كائن مؤجل في زمن متسارع.
منذ سنوات، ربما تتجاوز العشرين، هنالك في القاهرة، كان الموعد مع اللقاء الأول بيني وكتابات الروائي والقاص السعودي فهد العتيق، إذ أصدرت سلسلة مختارات فصول، بالهيئة المصرية العامة للكتاب، مجموعة “أظافر صغيرة جدًا»، لتبدأ رحلة المتابعة التي لا أعتقد أنها تتوقف عند رواية «قاطع طريق مفقود». لو بدأنا على نحو مختلف، فإن العتيق يشبه المملكة العربية السعودية، فكل منهما ينهج طريقه الجاد للحداثة، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بأصله وتراثه، فيتحرك العتيق للأمام بطموحات غير محدودة لكن في سياق بناء الإنسان، ومن هنا استطاع أن يجعل من اسمه واحدًا من أبرز الأسماء الأدبية التي استطاعت أن تترك بصمة واضحة في المشهد الثقافي السعودي، صنع ذلك برؤيته واختياراته التي راهن عليها، فصار كاتبًا متفردًا بأسلوبه ومخلصًا في التعبير عن هواجس الإنسان وأحلامه، واتسم أدبه بقدرته الفريدة على الجمع بين البساطة والعمق، فهو يكتب بلغة تبدو للوهلة الأولى سهلة ومباشرة، لكنها في حقيقتها تنطوي على مستويات متعددة من التأويل والتفكير. العتيق من أبناء الرياض، وهي مدينة لا تكتفي بأن تكون مسرحًا لأحداث قصصه ورواياته، بل تحولت إلى شريك فعلي في صياغة رؤيته الأدبية، فالمدينة ليست مجرد مكان جغرافي، إنها ذاكرة حيّة، وشخصية لها حضورها الخاص في كتاباته، وجعل هو منها مرآة تعكس تحولات الإنسان السعودي، وحوّل شوارعها وأزقتها إلى حكايات نابضة بالحياة، وصارت فضاءً للتأمل والبحث عن معنى الحياة، فهو يقترب من المدينة بحب وشغف، لكنه لا يتردد في مساءلتها عن أوجاعها وتحولاتها، ومن هنا، تصبح المدينة رمزًا للهوية والتغير معًا. يملك روحًا تواقة للتجديد في فن القصة والرواية، فهو دائم البحث عن طرق جديدة للتعبير، متجاوزًا القوالب التقليدية، ويكشف ذلك تأثره بالشاعر الكبير والناقد محمد العلي، الذي كلما رأى “العتيق” أو قرأ له، قال له “أنت مجدد القصة السعودية”، مما مثل دافعًا كبيرًا لاستمراره في مغامرته الأدبية. نقول إن قصص العتيق ليست مجرد سردٍ لأحداث، بل محاولات عميقة لفهم الذات والآخر، أبطاله يشبهوننا جميعًا، فهم يحملون همومنا وأحلامنا، ويطرحون أسئلة تتعلق بالوجود والحرية والهوية، إضافة لذلك فإنه لا يكتب ليقدم أجوبة جاهزة، بل ليحفز القارئ على التفكير والتأمل. إن الروايات والقصص في إبداع العتيق تشبه شذرات الذاكرة، لا تتدفق بكلاسيكية معينة، بل تأتي حسبما يتراءى لها، تتخلص من الملل، وتعبر عن الإنسان الحديث وتشظيه، ينطلق في ذلك من رؤيته أن الكتابة المتتالية في انسيابية بمقدمة معروفة ونهاية متوقعة لا علاقة لها بالحياة إنها كذب مصطنع، وهو يكتب عن الحياة، فلا شيء منتظم، ولا خطة مسبقة في الكتابة، بل الأشياء تتداعى وهو يراقبها، لذا غلب على أبطاله كونهم «تائهين» يحاولون أن يجدوا أنفسهم في العالم المتسع، لذا تطاردهم أسئلتهم الباحثة عن إجابات، وعادة تنتهي بلا إجابة. وعلى الرغم من كون مدينة الرياض محورًا رئيسيًا في كتاباته، إلا أن العتيق لم يتوقف عند حدودها، لقد امتدت رحلته الأدبية إلى مدن عربية أخرى، مثل الكويت، القاهرة، دمشق، بغداد، المنامة. وهذه المدن لم تكن مجرد محطات عابرة، بل أصبحت مصادر إلهام وتأمل، وأضافت أبعادا جديدة لتجربته الأدبية. هذا الثراء الأدبي ظهر واضحًا وبينًا سواء في القصة القصيرة أو الرواية أو المقالة، ولعل عناوين مثل «كائن مؤجل» «الملك الجاهلي يتقاعد» «كمين الجاذبية» ليست مجرد أسماء، بل عوالم متكاملة تحمل في طياتها أسئلة وجودية عميقة، وعلى الرغم من تنوع المواضيع والأساليب، فإن جميعها ترتبط بخيط رفيع من الإنسانية، حيث يبقى الإنسان في قلب كل نص يكتبه. نعود إلى البداية الأولى، لنسأل كيف صارت الأظافر الصغيرة والناعمة في السرد قاطعَ طريق؟ إنها الرحلة، فالعتيق رحالة في أعماق الذاكرة، ينقب في طبقات الزمن ليخرج لنا بكنوز من الذكريات المنسية، كأنه أثريّ يبحث عن مدائن ضائعة، يكتشف في أعماق الصحراء بقايا حضارات سابقة. أعماله، تشبه لوحات جدارية تحكي حكايات أجيال، تتداخل الخيوط الزمنية لتنسج سجادة مترامية الأطراف من الحنين والشوق إلى الماضي. إنه ليس مجرد كاتب، بل مؤرخ عاطفي يمنحنا فرصة لاستعادة ماضينا، وإعادة اكتشاف أنفسنا من خلال عيون أبطاله.