفتدي الأرامل و الثواكل، ولكن العدو يخاف من وضعها الإنساني أو من جوعها فيقتلها، مفارقة صادمة أن يكون قتله خوفا من بؤسه وشقائه. وفي المشهد الأخير تستبين الشهيدة أفق الخلاص حيث تمضي إلى مثواها الأخير آمنة مطمئنة، منعتقة من الخوف، فقد كرّرت الشاعرة عبارة (لا أخشى) معدّدة مظاهر الخوف والمعاناة وراءها، محلّقة في سراعها إلى جنات الخلد: فقد رحل الجميع واخنفى صوت الرصاص وعواء المدافع، فأيّ مفارقة أن يكون الموت هو المخلص وهو الملاذ الأخير؟ في المقطع الختامي الأخير تأتي النبوءة؛ فلم تكن النهاية بل كانت البداية لانيعاثِ جديد لطائر الفينيق الذي ينهض من تحت الرماد، فالموت حياة جديدة تقلق القتلة وتغرقهم في أتون الخوف من نهاية حتمية بائسة، إنها الحقيقة الغائبة يملأ حضورها الأفق، ومن رحم الموت تولد الحياة. آن يولد من رماد البنت رشاش و مدفع و الآن غزة فوق أكتاف المدائن سوف ترفع و الآن لا نخشى من الطوفان فالطوفان أوجع الرسالة الوصية كما سطّرها يراع الشاعرة في بناء مقطعي متصاعد، يبدأ بالسخرية من المتفرجين في مشاهد متداعية يأخذ بعضها بأطراف بعض ، ثم تتوقف عند لحظة الموت في مشهد تالِ لتنقل مادار في داخل هذه الطفلة الشهيدة في لجظات الموت الأخيرة ، ثم تأتي النبوءة مستشرفة آفاق المستقبل حيث تنبعث الحياة من بين ركام الفناء و يتحقق الوعد . و الآن تمتلئ الحياة بموتنا و الموت أشجع .. قصيدة (ظمأ ممتد ) للشاعر حسن القرني قصيدة قافيتها التائية الصعبة التي سبق حرف لروي فيها بالتشديد توحي بالمعاناة و العسر، وهي من القوافي القليلة في الشعر العربي، مستهلةً بمايوحي بالتقصير عن الكارثة التي حلت بالأرض والإنسان، فقد تراءت هذه الأرض للشاعرسماءً تتسامى عن المكانة المألوفة لكل أرض يطؤها الإنسان؛ فهي في وجدان الشاعر سماء تنزاح عن كينونتها وتعلو في شأنها فهي وطن وانتماء، وقد حشد الشاعر من الكلمات التي احتفلت بالحروف المجهورة فقد تكرّرت المفردات التي احتوت على هذه الحروف منتهية بالتاء المهموسة، فمن الجهر إلى الهمس انتقال صعب يعبر عن المسافة الطويلة بين حالتين نفسيتين يتجشّم فيها المتكلم عناء النطق و التعبير (الزفرات) مثال على هذه النقلة ،وبين اللام والتاء (حلّتِ) ولو لجأنا إلى المنهج االأسلوبي الإحصائي لوقفنا على الطاقة التعبيرية الهائلة التي انطوت عليها القصيدة، لم يكن الشاعر رغم السمة الغنائية العميقة التي تنطوي على مشاعر ذاتية بالغة الصدق والشعور بالفجيعة فإنها تحتشد بالقلق والمخاوف والهواجس فكريّاً ونفسيّاً : فلسطينُ ما في الرحْلِ إلا وساوسي إذا ما دنا ليلُ البلايا استحلّتِ فلا هي أسدتْني من الطيرِ طيرَها ولا هي أرختْ عن دماغي وخَلّتِ تُناوشني ما بين ولّتْ وأقبلتْ وها كلما قلتُ انتهينا استهلّتِ فما هي يا ترى تلك الوساوس؟ يتّضح ذلك في النفي المزدوج الذي تاهت فيه الحقيقة فلم تنصرف الفكرة إلى وضوح من الأمر أوغياب من انشغال الفكر، وقد عبر الشاعر عن ذلك تلميحاً لا تصريحاً، يكنّي عن ذلك فيلمّح و لا يفصح عبر المتقابلات الطباقيّة و الثناءيات الضدية (ولّت و أقبلت) و(انتهينا واستهلّت) ويغوص في أغوار عميقة بلا قرار تدل على الاستغراق في الحدث والانصهار في بوتقته. وهو إذ يهجس بوساوسه لا يملك إزاءها إلّا اللجوء إلى المولى (جلّ وعلا) لما يحسّ به من ألم في هذه المحنة العصيبة التي يشبهها بالألم الناجم عن حدّ السيف الذي يحزّ في الشرايين من شدة الألم؛ إنه يستثمر الصور البيانية الخاطفة التي تلتقط تفاصيل اللحظة، وتتقرّى أثرها في نفسه فيمعن في تمثّلها على وجوهها المختلفة، مترجماً حالها وما انتهت إليه عبر معاناتها وقلق المصير الذي تمضي إليه مستنبطاً من جوف الحكمة ما يختزل الحالة برمتها؛ فثمة موازاة بين صورتين: الأرض التي لا تستقر على الرغم مما تحمله من سكانها و الفكرة المضطربة في رأس صاحبها، محاولة لتصوير الموقف الملغز والمضطرب، خاطرة يستنبتها مما يستقرئه عبر هذا الواقع الأليم؛ فليس ثمة استقرار على حال من الأحوال في هذا المضطرب الواسع الذي تتمخّض عنه هذه المحنة السوداء؛ انغراس في العمق وصدوف عن البقاء على السطح الخادع الذي تبدو فيه الأمور على غير ما هي عليه في الحقيقة. ويذهب في تصوير المحنة إلى أقصى مدى حين يرى الوضع من منظوره الأوسع؛ فثمة آتِ مستبشر بالحياة و حاضرٍ غارقٍ في أتون الموت، ثنائية ضدّية مأساوية، وانتقال من رحلة تحمل في طياتها عذابات اللجوء إلى رحلة أخرى تحمل ي طيّاتها ذات المصير ، دوّامة تتكرر بين الحين و الحين .وهوإذ يغادر مربع التفكير والانغماس في التجريد و التفسير يسارع في المقطع الذي يليه إلى توجيه خطابه نحو الطفلة النموذج البريئة و الرمز الثري متسائلاً عن الماء متمثلاً شذى العطر ممتخيّلاً مأساتها، وكأنها تمثل الطفولة كلها، وخصوصا ما يضنيه منها (طفلي و طفلتي) فقد توحّدت الطفولة وانتقلت من العموم إلى الخصوص، إن الذين يمنعون عنك الماء هم الجدب والجفاف وأنت العطر في (القلة) وهي الآنية الفخارية التي تملأ بالماء لتظل باردة فهي العطر، وهنا تتبدّى ثنائية أخرى تفصح عنها هذه الصورة (الجدب و الجفاف و الماء العطر) إذ يبصر في عيون الطفلة التي تتضوّر عطشاً غزة التي يتصور فيها أطفاله وهم يعانون ما يعاني إخوانهم هناك في توحّد وجدانيٍّ صوفي. ويبلغ الانفعال ذروته حين يتعاطف مع الطفلة (الرمز) فيشعر بأن الظمأ يزحف إلى مقلتيه، فلا يميز بين دموع العين والماء الذي تحتويه القلة، وهنا يتبدّى الربط بين البداية حيث العنوان والنهاية حيث ذروة الشعور بالانتماء والتوحد، فالظل يصبح لهيبا حارقا للروح. وكيف الظما يمتدّ حتى كأنما ليستويَ الماءانِ عيني وقُلّتي تُظللُ روحي من لهيبٍ لهيبُها ولو علمتْ ما في غدٍ ما استظلّتِ وما أنتَ في رأسي أيا وجهيَ الذي … وما أنتِ في جنبي أيا كفّيَ التي … في غزة الآن للشاعر إياد الحكمي دفقة شعريّة محكمة هامسة صاخبة تنثال منسابة على إيقاع البحر البسيط أشبه بالنشيد، والنشيد ليس شعاراً مستهلكا يتردّد في مناسبة عابرة ، أو يجمد على صيغة متكلّسة؛ بل أيقونة معبرة عن الانتماء والهوية، وهو ما أراد أن يؤكده الشاعر موقفاً راسخاً وليس هتافاً مناسباتياً، فهو في بنائه الدائري يبدأ وينتهي بما افتتح به النص مقررّا حقيقة راسخة (وفي فلسطين مازالت مرايانا ) ربط الحدث بجذوره الراسخة في وجدانه القومي وكأنه يسدل الستار على مرحلة من التشكيك مضت و انقضت، فالصورة التي محورها المرآة نرى فيها وجهنا الحقيقي وانتماءنا وملامحنا التي لا قناع عليها: في غزَّةَ الآنَ ما في غزةَ الآنَا وفي فلسطينَ ما زالت مرايانا وينتقل من تقرير الحقيقة الراسخة إلى تأكيدها، فهو يُتبع الصورة الأيقونيّة بصورة واقعية تدليلاً وتأكيداً وتعميقاً لها في مشهد يعبّر عن هول الموقف (نفرش للموتى بموتانا) تعبير كنائيّ مزلزل عن شدة الالتزام وعمقه، ويشكّل الموت عصب البناء الدلالي في هذه القصيدة، وهو ليس موتاً مجانيّاً انتحاريّاً؛ بل يرمز إلى التجذّر والتحدّي والفداء فضلاً عن الانغراس في عمق المشهد المأساوي الحقيقي الذي تعيشه فلسطين في هذه الآونة العصيبة، وهذه القافية النونيّة المطلقة تردف هذا الشعور وتعبر عنه. وهو يعبر عن الرسوخ والشموخ والقدرة على دفع الثمن الباهظ ثمنا للصمود والبقاء. (نشيخ فيها كما شئنا ونفرش الأرض للموتى بموتانا) يلتفت لشاعر فإذا الموت يهيمن على الساحة كلها فلا يرى إلّا الدمار والفناء ، انهمار لهذه المفردة (الموت) التي تحتل كل واحدة منها سطراً وكأنها تفرد جناحيها لتستحوذ على المدى الذي تعبر عنه هذه المساحة الفارغة ، تستحوذ على العقل و الوجدان فتضطر الشاعر إلى نسيان ماحوله مهما كان معجباً مطرباً، فلا مكان إلا للشعور بالموت، لا تحرك مشاعره امرأة تخرجه مما هو فيه من سكينة الموت مهما كان سحرها، وتلك خواطر تنثال في ضمير الشاعر الذي هزّته مشاهد الجراح. ولعل من أكثر المقاطع إثارة ذلك الذي يتماهى فيه الشاعر مع الوضع المرّوع للضحايا فيأتي بمشهد يتخيّل فيه أنه غارق في الدم إلى ركبتيه، شاعراً بوطأة المهانة حتى لينحني رأسه إلى ركبتيه لوحة تشكيلية صادمة يرسمها الشاعر بكلماته، وهي أقرب إلى أن تكون لوحة تشكيلية تعبيرية تبوح بالكثير. ويأتي المقطع التالي وكأنه يجيب على سؤال ضمني (لماذا كلّ هذا التأثر؟) فيكون الرد أن هذه القضية قضيته و خارطته التي يصحح مسارها لو كان بماء بوصلته. وقبل أن تكتمل دائرة الانفعال بتكرار المطلع في الختام يقدم صورة فاجعة لأم وأطفالها الثمانية الذين تلتهمهم نيران العدوان فتشتعل مع اشتعالهم أحزانه، ذروة الرقة في المشاعر والأحاسيس. وحدة تلتئم فيها القصيدة في نموِّ متصاعد وصورمتوالية تأخذ بمجامع القلوب والعقول عبر مشاهد مصاغة من إكراهات الواقع وكوارثه، فمن قرع جرس الانتباه إلى ما يجري في غزة إلى التأكيد على الصمود فيها عبر مفردة دالة (نشيخ فيها) حتى الموت (نفرش للموتى بموتانا) كناية عن التمسك بالأرض والاستشهاد على ترابها، وتصوير للمأساة التي ألجمتنا، فلا شعور إلا بالموت ومفردته الوحيدة التي تغرق المشهد كله، وهذا مايذهل الذات الشاعرة فلايحركها شيء مهما كانت مغرياته، فهو مستغرق في سكينته حتى لوكان الجمال الأنثوي (ن تخرُجَ الآنَ من سِكِّينيَ امرأةٌ تُضفي على المَشهدِ المُختلِّ ألوانَا ) ثم كانت اللوحة التشكيلية التي انتهى إلى رسمها قبل أن تكتمل الدائرة و يسدل الستار. رسالة عاجلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي الشاعر: سلطان الضيط هذه قصيدة موقف تنبيء عن رؤية صريحة، شعريّتها تكمن في صدقها وصفاء مشاعر صاحبها، صريحة واضحة تؤكد الصورة الراسخة في وجدان كل عربي ومسلم يؤمن بعدالة القضية، فيها تحذير صارم من عواقب العدوان؛ فالكل مستعد للشهادة، وقد عمل الشاعر على تصوير عمق التمسك بالأرض والصمود فوقها بحديثه عن الهواء المشبع بأنفاس الراغبين في الاستشهاد دفاعا عن أرضهم وحب الاستشهاد،فصوره رايات مغروسة في الأرض، وقد عقد مقارنة بين هذا المشهد في نبله وطهارته وبين الصورة الأخرى النمطية الشائعة عن المعتدين الين هم أجدر بالتنكيل، صورتان متقابلتان لطرفين: أحدهما صاحب الأرض يضحي من أجلها والطرف الثاني دخيل، فهو كالأنعام أو أضل سبيلا، مواجهة صارمة صادمة. قصيدة تمثل صيحة غاضبة فاصلة بين فسطاطين، فهي منازلة بين أهل الباطل وبين أهل الحق أصحاب الأرض. (أعيذ جبينك أن ينحني) للشاعرة ساجدة الموسوي قصيدة تروي الحكاية منذ البداية حتى النهاية التي لم تكتمل بعد فصولا، سردية المأساة ضاقت بها العبارة واتسع المدى للتأويل: صورة تمثيليّة رمزيّة لمن نام نومة أهل الكهف؛ ولكنها سبعون سنة أو يزيد على حلم السلام، هذا الاستهلال الاسترجاعي الذي يلامس جذر المعضلة و منطلق المأساة ؛ و ربما انطوت على مغالطة تاريخية، فالصحوة كانت متعدّدة ولكن القوم كان يهدهدون أصحابها و يمنونهم بالأحلام ؛ تمثيل جميل لحقبة تاريخيّة تستثمر أغنية شعبية ذات نكهة فلسطينية توظفها ابتداء لصياغة المفارقة التي أفرزت هذا الواقع المرير. أما الصورة الثانية التي جاءت على النهج الجمالي التمثيلي السابق (صحوة الجرح حين يرش عليه الملح ) فتستنهض الرجال حين تصحو سيوفهم في تمثيل كنائيٍّ قريب المتناول في استقصاء يتداعى بأسماء المدن وأبنائها من الأبطال، فتتنامى شجرة الانتماء لتصل إلى محتدها الأصيل ممثلا في الأرومة العربية ، فكان استدعاءالتاريخ على النحو المألوف حين تداهمنا الأخطار الوجودية. فيا سيف َ خالدَ لمّا انتخى وأماط اللثام أُعيذُ جبينك أن ينحني .. هو الموتُ أهونُ من صفعةٍ لعدوٍ و القصيدة - إذ تصل إلى مشارف الانتخاء بالتاريخ - تنثال الحكمة من معين القهر وسرداب المأزق ، فكان التحذير من خدر الوعود،فالسلام هو العدل للقهر، وتزداد كثافة التقرير و التعريف جياشة ، وكأنها تحتشد في هجوم مباغت للضمير الإنساني عساه يستيقظ من غفوته، يعقب ذلك استئناف النهج التمثيلي الكنائي الذي يوضح المفاهيم ويصحح مسار التاريخ ، يقرع الآذان الصماء بفيض كمّي من التشبيه والتمثيل ، حيث التركيز على معنى السلام نقيضا للاستسلام ملتقطة مشبهاتها من الموروث القيمي والأخلاقي والإنساني و الوجداني: شرعة الحق وبسمة الطفل وحكمة الشيخ وقرّة العين وطمأنينة االأم والرموز والأيقونات الوطنية: النخلة واليمامة والغيمة والحديقة والورد والعقل والحب، وذلك في حماس وتدفق ونهاية متفلئلة بزوال الظلام و انبثلق النور. قصيدة (بعين الله) للشاعر حبيب المعاتيق ديمة شعريّة تهطل بأرقّ العواطف وأشفّ الأحاسيس تروي قصة أسرة رزئت بعائلها، يتمثل الشاعر فاجعتها وينطقها بلسان مبين ملتقطا نبض قلبها وشفيف مشاعرها، إنها تبوح بقلب مجروح وفؤاد مذبوح، ثمة طاقة وجدانية هائلة تتمثل في مفارقات لغوية وانزياحات تركيبية تمليها فداحة الكارثة وعظم المأساة (فنامي ملء هذا الظلم حتى تنجلي الظلم) وفي مثل هذه الحالات الشعريّة يبدو التعامل مع التفاصيل الدقيقة بعبارات استعاريّة مجازيّة أكثر قدرة على التعبير من تقنيات الحداثة الجمالية ،فالعبارات تخرج من مكمنها حارّة طازجة ، انزياحاتها محدودة ومفارقاتها عفوية، فالبيت مرتعش، حيث تنطق الجمادات وتتكلم الأشياء وينطق الحجر والشجر، وتبدو الحكاية عفويّة تصور الوقائع بالعين المجردة ؛ لأنها أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وتبدو الرواية قلقة زاخرة بالالتفات مضطربة، فالشاعر يتمثّل راويته فتاة تخاطب غيرها، ولعلها الأم الثاكلة، ثم تعود فتخاطب الأب الشهيد وتحيط خبرا بما حلّ بهذه الأسر، فالبيت قد انهدم وخرّ صريعا، والأب استشهد، وتأتي المناجاة للأب الفقيد على لسان ابنته تجمع بين نبرة الحزن والاعتزاز، ويتمثّلها وقد تماهت في الوطن و توحّدت فيه. ( تنفسنا بعيد هواك ياأبتي شذا العزة إذاماتت بنا الدنيا فقد ماتت بنا غزة) و ثمة استلهام لأسطورة الانبعاث، ولكن ليس بنصها ولكن بما توحي به من معاني النهوض بعد التعثّر والوجود بعد الفناء، إذ ينهي الشاعر قصيدته قائلا: (هنا بين الركام لنا نمت في حينا شتلة ستسقي ألف هاطلة بعين الطفل و الطفلة) قصيدة (زهور الكرامة) مهداة إلى غزة للشاعر جاسم عساكر ملحمة تروي قصة التضحية و الصمود، تتناسل فيها الصور في تجّليات مبدعة؛ فنحن أمام نبع دافق من المشاعر، وشريط متلاحق من الصور الدّالة المعبّرة عن مذخور من العواطف العواصف التي تتبدّى نهراً سلسبيلاً من الحب والإعجاب بالصمود، فالذات الشاعر تتوحّد في الموقف الفريد الشجاع لأطفال غزة و رجالها ونسائها؛ على مدى ما يزيد على ثلاثين بيتا شعريا تتلاحق الصور التي تبدو معادلاً وجدانيّا لموقف الشاعر من ملحمة التضحية و الصمود في غزة ، وهي صور ملوّنة بالنجيع مستلّة من صميم المشهد البطولي ، قصيدة هي الرواية الأمينة لملحمة الثبات والصمود و الجود بالنفائس من الأرواح، استهلها بمشهد يعبر بقسوة عن المشهد الأليم، ففيصوّر الرجال الذين يسلخون عن أجسادهم جلودهم ليخيطوا منها رداء يزهو به وطنهم، ويمضي مع تداعيات الموقف وتجليات البطولة والتضحية راسما بكلماته جدارية الصمود و التحدي، فقد جعلت المرأة الفلسطينية من البارود كحلاً ومن عبير الشهادة عطراً ، فقد حجب الشهداء بعبير استشهادهم عطر الحقول، ومضى يستولد الصور من رحم الموقف واستجابته لتداعياته، فكان واصفاً وسارداً في ذات الوقت، فلم تطغ غنائيته الشعرية على تفاصيل سرديته الشعرية تولدت من هذه التشكيلة درامية صراعية، فاستبصر مآلها فيما ابتكر من صورعجائبية، فثمة من ينهض من الأكفان، ومن يحرس سنابل الوطن واجترحت ماهو فوق المألوف فأزجى الشاعر لها من مكنون انتمائه ونبله ما جعل منها نموذجا للبطولة، لقد قدم الشاعرفي قصيدته ذوب قريحته ما يعدّ وثيقة شرف ووفاء، وليت المجال متسع لمزيد من القول . ولعلني في في مقالة أخرى أستطيع تقديم قراءة أوفر وأستكمل بقية القصائد التي لم يسعفني الوقت لقراءتها : قصيدة (نقاء أحمرللشاعرهادي رسول وقصيدة الشاعر عبد الوهاب أبو زيد ، وهما قصيدتان تستحقان الاحتفاء بهما ولكن الوقت داهمني فأعتذر للشاعرين الكريمين .