كاتب الحارة وتحولات العاصمة المبدعة:
فهد العتيق: “الرياض” تمثل حالة سردية طويلة لا تنتهي.. وأشعر أني كتبتها بمتعة.
فهد العتيق قاص وروائي سعودي، يُعدّ أحد أبرز الأسماء في المشهد الأدبي السعودي والعربي. عُرف بموهبته الفريدة في الكتابة السردية، حيث كتب القصة والرواية والنصوص النقدية، مازجًا بين جماليات اللغة وعمق الطرح الاجتماعي. في كتاباته، يسبر فهد العتيق أغوار الحارات القديمة والحديثة لمدينة الرياض، متناولًا التحولات العميقة التي شهدتها المدينة على مدى قرن. هذا التناول برز في مجموعاته القصصية مثل “إذعان صغير” و “أظافر صغيرة وناعمة”، ورواياته التي تُشكّل شهادات أدبية على تاريخ الرياض وتحولاتها الثقافية والاجتماعية. وهو أصدر مؤخرا عمله الأخير “قاطع طريق مفقود”. بصمته الأدبية تجاوزت حدود المملكة، إذ تُرجمت بعض اعماله إلى لغات أجنبية ونُشرت في دوريات عالمية. كما كتب في كبريات الصحف والمجلات الثقافية العربية، مثل الحياة والرياض واليمامة وأخبار الأدب، مساهمًا في النقد الأدبي ومراجعات الروايات العربية والعالمية. هذا الملف يسلط الضوء على حياة فهد العتيق الإبداعية والإنسانية من خلال أعماله ومن زوايا أخرى، ليكشف عن تجربة سردية استثنائية تأخذ القارئ إلى عوالم لا تنفصل عن نبض المكان والزمان. *مدينة الرياض وحاراتها وشخصياتها كانت حاضرة في كتبك القصصية ورواياتك.. ماذا يعني لك أن تكون الرياض هي بصمة المكان في أغلب كتبك؟ -هذه التجربة والمحاولة القصصية والروائية مع خصوصية المكان في مدينة الرياض كانت تجربة ثرية وممتعة بالنسبة لي وأنا راض عنها وافتخر بها. لسبب أن هذه المدينة التاريخية العريقة تمثل لي حالة سردية طويلة لا تنتهي، حكايات متنوعة في حاراتها وشخصياتها وموضوعاتها ومشاهدها وحواراتها ولحظات تأملها واسئلتها، في لحظات أدبية طويلة عنوانها المكان، والمكان دائما هو شخصية وبصمة النص الرئيسية، ربما بسبب مزاج الكتابة بالنسبة لي، والذي يميل نحو المكان والتخييل الذاتي وفن الذاكرة، وربما أيضا بسبب أني لا أستطيع الكتابة عن مكان لا أعرفه ولم أشعر به وليس لي فيه ذاكرة ومواقف وحكايات وحوارات مع شخصيات هذه المكان والزمان المتنوعة. هذا بالإضافة الى أن الحكاية في القصة والرواية تبدأ عندي من روح المكان من الذين مكثوا هنا ثم غادروا وتركوا أثرا لا يمحى من خطواتهم وحواراتهم وحكاياتهم. وهذا أيضاً لا يعني حنيناً لتلك الفترة العميقة من حياتنا لكنه ربما قراءة للواقع والظروف التي أسهمت في تكويننا. وبعد هذه التجربة الطويلة وهذه التحولات الاجتماعية والثقافية المبدعة في بلادنا السعودية أشعر أني كتبت الرياض بمتعة. كتبت عن حاراتها القديمة والحديثة والتحولات التي عاشتها هذه المدينة العريقة خلال المئة عام الماضية، وظل لهذه الأماكن الحضور الواضح في كل أعمالي، حتى في الرواية الأخيرة قاطع طريق مفقود التي كتبتها بمزاج فني مختلف وممتع حاولت من خلالها تجاوز النمط المتكرر من خلال تجربة أسلوب المقاطع ومن طريق محاولة اللغة البسيطة على طريقة قصيدة النثر والحوارات التي شكلت جزءا كبيرا ومهما من الرواية، لأن حياتنا اليومية بشكل عام هي في طبيعتها ومواقفها وحكاياتها ومشاهدها تنهض على الحوار المباشر بين الناس. وهذا يعني تلقائيا أن فن كتابة القصة والرواية يفترض أن ينهض على الأعمدة الأدبية الرفيعة لهذه الحوار. وأرى أن رواية بدون حوار هي مثل حياة خاملة دون حياة. سوف تكون رواية مليئة بالوصف والسرد الانشائي المتتالي الذي يضعف حرية وحيوية الرواية. والحوار المقصود هو حوار المشاهد الذي يثري الرواية وليس الحوار الآلي القصير. الحوار جوهر حياتنا اليومية. حوار فيه فكاهة ساخرة داخل المواقف الجادة تغني وتنوع في مشاهد الرواية. وهو الذي يطرح اسئلة الرواية وأفكارها وهمومها ويكشف مستواها وقيمتها وكذلك مستوى الكاتب ووعيه، وهو ركيزة أساسية من أعمدة الرواية الحديثة حتى لو تمسكت بالحبكة التقليدية المعروفة. *في خط موازٍ مع تجربتك في كتابة القصة والرواية لاحظنا أن لك خط نقدي من خلال ما نشرته من مراجعات نقدية عن عدد من الكتب الأدبية. كيف ترى تجربتك النقدية هذه؟ -أن تكون قارئا وناقدا لأجمل روايات التجديد والابداع العالمية والعربية والسعودية، هذا شيء ممتع، وهذا الشغف في القراءة أو المراجعة النقدية بدأ مبكرا، حين قرأت حوارات ومقالات لكتاب ونقاد وشعراء مميزين مثل أرنست همنجواي وجورج لوكاتش وهيجل وارنستو ساباتو وماريو فارغاس يوسا ود. صبري حافظ وإبراهيم أصلان وغيرهم، وكان فيها أسئلة فنية ونقدية دقيقة ومهمة لها علاقة بأسئلة تطوير النص الأدبي، حول مثل هذه الهواجس والاسئلة الروائية الفنية والنقدية، عن فن الكتابة والتكثيف واللغة البسيطة والأسلوب ومشكلات التعبير الفنية والمعلومة المخبأة. ومنها بدأت في المتابعة الجادة لهذه الموضوعات وقرأت عدد من الكتب النقدية المهمة عن فن أسئلة فن القصة والرواية والتاريخ والمجتمع. ثم اكتشفت روايات التخييل الذاتي وفن الذاكرة لعدد من الكتاب والكاتبات الذين جددوا في رؤيتهم لهذا الفن، ووجدت في البداية متعة في تجربة الكتابة عن أعمالهم المتجددة مثل أنى ارنو ومن بعدها أستاذ فن الذاكرة باتريك موديانو وكذلك تجربة بعض الكتاب والكاتبات العرب منهم على سبيل المثال البير كامو وكافكا وانطونيو تابوكي وإبراهيم أصلان ومحمد زفزاف وعبد العزيز مشري وجارالله الحميد ووفاء العمير وأمل الفاران وغيرهم. كانت تجربة مثيرة وممتعة وفيها أسئلة نقدية وفنية مهمة. ومثل هذه الاهتمام النقدي ربما بسبب أنه تواجهنا في حياتنا الأدبية أسئلة فنية تفتح لنا باب الحوار وتقربنا من أسرار الكتابة. أسئلة عن تقنيات الكتابة والأسلوب ومشكلات التعبير الفنية والضمائر والشخصيات والمكان ولغة الحوار هل تكون فصحى أو عامية أو تكون في منطقة وسطى. وكذلك أسئلة حول مدى أهمية المغزى والحبكة التقليدية والموضوع الكبير المقصود والمعلومة المخبأة والمادة الانشائية الطويلة، وهو اهتمام فني وليس بالضرورة أن يكون نقدا، يحاول الإجابة على بعض أسئلتنا المتنوعة حول أساليب الرواية الحديثة بالذات. وهذا له علاقة بمحاولة التكثيف والايجاز وتعميق المشاهد والحالات. وربما من أهم أسباب مثل هذه المراجعات النقدية للكتب المتميزة هو فكرة محاولة التجديد، متعة الفكرة والبحث عن الرواية المختلفة عن السائد. رواية الفن والمتعة باللغة الفنانة البسيطة والمكثفة والمقطرة والعفوية دون تكلف أو مبالغات ودون قصدية موضوعية مباشرة وبلا نبرة صوت عالية أو زوائد انشائية زائدة. ومثل هذا النوع من الكتابة قليل لأنه نوعي ورفيع وفيه بصمة الكاتب وليس أحدًا سواه وهذا ليس سهلا ولا يمكن عمل نسخ كثيرة منه. وهي جزء من أسئلة فن الكتابة إذا أردنا أن نكتب فناً يترك أثراً وليس مجرد كتابة للنشر. وبعد هذه القراءات كتبت ونشرت عدد كبير من المراجعات النقدية عن روايات مترجمة وعربية وسعودية، وكانت البداية الجادة من العام 2000 وحتى الان ونشرت أغلبها في صحف ومجلات مثل الحياة والرياض واليمامة والفيصل وأخبار الأدب المصرية. في الغالب حول كتب القصة والرواية المتجددة التي تعتمد محاولة التكثيف والايجاز والعمق بطريقة بصمة المكان والتخييل الذاتي وفن الذاكرة التي تناسب مزاجي الفني في الكتابة. وهذه الروايات التي كتبت عنها اعتبرها من وجهة نظري الفنية والنقدية من علامات بصمة الكتابة في رواية فن الذاكرة والمكان في الكتابة المقطرة والأصيلة والصافية والتخييل الذاتي واللغة البسيطة التي اقتربت ببساطتها الآسرة من أجواء البيوت والحارات والشوارع والمقاهي القريبة، وكان فيها مشاهد الحكايات والحوارات بروح الفكاهة الساخرة التي انطلقت عفوية وممتعة من مواقف جادة. وسوف أحاول جمع هذه المراجعات النقدية لإصدارها في كتاب نقدي بعنوان: بصمة وأسرار فن الكتابة، ويتضمن أيضا مقالات أسئلة حول الرواية العربية المعاصرة ومحاولات التجديد. لهذا بعد هذه التجربة يمكن القول إن الكتابة النقدية فيها جمال وابداع ومتعة. والنقد ليس هندسة وكيمياء ولا يحتاج الى عبقرية. النقد نص ابداعي مثل القصيدة والقصة والرواية. ولهذا أكتب عن النصوص التي تعجبني وأرى فيها شيئا جديدا ومختلفا متجاوزا للنمط المتكرر. لأنه لا فائدة من الكتابة النقدية عن كتب أو نصوص نراها متوسطة أو ضعيفة المستوى. ذهاب هذا الضوء الأدبي والنقدي والإعلامي الى أعمال متجددة ومغايرة تستحق الاهتمام يدعم نشر الأدب الرفيع وتعميم الجمال. وأرى أنه بعد تراجع الدراسات النقدية الحداثية والتقليدية العربية المطولة لحساب المراجعات النقدية الجديدة والمكثفة في وسائل التواصل الثقافية الجديدة، بدأنا نقرأ مراجعات نقدية جديدة وممتعة يكتبها جيل جديد من الكتاب والكاتبات وتواكب الآن ازدهار الأدب العربي في كتب الرواية والقصة والقصيدة، ويبدع لنا نصوصا نقدية موجزة ومكثفة ومتجددة في تناولها الفني والموضوعي وهذا يرفع مستوى قدرات الكاتب والكاتبة على الملاحظة النقدية. *لهذا كله ربما تحدثت في أمسيتين نقديتين في الشريك الأدبي عن عناوين مثل بصمة فن الكتابة ومحاولات التجديد في الرواية. ما أبرز نقاط هذه الرؤية النقدية؟ -أمسيات الشريك الأدبي بين وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة مع بعض المكتبات والمقاهي تعتبر جديدة في طريقتها لأنها تتم في مكتبة ومقهى وهذا أعطاها هدوء الفن. كانت تجربة مهمة، وأضاف لها الحضور أسئلة ورؤى متنوعة ومختلفة. الأمسية الأولى كان موضوعها عناصر بصمة فن الكتابة في الرواية مثل خصوصية المكان واللغة البسيطة دون تكلف ودون مبالغات البلاغة وكذلك التخييل الذاتي حين أكتب ما عايشته وما اشتركت فيه مع شخصيات كانوا أبطالا في أغلب مشاهد تلك القصص والروايات دون الاضطرار للمبالغة في الخيال والمبالغة في البحث عن موضوعات واختراع شخصيات. وهي في جوهرها عن أصالة النص الأدبي وقيمته ومعناه وشخصيته الحقيقية والمختلفة والمتجددة التي تشبه ذاتها ولا تشبه كتابات أخرى. انطلاقا من رؤية المفكر والناقد شوبنهاور الذي يرى: أن أسلوب الكاتب هو تقاطيع الذهن وشخصيته والأكثر صدقا ودلالة. واللغة التي يكتب بها هي بمثابة تقاطيع الوجه من الأمة التي ينتمي إليها. أما محاكاة الكاتب لأسلوب غيره فهي أشبه بارتداء قناع. وفي الأمسية الثانية كان الموضوع عن الرواية العربية المعاصرة ومحاولات التجديد. خصوصا أننا نعيش تواصل مرحلة ازدهار ونهضة في فن كتابة الرواية وكانت قد بدأت ملامح تطورها المتصاعد من العام 2000 تقريباً في بلادنا السعودية وفي العالم العربي. وذلك بعد ظهور جيل عربي وسعودي جديد يكتب الرواية بلغة ممتعة فيها رصد لليومي بلغة وأسلوب ورؤية عفوية وبسيطة وعميقة. روايات الصوت الخاص وبصمة فن الكتابة التي حاولت في بعض نماذجها القليلة تجاوز النمط المتكرر الذي يعتمد على الوصف والإنشاء. وبعض هذه الروايات العربية والسعودية حققت نقلة نوعية فنية وموضوعية مهمة في مستوياتها المبدعة والممتعة والمتجددة في أساليبها وطرائقها الفنية، والدليل المستوى المغاير في روايات القوائم الطويلة في جائزة البوكر العربية في السنوات العشر الماضية. وهي في بعض نماذجها المتميزة لم تعد مجرد حكاية لكنها أصبحت أداة بحث جادة في الحياة بشكل عام وفي ظروف الواقع يمكن بها استكشاف الذات والمجتمع والمكان والتاريخ والإنسان بشكل عام. وكانت الأمسية محاولة للتعرف على سمات وعلامات روايات التجديد في الرواية بشكل عام وفي الرواية العربية المعاصرة. أشرت فيها الى أسئلة التجديد ومشكلات التعبير الفنية وهي الأسئلة النقدية والفنية التي واجهتنا في حياتنا الأدبية حول فن الكتابة وهي تفتح باب الحوار وتقربنا من أسرار الكتابة حول تقنيات وأساليب الكتابة بشكل عام. وفكرة التجديد ليست لمجرد التغيير لكن لمحاولة تطوير مستوى الرواية بحيث تصل للقارئ دون زوائد وصفية تفسيرية انشائية لا تضيف شيئا وتثقل الكتابة بمادة متوسطة المستوى وغير مهمة في الغالب. رواية باللغة البسيطة لهدف أن تصل الى الجميع الى الكاتب والناقد والقارئ العادي. وهذا له علاقة بالوعي النقدي للكاتب صاحب المزاج الفني الخاص والقدرة على الملاحظة النقدية وربطها بقراءاته في الحياة وفي الموسيقى والسينما وقصيدة النثر بالإضافة إلى أسئلة التأمل والفلسفة. لهذا نبحث عن الرواية الأصيلة والجديدة والمختلفة عن السائد. *ذكرت أن تجربتك في الرواية الأخيرة قاطع طريق مفقود كانت محاولة جديدة في أسلوب المقاطع واللغة البسيطة على وشك قصيدة نثر. كيف ترى هذه التجربة بعد كتابتها وطبعها في كتاب؟ -سبق هذه التجربة قراءات مركزة لقصص وروايات بعض كتاب وكاتبات التجديد في العالم العربي والعالم. كتابة الفن العالي والمكان والتخييل الذاتي وفن الذاكرة، بالإضافة الى قراءات مقالاتهم وحواراتهم ورؤيتهم النقدية الدقيقة عن تجديد القصة والرواية بالتكثيف والايجاز والحذف والبساطة في لغة تقوده الى الحيوية والعمق، هذا شجعني على محاولة كتابة رواية “كائن مؤجل” على طريقة خصوصية المكان والتخييل الذاتي وبتقنية المقاطع السينمائية مستفيدا من أسلوب كتابي القصصي “اذعان صغير” الذي انطلق مبكرا في بداية تجربة ومحاولة نفس هذا المسار التجديدي وأكملته في بقية كتب القصة والرواية، بالذات في الرواية الأخيرة “قاطع طريق مفقود” على نحو واضح وكبير. وأرى أن طريقة الكتابة سواء الحديثة أو التقليدية العريقة المتعارف عليها، قد تحدث تلقائيًا، لأن لها علاقة بالمزاج الفني وتاريخ ونوع القراءات للكاتب وأيضًا بموضوع الرواية. ولها علاقة مهمة بأسئلة تجديد النص الأدبي الحديث في عصر جديد وقراءة جديدة تبحث عن الايجاز والتكثيف وتعميق الصور والمشاهد والاهتمام بالتفاصيل والمشاعر الإنسانية والتأمل والحوار بطريقة فن الذاكرة. وانطلاقا من تلك القراءات المتواصلة والمهتمة وصلت الى قناعة فنية أن البساطة والهدوء في اللغة تقود الى العمق وهي محاولة المعادلة الصعبة، بحيث تصل هذه اللغة الى الجميع الى عامة القراء بسهولة وليس الى النخبة من الكتاب والكاتبات والنقاد فقط، لهذا حاولت بعد الانتباه الى حساسية اللغة الكتابة باللغة البسيطة والموحية مثل قصيدة نثر وهذا يعمق المشاعر والمشاهد والحالات في الكتابة عكس المباشرة ولغة البلاغة. وبشكل عام أرى أن محاولة التجديد وتجاوز النمط المتكرر والخروج عن تقاليد الرواية المعروفة، مع محاولة الاهتمام بلغة سلسة وممتعة، يحقق متعة الكتابة والقراءة، لأن هذا النوع من الكتابة يهتم بمقاطع ومشاهد التفاصيل الصغيرة العادية والمهملة والهامشية في حياتنا ويعيد لها قيمتها، تحويل المشاهد العادية والمألوفة الى مشاهد غير عادية وغير مألوفة. لهذا نكرر ما تعلمناه من تجربة القراءة والكتابة أن قيمة أي قصة أو رواية أو قصيدة ليس في إثارة مشاعر القارئ بموضوعات وقضايا وأحداث كبيرة ومثيرة وعابرة ولكن في اثارة أسئلته وتأمله وفي الاقتراب من أسئلة ومشاهد حياتنا اليومية بلا تكلف أو استعراض أو زوائد انشائية، وهذا يعني مساحة للتأملات والأفكار والهواجس، وكذلك الحوارات التي هي جزء مهم من حياتنا اليومية، والمهم جدا من وجهة نظري أنها تكسر رتابة السرد والوصف الطويل، في كتابة مفتوحة على مشاعرنا وأسئلتنا وتأملاتنا. وهي رواية التفاصيل والحكايات داخل حكاية وليست رواية الحكاية الواحدة التقليدية، فهذه الدراما اليومية التي نشاهدها في تفاصيل حياتنا اليومية هي التجارب الناقصة أو غير المكتملة في حياة الناس وهي من التعقيد بحيث يصعب التعبير عنها بطريقة مباشرة تقول كل شيء وكأنها مقالة او خبر صحفي، ولكن هناك لغة وهناك طرائق فنية تمنح النص قيمة ومعنى وتجعل القارئ يشارك في عملية الكتابة ومشاهدها وحواراتها وأسئلتها. وهي أسئلة فنية دقيقة ومهمة إذا أردنا أن نكتب فنًّا يترك أثراً وليس مجرد كتابة غزيرة عابرة لتحقيق هواية الطبع والنشر. *ماهي الكتب التي نشرت عنها مراجعات النقدية ولازالت عالقة في ذهنك؟ -كان تركيزي في كتابة المراجعات النقدية على نوع الأدب الذي أحببت ويوافق مزاجي الفني كما ذكرت، وهو أدب البساطة والعمق والمكان والتجديد في اللغة والأسلوب والتركيز على الحوار، وهذا الأسلوب هو مزاجي في القراءة والكتابة، وهذا الكلام يذكرني بكتب ملهمة ومكثفة وصافية وأصيلة تركت أثرا عميقا ولا تنسى، وربما من أجمل الروايات التي قرأت تلك الفترة كانت روايات جوهرها الحوار. الحوار الذي يكشف مستوى النص ومستوى اللغة في أعمال أدبية روائية رفيعة لبعض الكتاب والكاتبات. وفي الغالب حوارات فكاهية ساخرة من داخل المواقف الجادة. وهذا النوع من الكتابة له أساتذة من الكتاب والكاتبات الذين كان في كتاباتهم لمعة الفن. لهذا تظل رواية المكان للكاتبة الفرنسية آني ارنو حاضرة في ذهني على الدوام. وهي من علامات التجديد الأصيلة في الرواية العالمية. عبرت بأسلوبها المكثف والمتجدد عن روح أصيلة للرواية المعاصرة حين كتبتها بطريقة التخييل الذاتي العميقة وتوالت أعمالها الأدبية الموجزة والمكثفة والرائدة والملهمة لجيل كبير من الكتاب والكاتبات في العالم مثل عشق بسيط وامرأة والبنت الأخرى والحدث والعار وغيرها. ولا أنسى رواية هذيان للكاتب الإيطالي انطونيو تابوكي، حاضرة في الذهن على الدوام باعتبارها رواية أسئلة التأمل والحلم والتكثيف والعمق والبساطة والحوار الفكاهي الساخر الممتع الذي يسحبك بمتعة من أول الرواية الى آخرها. وهي عن الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسووا. وكذلك رواية وردية ليل للكاتب إبراهيم أصلان وهو في هذه الرواية حاول تجاوز النمط المتكرر في الرواية العربية واتجه نحو الحوار الذي هو مسرح حكاياتنا ومواقفنا اليومية. وأعتبرها من وجهة نظري النقدية بداية انطلاق التجديد في الرواية العربية المعاصرة في أسلوبها ولغتها وموضوعاتها وتركيزها أيضا على الصور والمشاهد المتتالية مثل فيلم سينما بالإضافة الى كتبه الأخرى مثل صديق قديم جدا وحجرتان وصالة وغيرها، وكذلك رواية البيت الكبير للروائي الكولومبي الفارو سيبيدا ساموديو وأظن أنها روايته الوحيدة لكنها مثل جوهرة ثمينة. مكتوبة بلغة ساحرة في مشاهدها وحواراتها الرفيعة الموجزة التي تشبه حوارات فيلم سينما مظلم حيث تحكي في جمل قصيرة حالات كاملة. وكنت كتبت مقالة عن المشترك بين رواية المكان للكاتبة الفرنسية آني إرنو ورواية قلب الوردة للكاتبة السعودية وفاء العمير. عن عوامل أدب وفن مشتركة ليس أولها بطولة المكان والتخييل الذاتي. ومقالة عن المشترك بين روايتي الجميلات النائمات للكاتب الياباني ياساوناري كواباتا ورواية غانياتي الحزينات للكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز. وكذلك رواية قطارات الحراسة المشددة للكاتب التشيكي بوهوميل هرامال. ورواية حجرة للكاتبة أمل الفاران لا يمكن نسيان أجواءها العميقة. ورواية الأفق الأعلى للكاتبة القديرة فاطمة عبد الحميد عمل مبدع ومتجاوز للنمط المتكرر في رواياتنا العربية. ورواية الموت عمل شاق للكاتب العربي خالد خليفة في ايجازها وتكثيفها ومشاعرها العميقة. وكذلك تجربة الكاتب أحمد السماري والكاتب أحمد الحقيل في ذاكرة المكان الممتعة. والتجربة الجديدة والمتجددة للكاتبة نجوى العتيبي في رف اليوم وللكاتب سالم الصقور في روايته القبيلة التي تضحك ليلا. وغيرهم من الكتاب والكاتبات الذين لا يمكن أن تجد في كتبهم الروائية صفحات تكلف وافتعال واسترسال أو صفحات طويلة بلا داع، لذلك احتفظت كتبهم بمستواها القوي والممتع حتى نهاية الكتاب. لذلك فالصفحات الأولى والصفحات الأخيرة من كتبهم على مستوى واحد. وصفحات كتبهم الأخيرة لا يمكن ان تصاب بالانطفاء الفني كما يحصل مع أغلب الكتب الأدبية العربية أو المترجمة الطويلة. *كيف ترى مستوى الرواية السعودية والعربية الان بعد ظهور جيل جديد له رؤيته الخاصة وطريقته الجديدة؟ -ذهبت الرواية السعودية والعربية الجديدة في بعض نماذجها الأدبية المبدعة نحو طرائق جديدة ومتنوعة في التعبير. وهو تطور ملفت ومهم على مستوى السرد والأساليب والتقنيات، يكشف لنا عن رغبات جادة ورفيعة الأدب في تجديد النص الروائي بهدف الاقتراب أكثر من القارئ ومن الذات وهمومها واسئلتها التي هي في النهاية أسئلة وهواجس الذات المجتمعية، وليس فقط لمجرد التمرد على الأنماط التقليدية السائدة في الكتابة الروائية. لكنه خط جديد يمثل نقلة نوعية على مستوى السرد الروائي العربي نحو ابداع أدبي متنوع أكثر صدقا وبطريقة أكثر واقعية وأكثر ملامسة للمشاعر الإنسانية حيث تقترب روايات التأمل من الجوانب النفسية والفكرية العميقة. وهي بشكل عام مرحلة جديدة تتواصل مع سابقاتها وتتميز بظهور جيل جديد يكتب الرواية بروح ولغة مغايرة وجديدة فيها رصد لليومي بلغة وأسلوب ورؤية عفوية وبسيطة وممتعة وعميقة. روايات الصوت الخاص وبصمة فن الكتابة المبدعة والمغايرة للسائد التي تجاوزت في بعض نماذجها القليلة النمط التقليدي المتكرر الذي يعتمد على الوصف والإنشاء والحبكات التقليدية الطويلة كما ذكرنا سابقا. وحاولت تكثيف وتعميق المشاهد وقدمت لنا روايات رفيعة ومبدعة تتعامل مع اللغة والمكان والزمان برؤية جديدة وبأسلوب نوعي رفيع ومبدع. ولازالت تواصل تجليها بأسماء جديدة في القصة والقصيدة والرواية والنقد.