أكشاك الاستشارات.
حين كنا صغاراً كان الكبار يرددون علينا عبارة: “النصيحة اليوم بلاش وغداً ستكون بثمن”. إلى وقت قريب لم أستوعب كيف تكون النصيحة بمقابل مالي؟ مؤخراً انتشرت سوق عشوائية لتقديم الاستشارات المختلفة والمتنوعة، من الاستشارات النفسية إلى تلك التي تقترح الطريقة المثلى لأداء الزوجين على السرير. سوق نشطة للبيع والشراء، بيع النصيحة أو الاستشارة، وقبض ثمنها نقداً. ومن حيث المبدأ ليس لدي اعتراض على الفكرة ما دام أن كل شيء يمكن أن يكون له ثمن يباع ويشترى. اعتراضي هنا فقط هو أن الإنسان قد لا يكون فعلياً بحاجة إلى (رأي).. مجرد رأي لإنسان آخر عن مشكلة يعيشها هو، يعيشها بتجربته ومشاعره وذاكرته الخاصة بها ومعها ولها، في حين يمكنه (هو) تكوين رأي خاص به يقدمه لنفسه لينقذ نفسه. جزء كبير جداً من تلك الاستشارات قائم على (الموعظة) من زاوية نظر خاصة بالواعظ / الناصح/ الاستشاري الذي يرى من زاوية محددة قد لا تحيط بكامل الصورة التي ينظر من خلالها من يطلب النصيحة. فعلياً هناك مشكلة كبيرة في مفهوم النصيحة، وخصوصاً حين يتم الإصرار على تعميمها لتصبح حلاً مشاعاً لكل إنسان، وهذا خطأ كبير جداً؛ حيث إن لكل إنسان رحلته الخاصة به في أي مشكلة يقع فيها، ولكل رحلة تضاريسها وتجاربها، ولا يمكن أن يكون هناك وصفة جاهزة لكل التجارب وكل الناس. تخيل أن يكون هناك دواء يصلح لكل الناس! يستحيل تصور ذلك، ومن باب أولى و(أدق) النصيحة أو الاستشارة التي تُمنح بعشوائية الذهن الذي يتخيل أن كل البشر على نمطه ومزاجه وتركيبته النفسية ذاتها. البعض قد يكوّن آراءه الخاصة في السياسة والاقتصاد والدين والمجتمع، وربما يثق جداً بآرائه أو يتعصب لها، ولكنه حين يقع في مشكلة يبدأ في البحث عمّن يقدّم له رأياً أو استشارة ليخرج من مشكلته. هذه الازدواجية منبعها الشعور بذوبان الفردانية، والإحساس بهامشية الذات، في مقابل الشعور بالانتماء للحالة الجمعيّة القائمة، فهو حين يقدّم رأياً (مجتمعياً) عاماً فهو يشعر بالاتكاء على تلك الحالة الجمعيّة، ويكون حينها أكثر اطمئناناً لرأيه. ولكن حين يواجه نفسه، وينفرد بها، فهو لا يستطيع البقاء في تلك المواجهة، ويستوحش منها، ومن نفسه، ولذلك فإن مثل هؤلاء يظلون أسرى احتياجهم الدائم للناس، ولا يمكنهم أبداً تجربة لذة العزلة، ولا الاستئناس بذواتهم أو الاكتفاء بها أبداً.