تنوعت مواهبه بين الصحافة والإذاعة والكتابة والرسم:
يحيى باجنيد..ابن جدة القديمة وقلمها الساخر وفنانها التشكيلي المرهف.
كيف لا تكون الـ “ذاكرة حية” وأنا أكتب عن سيرة ومسيرة أبٍ حانٍ فتح لي آفاق العمل بالمجال الصحفي في بدايات عطائي في بلاط صاحبة الجلالة قبل أكثر من ثلاثة عقود. فقد مثل في قيمته وكينونته وجمال أدبياته، شخصية أبوية جاذبة لكل من عمل معه إبان رئاسته لتحرير مجلة اقرأ. لا أنسى كما لا ينسى غيري من الزملاء في قسم التحرير، الاجتماع الأسبوعي بعد صدور كل عدد، كما لا يمكن أن ننسى جميعًا ذلك اللقاء الذي كان معدًا لنا لزيارة صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز – رحمه الله- أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك، لولا ظروف سموه التي حالت دون تحقيق تلك الزيارة. إن الحديث عن الأستاذ يحيى باجنيد لا بد أن يكون متشعبًا متنوعًا بحكم تنوع مهاراته وتخصصاته فهو الكاتب الساخر والقاص والصحفي ورسام الكاريكاتير والفنان التشكيلي والإذاعي والسيناريست، ابن جدة القديمة التي استلهم منها ذائقته الشعبية متدثرًا بموروثها الأصيل وحكاياتها العتيقة. ولد يحيى محمد باجنيد عام 1368هـ في حارة الشام بمدينة جدة التي تعرف أيضًا بحارة التجار، وما بين هذا الحي العريق وحي البغدادية تكونت ملامح شخصيته الممتزجة بألوان التراث الذي يجمع بين الحاضرة والبادية. كانت الحياة في تلك الحارات بسيطة يكتنفها دفء العلاقات بين الجيران وتكاتفهم وتلاحمهم فجميع من يعيشون فيها يعرف بعضهم بعضا ويلتقون صباحًا ومساءً فتتقاطع أعمالهم وحكاياتهم ومصالحهم، وذلك ما ترك أثرًا عميقًا لدى يحيى باجنيد وغيره من كتاب وأدباء جدة المتعلقين والمتأثرين بنشأتهم وذكرياتهم في تلك الحارات. يقول عن ذلك في مقال له بصحيفة (الرياض): “دائمًا ارتبط وجداني بوسط المدينة، ليس مدينتي وحدها، بل كل المدن التي أغشاها يوم كنت مفتتنًا بالسفر بعيدًا عن المخاطر.. كان هذا قبل أن ترتجف الدنيا من حولنا.. وتتبدّل أحوال الناس.. وتتأبط إنسانية الإنسان شرًا.!. أنا وسطي الهوى، أطرب لهذه النداءات.. والأصوات.. يموج مزاجي الشعبي، المتلبّس بالحداثة، مع حركة (البسكليتات) ذات الرفارف التي يزينها (الشطرطون) بألوان الأندية.. وعربات الكارُّو التي يجرها أصبر خلق الله على الناس.. أضحك من شقاوة الطفولة كلما تعثّر أو تزحلق أو اصطدم رأس أو كتف بآخر.. أو كلما نهر الكبار أحدًا من الصغار، حاد عن الجادّة بحركة بسيطة أو كبيسة.!. تلك أيام خلت أستبقيها على سبيل التّذكّر.. أتملّى بفوحها وبوحها بين وقت وآخر مع صديقي الأستاذ سعد الحميدين الذي جال كما أنا في هذه المرابع، راكبًا أو راجلًا، وإن كان لا يأبه بالبرد فهو عالي الهوى بارتفاع الطائف المأنوس”. كانت مكتبة والده هي المكان المفضل له حيث تولع بالقراءة وتأثر في ذلك بأبيه وبجده لأمه حيث كانا يشجعانه على القراءة منذ الصغر، كما أظهر في صغره موهبة في الرسم. عن بداية عمله الصحفي، قال باجنيد في أمسية أدبية أقامها نادي الرياض الأدبي عام 2011، ونشرت صحيفة (الرياض) مقتطفات منها: “كانت بدايتي مع الصحافة عبر ولعي بالقراءة التي ورثتها عن والدي، وتأثري بجدي لأمي، إلى جانب اتجاهي للرسم آنذاك، إذ كان جلوسي في مكتبة والدي تتجاذبه القراءة والرسم، إذ كانت الإرهاصات الأولى مع الريشة والقلم.. فالصحافة بيتي والإذاعة معشوقتي.. وما تزال الإذاعة غرامي، لكونها تتيح لسامعها أن يشارك فيما يسمع، إلا أن الصحافة ودروبها قادتني من محطة صحفية إلى أخرى عبر العديد من الصحف المحلية التي أفخر بأن تكون آخر محطاتها كاتبًا في جريدة (الرياض) فعمودي (حسبنا الله) أستطيع أن أقول إنه مر بأغلب الصحف المحلية”. عمل باجنيد في الحقل الصحفي متدرجًا من محرر إلى نائب رئيس تحرير، إلى أن كلف برئاسة تحرير جريدة المدينة، كما أختير رئيسًا لتحرير مجلة اقرأ، ثم رئيس تحرير لمجلة الحج والعمرة، وكتب باجنيد في جميع الصحف والمجلات السعودية وكذلك في مجلة “كاريكاتير” وجريدة “الجمهورية” المصرية، كما رسم الكاريكاتير السياسي والاجتماعي منذ العام 1390هـ ومنح درع الاستحقاق كرائد في رسم الكاريكاتير في مهرجان الكاريكاتير العربي الأول في المملكة العربية السعودية. ويقول باجنيد إن عمله في الصحافة أتاح له الالتقاء بالعديد من رموزها في الفترة الماضية حيث تأثر بهم وتعلم منهم ووجد منهم كل تشجيع وثناء، ومن أبرز الذين ذكرهم في مناسبات مختلفة الأساتذة حسن كتبي، ومحمد حسين زيدان، وأبو تراب الظاهري، وأبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعبدالله بن إدريس، وعبدالله الجفري وغيرهم. عمله في الإذاعة انجذب يحيى باجنيد للإذاعة منذ صغره حيث كان حريصًا على متابعة برامجها وتدوين ملاحظاته ومعلوماته عنها، ولم يكتف بذلك بل كان يحرص على زيارتها في صغره ثم لاحقًا بعد أن عمل في الصحافة، فالتقى ببعض أعلام العمل الإذاعي في المملكة واستفاد من تجاربهم ونصائحهم، ومن بينهم الأستاذ عباس غزاوي والأستاذ بدر كريّم، ليقدم فيما بعد عددًا من البرامج الإذاعية الناجحة التي كان يتابعها الجمهور ويترقبها، قبل أن يبرع في مجال الدراما الإذاعية حيث كتب العديد من المسلسلات الإذاعية الساخرة والتوعوية التي كانت تقدم الابتسامة والتوعية في الوقت ذاته وكان ممن زامله في العمل الإذاعي، سعيد بصيري وخالد زارع وعلي البعداني، ومن أشهر برامجه الإذاعية (كلام على قد الكلام) مع الزميلة فريدة عبدالستار، والبرنامج الرومانسي (مساحة للراحة) مع زميلته أمل سراج و(نهار آخر) من إخراج سلطان الروقي، وبرنامج (همسة) للمخرج عبدالله منشي، و(عباس وعباسية) وأيضًا (وه يا سيدي) وغيرها. ويحكي باجنيد في حوار مع صحيفة (المدينة) قصة طريفة حدثت له في صغره عندما التقى الأستاذ والإذاعي الكبير عباس غزاوي في استوديوهات الإذاعة بشارع المطار حيث سأله: «لمّا تكبر تحب تشتغل إيه يا شاطر»؟.. فأجابه: «أفتح دكان وأبيع سكّر وشاي».. فضحك يومها الإذاعي الجميل.. ويقول باجنيد معلقًا: “بالأمانة أنا اليوم أقول ليتني بعت سكّر وشاي!”. دراسة الفنون الجميلة تمكن حب الرسم والفن التشكيلي من قلب يحيى باجنيد في فترة من الزمن، فابتعث لدراسة الفنون الجميلة بأكاديمية (فلورنسا) الإيطالية، مدينة الحب والعشاق، وتخرج منها بعد سنوات تذوق خلالها الفن والأدب في إيطاليا وتعرف على رموزها أمثال دافينشي ومايكل أنجيلو ودوناتيللو وتيتيان ورافاييل. وبعد أن سرقته مهنة المتاعب من العمل الفني لسنوات طويلة، أقام باجنيد أول معرض فني له بجدة عام 2017، حيث افتتحته السيدة نادية الزهير ونظمه أتيليه جدة للفنون الجميلة، وكان آخر معرض له في العام الماضي في صالة (داما آرت). وفي حديثه عن المعرض الشخصي الأول ليحيى باجنيد، قال الفنان هشام قنديل مدير أتيليه جدة لصحيفة (الرياض): “إن الأتيليه نظم حوارًا فنيًا مفتوحًا حول أعمال الفنان يحيى باجنيد، ما لها وما عليها، بمشاركة نخبة من الفنانين والنقاد وأشار قنديل إلى أن هذا المعرض طال انتظاره لمدة تزيد على ربع قرن تقريبًا، خصوصًا أن الفنان يحيى باجنيد من أوائل الفنانين السعوديين الذين درسوا الفن في إيطاليا مثل زملائه بكر شيخون وعثمان الخزيم وعلي الرزيزاء، ولكن صاحبة الجلالة الصحافة أخذته بعيدًا عن عالم الفن التشكيلي، وإن كان لم يتوقف عن الرسم وظل يمارس هوايته عن طريق الرسومات السريعة والاسكتشات التي تصاحب كتاباته وقصصه ورواياته، وشغل الأستاذ يحيى باجنيد مناصب عديدة منها رئاسته لتحرير مجلة اقرأ لفترة طويلة وغيرها من المطبوعات الأخرى، وسيكون هذا المعرض أشبه بحوار بين الريشة والقلم، خصوصًا أن الفنان يمتلك باقتدار الموهبتين في وقت واحد”. وقالت عنه الفنانة التشكيلية العالمية غدير حافظ: “الفنان يحيى باجنيد فنان راقي الفكر، جميل الملقى، وإنسان مرهف الإحساس والمنطق. فنان لديه حس فني عالٍ، وثقافة فنية وفلسفية تستحق التقدير. أعمال النحت لديه تشعرك أنه يصنع ما يحب، وأن لديه حس عالٍ جدًا في توظيف الخامات ودمجها. التقيته في معرضي الشخصي الخامس “شتات بين الحقيقة والخيال”، وكان وجوده مميزًا وراقيًا حينما تبادلنا الحوار. حينها علمت أن لدينا في المملكة العربية السعودية فنانين يستحقون كل التقدير؛ فلهم تاريخهم الفني وأعمالهم تتحدث عنهم، ولديهم ثقافة عالية”. وتتحدث عنه الأستاذة ابتهال باجنيد مدربة الفنون التشكيلية، قائلة: يحظى الأستاذ يحيى باجنيد بالكثير من التقدير والاحترام في الوسط الفني التشكيلي. وأهم ما يميزه نقده الموضوعي الدقيق للوحات التشكيلية، لدرجة أن الفنانات والفنانين ينتظرون لحظة مروره على أعمالهم لسماع رأيه ونقده في أعمالهم.. وكان لنا الشرف في استضافته ضمن لجنة تقييم الأعمال في معرض “وطني الحبيب” الذي شارك فيه ٤٥ فنانة من مختلف مناطق المملكة.. وهذا ما يؤكد قيمته الفنية الكبيرة والتقدير الواسع الذي يحظى به داخل الوسط التشكيلي. وعن رحلته مع الفن والكتابة يقول الأستاذ صالح بوقري الرئيس السابق لبيت الفنانين التشكيليين لصحيفة (الرياض) أيضًا: “إن يحيى باجنيد فنان موهوب له في كل فن باع، فهو حاضر بين الصحفيين وكتاب المسلسلات الإذاعية وبارع في الكاريكاتير ومجيد للقصة القصيرة، كما أنه فنان تشكيلي سرقته الكتابة والصحافة عن الساحة التشكيلية منذ عقود، وللأسف لم تحظ به الساحة التشكيلية بعكس الصحافة والأدب والإذاعة. ويضيف بوقري: “دعاني باجنيد إلى مرسمه حيث كان يستعد لمعرضه الشخصي الفني الأول، وكان يستعرض معي لوحاته التي سيضمها معرضه في جدة، وكان لي شرف مشاركته الرأي في هذه الأعمال الفنية التي تجسد أفكاره وخيالاته وإسقاطاته والتي تعكس شخصيته المسكونة بالسريالية أحيانًا والبساطة أحيانًا أخرى، تجد ذلك في شخوصه وألوانه ومواضيع لوحاته وحتى في عناوين وأسماء أعماله الفنية، نعرفه كاتبًا وإذاعيًا وقلمًا نعرفه تشكيليًا وراجعت معه أعماله التي بلغت أربعين لوحة حيث حملت هوية معرض متكامل العناصر الفنية في الشكل والموضوع طالما انتظرته الساحة التشكيلية”. رأس يحيى محمد باجنيد تحرير مجلة الحج والعمرة، وكان عضوًا لعدة سنوات في لجنة تحكيم جائزة أفضل عمل صحافي في الحج التي تنظمها وزارة الحج، والتي كانت تتكون من نخبة من الإعلاميين والكتاب والصحافيين، أمثال: محمد صلاح الدين، وعبدالفتاح أبو مدين، وعبدالله خياط – يرحمهم الله-، وأحمد محمود، وفاروق لقمان، ود. أحمد اليوسف وغيرهم. صدر ليحيى باجنيد العديد من الكتب والروايات ومنها: (راجل ونص)، (راجل نكد)، (هذا زمن العقل)، (حسبنا الله)، (تفاحة آدم وثلاجة الخواجات)، (البازان وسيل البغدادية) وأيضًا (ومن الحب ما أحيا) وغيرها الكثير، وله العديد من الكتابات الساخرة والقصص القصيرة والزجل الشعبي والحكايات القصيرة، وله أيضًا عمل تسجيلي حمل عنوان “رضية وحسن النية”. وشارك باجنيد في العديد من الأمسيات الثقافية سواء في نادي جدة الأدبي أو مركز التجديد الثقافي وكذلك في أكاديمية (صدى الذات للتدريب عن بعد). أسلوب ساخر بلغة محببة أكثر ما يميز يحيى باجنيد أسلوبه الساخر سواء في مقالاته أو حواراته أو حتى رواياته، ويمتاز بمزجه بين اللغة الفصحى واللهجة الجداوية، وهو ما أكسبه خصوصية فريدة لدى محبيه، كما يتصف بروح الدعابة والتواضع الجم ودماثة الأخلاق التي شهد له بها كل من عرفه أو تعامل معه، سواء في المجال الصحفي أو الإعلامي أو الفني. وسارت على نهجه ابنته إيمان، التي تكتب المقال الصحفي في جريدة (البلاد) وبعض الصحف الأخرى، أما ابنه أيمن فوصفه في حوار مع صحيفة (عكاظ) بـ “الكاتب الجميل الذي لن تخطبه الصحافة”. وفي الحوار ذاته أجاب باجنيد عن أيهما أكثر قربًا لقلبه بين الصحافة والإذاعة بقوله: “عينان في رأس.. الصحافة بيتي.. فيها أكتب وآكل وأشرب.. والإذاعة شبابي وعذابي.. عشقي وحبي، لكنه حب من طرف واحد.. وليس بالحب وحده يعيش الإنسان”. ودافع باجنيد عن أسلوب السخرية الذي يغلف كتاباته وإجاباته في حواره مع صحيفة (عكاظ) حيث أجاب عن سر طغيان السخرية على قلمه ككاتب وريشته كرسام بقوله: “لا طغيان ولا هم يحزنون.. الكتابة الساخرة ليست تهريجًا ولا فضفضة مجالس.. إنها روح وفكر وهوية.. أنا لا أتعمد السخرية.. إنني أنظر حولي بعيوني أنا فأضحك ولكنه ضحك كالبكاء”.