مسرحية «طوق» لأحمد بن حمضة..

رؤية نقدية لحياة الإنسان المعاصر .

عُرضت مسرحية “طوق” على خشبة المسرح الأحمر في جامعة الأميرة نورة ضمن فعاليات مهرجان الرياض للمسرح في دورته الثانية، وهي من تأليف الكاتب أحمد موسى بن حمضه، وإخراج فهد الدوسري. تدور المسرحية حول مجموعة من الأشخاص الذين يجدون أنفسهم محاصرين في حلقة متكررة من المشاهد والحوارات التي تعيد نفسها يوميا مما يدفع إحدى الشخصيات إلى الوصول الى مرحلة من الضجر. تحاول هذه الشخصية جاهدة كسر حاجز الوقت من خلال إيقاظ الآخرين من هذه الحلقة المفرغة والخالية من المعنى، لكنه يواجه صعوبة في إقناعهم بجدوى المحاولة بسبب تباين الشخصيات والآراء. تقدم المسرحية رؤية نقدية لحياة الإنسان المعاصر الذي أصبح أسيرًا لأنظمة حياتية متكررة. تبدو الشخصيات وكأنها سجينة داخل نظام عمل جامد، حيث تتكرر الأحداث نفسها بشكل آلي. لم يقتصر العرض المسرحي على تقديم الواقع كما هو، بل سعى إلى إعادة تشكيل هذا الواقع عبر منظور سينوغرافي متكامل، يعكس رؤية المخرج. تتداخل في العرض إشارات بصرية وسمعية متنوعة، مثل التباين بين الضوء والظلام والحركة والثبات. يتوسط المسرح ساعة ضخمة تشير إلى الحادية عشر وخمس وخمسين دقيقة، بينما يبقى عقرب الثواني ثابتًا بشريط لاصق. الشخصيات وتفاوت أبعادها تميزت هذه المسرحية بتفاوت واضح في أبعاد الشخصيات، حيث برع الكاتب في سبر أغوارها ورسم ملامحها بدقة وجعلها رموزًا تعكس حالات إنسانية ونفسية متعددة. رجل 1، بصفته المحور الرئيسي، يمثل صوت الثورة والتمرد على القيود المجتمعية والنفسية. في المقابل، يمثل المدير السلطة والنظام المهيمن الذي يسعى للحفاظ على الاستقرار الظاهري بأي ثمن. بين هاتين القوتين، تظهر الشخصيات الأخرى كضحايا للنظام أو كشركاء صامتين فيه. في هذا السياق، يتضح التباين بين الشخصيات من خلال مواقعهم على خشبة المسرح، يحمل وقوف “رجل 1” فوق الطاولة، دلالة رمزية تشير إلى أنه يرى الأمور من زاوية أعلى وأشمل، تعكس وعيًا أو إدراكًا مختلفًا لم تتمكن بقية الشخصيات من الوصول إليه بسبب تمسكها بالموقع الثابت أو رؤيتها المحدودة. يشير هذا الموقع المرتفع إلى محاولة تجاوز القيود المفروضة أو التحرر من دائرة التكرار، ما يجعل الشخصية في حالة من الانفصال النسبي عن الآخرين. ويؤكد ذلك موقف صعود “المرأة 2” إلى نفس المستوى في الجزء الأخير من العرض، حيث تغيرت نظرتها بشكل جذري، وبدأت ترى المشهد من منظور جديد يحررها من الروتين والجمود. لم يكن الصراع في المسرحية خارجيًا فحسب، بل داخلي أيضًا، حيث تتصارع الشخصيات مع أفكارها ومخاوفها. يتجلى هذا في حوار رجل 1 مع بقية الشخصيات ومع نفسه، حيث يكشف عن رغبة ملحة في كسر حلقة الاعتياد التي يعيشها قائلًا: “الاعتياد جسد ميت ممتلئ بالسكون والفراغ، منه تتبدد الحياة والحماس... لذا لن أعتاد”. يتضح صراعه الخارجي مع بقية الشخصيات التي تقاومه وتسخر منه عندما يتساءل ويحاول تفسير ما يحدث، سائلًا ومتسائلًا: “ ألم تلاحظوا شيء غريبا يحدث من حولكم؟ كيف أن يومنا يعيد نفسه، بنفس الحركات والكلام وكل شيء، ألم يصيبكم السأم والضجر من هذا؟ انظروا حولكم، نفس الوجوه والملابس والمكاتب وكل شيء، وهذه الساعة البليدة، ألا تشعرون بشيء؟” تؤكد الشخصيات انزعاجها من أي محاولة لكسر الروتين من خلال مشهد بسيط كعطسة “رجل 2”، حيث يُضخم هذا الحدث بشكل مبالغ فيه، ليعكس رفض الشخصيات وانزعاجها من أي تغيير أ خروج عن الروتين. رمزية التكرار يعتمد النص بشكل أساسي على فكرة إعادة تقديم المشهد ذاته مرارًا وتكرارًا، وهو رمز لحصار الشخصيات داخل حلقة لا نهائية من الأحداث المكررة. تعكس هذه العودة المستمرة إلى نفس المشهد ونفس الحوارات أزمة الشخصيات في فهم ذاتها داخل “المشهد المسرحي”، حيث تبدو محاصرة في دور لا تستطيع الفكاك منه. يمكن قراءة هذا التكرار كرمز لصراع الإنسان مع الأدوار المفروضة عليه من قبل المجتمع أو الظروف المحيطة. لم يكن تفاعل الجمهور مع العرض مقتصرًا على مستوى المشاهدة فقط، بل امتد أيضًا إلى مستوى التأويل والمشاركة في صياغة المعنى، وتحديدًا عندما تكسر إحدى الشخصية الجدار الرابع بخطاب استفزازي مباشر يدعو للتفكير في حالة السكون واللاجدوى التي يعيشها الجميع، سواء داخل المسرح أو في حياتهم الواقعية قائلة: “ألم تتحركوا بعد؟ ألم يغريكم الملل بالخروج من هنا؟ نعيش هذه الحالة من الدوران والضياع.. ندور وندور.. لا شيء سيغير هذا الملل القاتل.. فكل ضجيجي مجرد صرخة داخل بركة ماء... لا أحد سيسمعها ولا أستطيع أنا نفسي التنفس لأطلقها... لذا لا أدري عنكم، مشغولون بملاحقة الأشياء... وتكرارها مرة تلو أخرى...” لم يكتفِ الكاتب بجعل إحدى الشخصيات تخاطب الجمهور مباشرة وتطرح عليه بالأسئلة، بل أشعل حالة من الرهبة واليقظة من خلال حوار رجل١ “فوزي” وامرأة٢ “أمينة”: “رجل 1: سأراك بالغد امرأة:2 هل نستطيع أن نطلق عليه الغد رجل:1 نحن من نسبغ الأسماء على الأشياء... فلنسميه الغد أو الأسبوع... أو السنة...” فيدفعنا للتساؤل حول ماهية الزمن واللغة: هل نحن من يمنح الأشياء معناها أم أنها تحمل معناها بذاتها؟ ويدعونا لإعادة النظر في أدورانا في تشكيل الواقع من حولنا. في اللوحة الرابعة، يشير استرجاع “امرأة 2” ما حدث في اليوم السابق، لبداية الخروج من دائرة التكرار. يعبر “رجل1” عن دهشته وفرحه قائلاً: “أنتِ تذكرين... لا أصدق... هذه جديدة”! تساءلت حول مشهدين على وجه التحديد: مشهد المحاكمة ومشهد الحادث، حيث بدت هذه المشاهد غير مرتبطة بشكل واضح بفكرة العرض الرئيسية، ولم تكن مذكورة في النص المكتوب، إذ كان حضورها في العرض خارجًا عن الموضوعات التي حددها المؤلف. بالإضافة إلى عنوان المسرحية “طوق”، الذي جاء كاشفًا لمعنى النص ومضمونه، ورأيت أنه من الأفضل تقديم فكرة “الطوق” بأسلوب فني ضمن رؤية العرض المسرحية. تنتهي المسرحية بلمحة من الأمل المبهم، رغم غموضها، تشير إلى إمكانية التحرر والخروج من دائرة التكرار، ولكن يظل هذا الفعل مشروطًا بوعي الفرد بقدرته على التغيير.