فهد العتيق وكمين الدهشة.

1 يسحبُ مقعدهُ إلى مكانٍ بعيد، ليكتب نائيًا عن الصخب،   وزاهدًا في الأضواء، بهدوء لافت، وتواضع جم، وإذعانٍ لصوتِ الأشياء من حوله وليصطاد الأسئلة الهاربة.. والجراح قبل أن تجف، والأبطال ليرسمهم من وقع الحياة   2 يكتب ليستعيد أزمنة يجد فيها ملاذًا آمنًا لأسئلته، مندهشًا كطفل من مفارقات التحول، وقد خبر التفاصيل الدقيقة ومشى على حافتها، ومتكفلًا كفيلسوف بالبحث عن خيط شفاف يستلّه من الحكايات، ليدهشنا في كل مرةٍ بهذه القدرة على قراءة الوجع، وسيرة الحلم.. كأن الأمكنة قد منحته سرهّا، ومفاتيح مدنها الثقيلة، فلا يحتمل أوجاعها ليفشيها مع أول شخوص قصصه..  3 فهد العتيق ممن أخذوني إلى قراءة القصة التي لم أكن ميّالا إلى قراءتها فقد كنت ذلك المشغول بقراءة الشعر، وعوالم الفن.. لكن السرد فتنة أخرى.. حدث ذلك بعد أن عرفت اسمه من إحدى قصصه المنشورة في إحدى المجلات الأدبية في آخر التسعينات،  وهي نفس القصة التي حملت فيما بعد عنوانًا لمجموعته القصصية “ أظافر صغيرة وناعمة “، التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في مطلع الألفية الثانية، ولفتت تلك القصة انتباهي إلى القصة المحلية التي لم أكن قد قرأتها كما يجب، وإلى تجربته بشكل خاص وهذا المدى الملئ بالاختلاف وبالشعر والدهشة في صوته.. ثم لم يطل الوقت حتى عدتُ إلى مجموعة قصصية صدرت في التسعينات تحت عنوان “ إذعان صغير “ وهي إحدى قصص المجموعة.. إذعان.. هذه المفردة التي فرد العتيق عضلاتها، لنقرأ كم يمكن أن توجز الكثير مما قد يقال ..وكيف يمكن للإذعان الذي لا يأت  إلا كبيرًا، أن يكون صغيرًا، ولم لا فهذه القصص التي كتبت لأجل أحلام وتفاصيل صغيرة مهملة في حياتنا، يقرأها في أوجه أبطاله، وفي أحلامهم وأحزانهم ومفارقات حياتهم، فيأخذنا كمثقف ومبدع  إلى قضايا وهموم إنسانية في مجتمعنا ، وإلى المعنى الذي يعيش حولنا ولم ننتبه له ..وإلى محوٍ يشف عنه ، في ذاكرة الرياض ، وفي أحياء الطفولة ، وفي علاقة آسرة وحميمة مع الأمكنة ، وبلغةٍ تتخفف من الزوائد والثرثرة ، وتحولُ قصص الحياة إلى حالة شعرية .. 4 لم تتوقف علاقتي مع ما كتبهُ بعد ذلك وفي عددٍ من الإصدارات القصصية والروائية، ففي أواخر العام 2008 م، كنا قد تبادلنا مجموعة من الرسائل عبر الإيميل في أوقات متفرقة، تحدثنا عن القصة، عن الشعر، والفن.. وعندما أخبرتهُ عن صعوبة الحصول على إحدى أعماله، طلب عنواني، لتصلني كل أعماله حتى تلك التي كنت قد حصلت عليها.. ولأجدني أمام تجربة سردية مدهشة، مع أولى رواياته  “ كائن مؤجل “ ثم عودة إلى القصة مع المجموعة القصصية “ هي قالت هذا “ التي أعتقد أن علينا قراءتها مجددًا إذ تحمل كثيرًا من الأسئلة والمفارقات التي كأنما كتبت اليوم، وغير بعيد منها: “كمين الجاذبية “ المجموعة التي تجلت فيها رؤيته الفنية، ولغته الشعرية لما حوله، ونصه الذي يستعصي على التصنيف أحياناً، وربما هذا ما جعله يعنون فصلاً من فصول المجموعة بـ “ كتابة أخرى “  5 يكتب فهد العتيق هذه الكتابة الأخرى بنصٍ جديد حمل لنا بشائره ووعيه منذ بداياتهِ، ذلك الوعي المبكر الذي شكّل تجربته وصوته الخاص، غير مرتهن إلى شكلٍ محدد أو منهجية ما تحد من أفقه ورؤيته للفن.. بل وفي كل مرّة يذهب بنا إلى منطقة جديدة، بأبطال جدد، ولغة مختلفة، لا يكرر نفسه، بل ينقلب عليها..  6 حين طلب مني كتابة هذه الشهادة، وجدت الكثير مما قد يُكتب عن الصديق الفاتن والفنان الذي جمعتني به الكلمات منذ أكثر من عقدين، ولم ألتق به بعد سوى في القصص، ومع أبطال الروايات، والمراسلات (الإيميلات)، وتعليقاته العميقة والمثقفة في الفيس بوك فيما بعد، وجدت الكثير الذي فوجئت به فلم أكن أدرك تمامًا كم في البال والذاكرة من هذا الفهد  لأكتب هذه الشهادة المجروحة التي يمتزج فيها الشخصي والإنساني وتجربة الكتابة.