غربة الحاضر وأُلفة الماضي.
يتعرّض كثير منا لحالة من الغربة والاغتراب عند الانتقال للأماكن الجديدة، أو السفر لبعض الأيام ولأي سبب لمناطق أو بلادٍ أخرى، فيشعر بالغربة والجزع، وسرعان ما يعاود الرجوع لأهله ووطنه عند انتهاء مهمته، مستعجلًا في إنهاء شعوره الأليم بالغربة. فهناك من ترك بلاده وسافر لبعثة دراسية في إحدى الدول الأجنبية، وأحسّ بالغربة عندما وطأت قدماه أرض تلك البلاد، وأحس بغربة أخرى عندما رأى جامعته الجديدة فيها، وغربة ثالثة عندما دخل لقاعة الدروس لأول مرة، وبدأ يستعرض شريط الأفكار لأرضٍ ليست هذه الأرض، وجامعة ليست كهذه الجامعة، وقاعة أخرى ألِفها ليست كهذه القاعة. وكم من شخص سافر ليكدح ويعيش غريبًا عن الأهل والأصحاب بعيدًا، فوجد نفسه في مدينة لم يألفها، أو في مصنع في صحراء خالية غريبة، أو في منجم تحت الأرض، فأحسّ بوحشة الزمان والمكان والجو والوقت والفلك وحتى الهواء الذي يتنفسه! ولم يكن يعرف ويألف شيئًا من كل ما حوله إلا نفسه! وحتى نفسه يتحسسها بين الفينة والأخرى أهي نفسه التي يعرفها أم هي نفس غريبة؟ إن الغربة إحساس موحش للنفس البشرية، ومعاناة نفسية للإنسان المكوّن من كتلة من المشاعر الإنسانية، الغربة ألمٌ شديد يصيب الروح والجسد، فيجعل نفس الإنسان منفطرة حزينة لا حول لها ولا قوة أمام حاضرها البائس. ويزيد من ألم الغربة على النفس بعد المكان عن الأهل والأصحاب والأوطان، فيبدأ شريط الذكريات بالعرض في المخيلة.. حاملًا معه أقسى أنواع الأسى والشجون والألم، ولسان حاله كما يقول الشاعر: بانوا فَليت غَرامي بعدَهم بانا واِستشعر القَلبُ بعد البَين سُلوانا لا بل سَروا بفؤادي قبلَ سيرهم وأَبدَلوا من جَميلِ الصَبرِ أَحزانا هَل يَعلَم الصَحبُ أَنّي بعد فُرقتِهم أَبيتُ أَرعى نجومَ اللَيل سَهرانا أَقضي الزَمانَ ولا أَقضي به وَطَرًا وأَقطعُ الدَهرِ أَشواقًا وأَشجانا ولا غَريبَ إِذا أَصبَحتُ ذا حَزَن إنَّ الغَريبَ حزينٌ حيثما كانا وليست الغربة كلها سيئة، بل أجمل مافي الغربة أنها تجعل من الغرباء أصدقاء، وتجعل من الأصدقاء إخوة. وعندما نغور في دراسة أعماق النفس البشرية ومشاعرها، نجد حقيقة مفادها أن الحاضر غريب، والماضي مألوف، فكيف يألف الإنسان الماضي ويستحسنه وإن كان قاسيًا، وينفر من الحاضر الغريب وإن كان جميلًا نافعًا؟ لعل أساس الأُلفة هي مرور الزمان، فأساس الغربة والألفة ليس قائمًا على الماضي والحاضر بحد ذاتهما، بل بمرور الزمان من عدمه في هذا وذاك؛ فعلى سبيل المثال إذا عشت في بيتكم القديم ردحًا من الزمن، ومضت السنوات تلو السنوات وأنت تعيش فيه، ثم مرت السنوات وانتقلت منه، فإنك تألف ذلك المنزل القديم، والوطن الصغير، الذي عشت فيه سنواتك السابقة مع أهلك وعائلتك وبجوار جيرانك وأصدقائك القدامى، وتحنّ إليه، وذلك لمرور السنوات والزمن عليك وأنت فيه، بينما بمجرد أن تنتقل منه إلى بيتٍ جديد، في حي آخر أو في مدينة أخرى، فإن هذا المنزل الجديد يمثّل الحاضر الموحش المليء بالغربة عما اعتادت عليه النفس في الماضي المألوف، وساعة دخولك لهذا البيت والتجول فيه والجلوس في أروقته، تنتابك غربة موحشة تنبع من هذا الحاضر الحاليّ، وتتوق نفسك لذلك البيت الذي تألفه والذي عشت فيه في الماضي.. عندها يتبلور أمامنا نظرية في إطار التشكّل في الحياة الإنسانية تفيد أن: الحاضر غربة .. والماضي أُلفة.. وسبب ذلك كما ذكرنا مرور الزمان في ذلك الماضي حتى ألفته، وتواجدك الآن في حاضر لم تألفه بعد، مما يجعلنا نقتنع بأن: الحاضر غربة.. والماضي أُلفة.. فالقول إذا على الزمن ومروره.. فكل مكان أو شخص أو بلد أو منزل مرّ بك الزمان والسنوات تلو السنوات وأنت فيه، ستألفه مع مرور الزمن.. أما إذا كنت أمام بداية تجربة جديدة سواء مكان أو شخص أو بلد أو منزل، ولم يمر عليك الزمن فيه بعد؛ فستُحسُّ بالغربة والوحشة حتمًا.. فعامل الألفة والغربة هو مرور الزمن في تلك المقولة/ النظرية، وليس للماضي والحاضر دور في هذه الغربة او تلك الألفة.. فالماضي مرّ عليك به الزمن والسنوات حتى ألفته، أما الحاضر فلم يمرّ عليك الزمن به بعد حتى تألفه.. فأحسست فيه بالغربة. ولعل أبرز ما يمثّل لنا أُلفة الماضي، والغربة بالابتعاد عنه، وأهم صورة تتجلى بها أُلفة الماضي والحنين إليه، هو الحنين إلى البيت القديم الذي عاش فيه الإنسان، والحنين إلى أيامه وذكرياته فيه، وألفة البيت القديم هذه بدورها موضوع مستقل، وذو أبعاد وجودية كبرى في النفس البشرية، فالإنسان عندما يحنّ للبيت القديم فإنه يحنّ لذلك المنزل الذي عاش فيه أول أيام حياته وطفولته مع عائلته وتعرّف فيه على أول الأصدقاء ولعب فيه وفي حارته طفلًا، هو حنين للطفولة والصغر، حنين للبدايات، حنين لأول الوجود والانبعاث. إن الحنين للبيت القديم حنين مركّب، ليس حنينًا واحدًا، هو حنين لمنزل العائلة القديم وحنين لتلك العائلة، وحنين للطفولة والبراءة والحب والسعادة، وحنين لأول أيام الحياة، وحنين للبساطة، وحنين للماضي، ووو إلخ. المنزل القديم قصة وأيّ قصة! تناولتها حقول العلم والدراسة المختلفة والأدب والسينما والمسرح والدراما.. كالمسلسل الشامي “بيت جدّي”الذي تناول الحنين لبيت العائلة القديم.. يا بيت جدي ضاع هالمفتاح.. وأبوابك بتبكي على اللي راح.. يا بيت جدي راحت الأفراح..! هو حنين عميق يفوق كل حنين، وكما قلنا حنين مركّب، لا يعني المنزل القديم بحد ذاته؛ بل المنزل وكل ما يحويه، المنزل بتفاصيل غرفه ومجالسه ودهاليزه وتفاصيله وأثاثه وأبوابه وجدرانه، المنزل وما يحويه من عائلة وأشخاص، المنزل وما يحويه من طفولة لهذا الإنسان، ما يحويه ذلك المنزل من حب وسعادة ومشاعر، وأُلفة وحب واجتماع، ما يحويه من بدايات وبراءة، ما يحويه من كل شيء.. ما يحويه ويتعلّق به من جيران وأصدقاء وشوارع وحارات.. ما يحويه من ماضٍ وعمرٍ وذكريات.. وما دام حديثنا عن البيت القديم والحنين إليه، فلا بد أن نذكر أن الحب والحنين المركّب للبيت القديم والحارة القديمة يشترك فيه أغلب الناس إن لم يكن كلهم، فيحنّون للمنزل القديم وإلى سنينه وأيامه وتفاصيلها وأشخاصها ومشاعرها، وهذا الحنين قديم قدم الإنسان، فالبكاء على الأطلال وبكاء المنازل والمطالع الطللية في مطالع القصائد الجاهلية والعربية عمومًا مأخوذة من المحبة والحنين للمنزل القديم وما يتعلق به من أيام الصِّبا ومن جيران وأصدقاء وأحبة وذكريات، يقول الملك الضلّيل امرؤ القيس باكيًا على المنازل القديمة وذكرياتها: قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بِسِقطِ اللِّوى بين الدخولِ فحومَلِ فتُوضِحَ فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها لما نَسَجَتْهَا من جَنُوبٍ وشمأَلِ ففاضت دموعُ العينِ منّي صبابةً على النحرِ حتى بلَّ دمعيَ مِحمَلي ويقول زهير ين أبي سُلمى باكيًا على الدار القديمة: وقفتُ بها من بعد عشرين حِجةً فَلَأْيًا عرفتُ الدارَ بعدَ التوهُّمِ فلمّا عرفتُ الدارَ قلتُ لِرَبْعِهَا ألا عِمْ صباحًا أيها الرَّبعُ واسلَمِ إن الحب وحنين للمنزل القديم قديم متجذر في الإنسان، وقديم قدم الإنسان نفسه، وشأنٌ شهير تناوله الكثيرون، وخلده الشعراء والأدباء والباحثون، حتى أن الشاعرالعباسي الشهير أبا تمام الطائي (ت 231هـ) خلّد ذلك الحب الخاص للمنزل القديم والحنين إليه واستشهد به أيضًا بأبياتٍ شهيرة سارت بها الركبان عندما قال: نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنزِلِ * دكتوراه في الأدب والنقد