“جاءَ الشِّتاءُ بِغَيْمِهِ مُتَحَجِّبا أهلاً بِسُلْطانِ الفصولِ ومَرحَبا أعْظِمْ بِهِ مَلِكاً عَلَيْهِ مَهابَةٌ عَمَّتْ كتائِبُهُ الأباطِحَ والرُّبا”* في هذه الأيام التي تطلّ فيها الشمس بخجل، وتطول الليالي الباردة التي تتيح لنا الانزواء في عوالمنا الخاصة والاستمتاع بمنادمة الكتب، هل جربت حلول فصل الشتاء بشكل مواز للواقع، في الكتاب الذي بين يديك؟ تخيل سير خطواتك على جليد سانت بطرسبرج أو سماعك لصوت عاصفة ثلجية في نيويورك أو إحساسك بتسلل البرودة إلى أطرافك في جبال الألب السويسرية أو مراقبتك لانزياح الثلوج أمام توهج الربيع في الريف الروسي. جرّب أن تغمر نفسك في رواية يكون فيها الشتاء بطلا يدفع عجلة الأحداث ويحمل دلالاته التي تتكشّف من خلال السرد. يمتلك بعض الروائيين أدوات سردية قوية تجعل القارئ يعيش التجربة بعمق. فلا يكون الشتاء مجرد خلفية زمنية، بل عنصر فعال يخدم السياق ويُضفي بُعدا ملموسا للأحداث. عدوّ رهيب: في رواية “المعطف” الشهيرة لنيكولاي غوغول، يصف شتاء سان بطرسبرج كَعَدُوّ يصعب التغلب عليه، يزيد من معاناة الكادحين ويقف بمواجهتهم مُتّحِدا مع الفقر والعزلة والمرض ليجعل حياتهم أكثر بؤسا. إنه البطل الخفي الذي يُوجّه الأحداث ويُشكّل مسارها، ويضفي على الحبكة عمقًا وحيوية. كما يحمل رمزية تعكس جمود العلاقات الاجتماعية واللامبالاة بالغير. يقول غوغول:”وتحتضن سان بطرسبرج عدوَا رهيبا لجميع أولئك الذين يكسبون أربعمائة روبل أو ما يقارب في العام. وهذا العدو ليس سوى صقيعنا الشمالي” إلى أن يصف الطريقة البدائية التي يحاولون بها توليد طاقة تسري في أجسادهم لتمنحهم الدفء: “فإنقاذهم الوحيد يكمن في جَريهم مسافة خمسة أو ستة شوارع بأكملها في معاطفهم الرقيقة البائسة، وبعد ذلك يقومون بدقّ أقدامهم بقوة لتدفئة أنفسهم في الردهة حتى يسترجعوا جميع ملكاتهم الحسية المتجمدة”. نقطة التحول: أما في رواية “ما وراء الشتاء”لإيزابيل الليندي يحضر الشتاء كأداة تعزز العزلة ظاهريا لكنها تؤدي للتفاعل الاجتماعي والترابط في الحقيقة. تهبّ عاصفة ثلجية في بروكلين بنيويورك، تغلق الشوارع وتعطل حركة السير. في هذه الأثناء يحدث أمر يجبر الشخصيات الثلاثة للبقاء معا، ومن هنا تبدأ مغامرتهم التي يواجهون في أثنائها مخاوفهم، ويكشفون عن مشاعرهم ويغوصون في ذواتهم. تقول إيزابيل: “بينما كانت العاصفة آخذة بالتعب من معاقبة الأرض والتحلل في الأطلسي، كانت حَيَوَات لوثيا ماراث وريتشارد بوماستير وإيفيلين أورتيغا قد تشابكت بطريقة لا يمكن الرجوع عنها”. يمكن أن نقول إن الشتاء في هذا العمل هو نقطة التحول وانطلاق للبدايات الجديدة. هذه المرة لا يقف عدوا أمامهم، بل يشكل وسيلة لاتحاد أبطال الرواية باختلاف شخصياتهم ويقودهم للتغير الإيجابي. وبالتوقف أمام عنوان الرواية، نجد أن ما وراء الشتاء بقسوته هو الربيع بازدهاره. تساؤلات فلسفية: في مصحة لعلاج مرض السل، تدور أحداث رواية “الجبل السحري” للكاتب الألماني توماس مان. يحضر شتاء جبال الألب في هذا العمل ليعكس واقعيا ورمزيا مشاعر العزلة والانزواء عن العالم الخارجي، كما يدعم مسار الأحداث بصفته قوة تُظهر هشاشة الإنسان وعجزه عن تفادي سطوة الشتاء بما يتسبب به من وهن جسدي. تبدأ أحداث الرواية بِسَفر هانس كاستورب إلى المصحة لزيارة ابن خالته المريض، يواخيم تسيمزن، ولسببٍ ما، تمتد هذه الزيارة لفترة طويلة. يقضي فيها كاستورب أياما وليالٍ عديدة في هذا المكان البارد متأملا من نافذته سكون الشتاء الأبدي مراجعا مفاهيمه الذاتية حول الحياة والموت. كما تحتوي الرواية حوارات فلسفية عميقة بين الشخصيات حول القضايا الأخلاقية والسياسية. يصف مان على لسان بطل الرواية شتاء الجبل السحري، مقارنا إيّاه بالشتاء في الأراضي المنبسطة بقوله: “عندما يأتي الشتاء أو الصيف في الأرض المنبسطة يكون قد مضى على الشتاء أو الصيف الذين سبقاهما فترة كافية تسمح لنا باستقبالهما من جديد بترحاب وحفاوة، وعلى هذا تنشأ الرغبة في الحياة. أما عندنا هنا فوق، فثمة خلل في هذا النظام وذلك التناغم، أولا لأنه لا توجد فصول أربعة ذات حدود صحيحة، بل توجد أيام صيفية وأخرى شتوية يختلط بعضها بالبعض الأخر باستمرار. أضف إلى ذلك عدم وجود زمن يمر أمام الإنسان بحيث أن الشتاء الجديد إذا جاء لم يكن جديدا، بل هو الشتاء القديم نفسه. وهذا ما يفسر إحساسك بالانقباض الذي تنظر به عبر الباب الزجاجي”. دورة الحياة: “وجاء الشتاء، نوع الشتاء ذاته الذي كانوا يتكلمون عنه. ولم يكن أكثر رعبا من الشتاءَيْن اللذين تلياه، بل من النوع نفسه: ظلام، جوع، برد، انصراف كلي إلى تحطيم الأسس المعروفة وبناء أسس للوجود جديدة كليا. وإلى بذل الجهد العظيم للتعلق بالحياة وهي تنزلق من قبضتك”**. تتوالى فصول السنة في العمل الملحمي “دكتور جيفاكو”، الذي تجري أحداثه خلال فترة الاضطرابات التي تلت الثورة وسبقت الحرب الأهلية في روسيا. الشتاء في هذا العمل لبوريس باسترناك يشكل حضورا ماديا طاغيا يضفي المزيد من المشقة والقسوة على الحياة في تلك الفترة. كما أن تعاقب الفصول في هذه الرواية له رمزيته الخاصة، فهو تعاقب لليأس والأمل ويعكس المتغيرات التي تعتري الإنسان وصراعه من أجل البقاء ومرونته في التكيف مع الصعوبات. يصف باسترناك استيقاظ الربيع وتقهقر الشتاء:” كان الثلج بادئ الأمر يذوب في الأسفل بصمت وخفاء. وانفجرت المعجزة حين اكتمل العمل البطولي، وأخذ الماء يتدفق تحت طبقة الثلج المشقق ويغني، وترتعش أحشاء الغابات التي لا ينفذ إليها. كان كل شيء يستيقظ”. ختاما: عندما يحل الشتاء في الروايات، فإنه لا يكتفي بكونه إطارا زمنيا، بل إنه أداة سردية يستخدمها الكاتب ليعكس دلالات ورموز توائم سياق العمل، وتبث فيه عمقا حسيا يؤثر في مشاعر القراء. حضور الشتاء بظواهره قد يشكل عائقا، أو فرصة للنهوض والمقاومة، أو ساحة للصراع وغيرها من الوظائف التي تخلق تجربة وجدانية عميقة لا تُنسى لدى المتلقي. *ابن خاتمة الأندلسي **دكتور جيفاكو- بوريس باسترناك