عبدالله التعزي: أول موقع أدبي سعودي على الإنترنت انطلق من مقهى شعبي بجدة.
في أواخر التسعينيات الميلادية، وفي لحظة كان فيها الأدب السعودي يتحسس أولى خطواته نحو الفضاء الرقمي، ظهرت منصة أدبية جريئة وغير مسبوقة توصف الآن بأنها أول موقع أدبي سعودي على شبكة الانترنت: موقع «الزومال»، الذي أسسه الروائي عبدالله التعزي، جاء كتجربة طموحة لسد الفجوة بين الأدباء السعوديين ونشر أعمالهم عبر الإنترنت، وسط تحديات تقنية ومجتمعية كانت في ذلك الوقت تبدو عوائق صعبة التجاوز. الأهمية التاريخية لموقع “الزومال” تتجلى في كونه رمزاً لتلك الحقبة التي انتقل فيها المشهد الأدبي السعودي إلى طورٍ جديد، حيث واجه مقاومة محلية وحواجز تقنية واجتماعية، لكنه أيضًا أثار دهشة وتفاعلًا من المهتمين خارج الحدود المحلية. اليوم، وبعد نحو ثلاثة عقود، ومع دخول الأدب السعودي في حقبة جديدة من التطور والنمو، نلتقي مؤسس “الزومال” على انفراد، لنلقي نظرة استرجاعية على تلك البدايات، ونجري معه هذا الحوار الذي يعتبر شهادة على روح ذلك الزمن الذي كان يندفع فيه الأدب نحو التكنولوجيا وسط تحديات جمّة. من دون أن نغفل الحديث عن مستقبل الأدب الرقمي، واحتمالات إحياء تجربة “الزومال” بروحٍ جديدة تتوافق مع طموحات العصر ودعم مؤسسات الثقافة الحديثة. مجتمع يحاول المشي * في نهاية التسعينيات الميلادية، وفي لحظة كان فيه المشهد الأدبي بعيدا بعض الشيء عن آخر مكتسبات العصر الإلكتروني حاولتَ استثمار تلك اللحظة الإلكترونية كما ينبغي وقمت بإنشاء ما وصف بعد ذلك بأنه أول موقع أدبي سعودي على شبكة الانترنت، والآن، بعد نحو ثلاثين عاما من انشاء موقع “الزومال”، ماذا تقول عن تلك الخطوة المبكرة؟ وما الذي تتذكره من الهواجس والأحلام التي كانت تتجول في رأس ذلك الفتى وهو يبشر بأول موقع ادبي سعودي على النت؟ -أواخر التسعينات كانت في الحقيقة نهاية قرن كامل ومختلف في سنواته وبداية لقرن جديد تتسابق فيه التكنولوجيا في تطوير تفكيرها، والإنسان بقي مشدوها أمام انسحاب عقله وربما توقفه عن التفكير. فلم نعد نسمع في القرن الجديد عن الإنسان الذكي، بل أصبحت الأجهزة تتسابق في الذكاء (الأجهزة الذكية مثل الجوال والتلفزيون والثلاجة والغسالة وحتى فرش الأسنان أصبحت ذكية ... الخ). وأمام هذا الذكاء الذي كانت نهايات التسعينات هي إرهاصاته المترددة والمبنية على الاحتياج ظهرت فكرة موقع الزومال. ماذا أقول عن موقع الزومال؟ يبدو لي الآن وكأنه خطوات متعثرة لمجتمع يحاول أن يتعلم المشي. كان اتجاها مختلفا لم يشعر به الكثير، بل ويبدو الآن وكأنه لم يكن موجودا في يوم ما. لقد حاول الزومال أن يحمل بحب وينشر بجمال (قدر الإمكان) كتابات الأصدقاء من الكتاب، وكانت فكرته مفرحة لي وللجميع فقد كنا في تلك المرحلة على الاستعداد للمشي في أي طريق يشير إلى الكتابة أو الكتب أو النشر وكأننا في صحراء بلا اتجاه محدد من الممكن أن تشير إليه بوضوح تام. في تلك السنوات لم يكن التفكير في أول أو آخر. لم يكن هناك سباق أو شيء من هذا القبيل كانت هناك أرواح وهواجس والأحلام تتطلع الى الأفق لتستوعب المستقبل بما تملك من إمكانيات محدودة وطموح لا ينتهي. المقهى الشعبي كان مسرح العرض *كيف جاءت فكرة إنشاء موقع “الزومال” وما هي الأهداف التي كنت تسعى لتحقيقها من خلاله؟ -كانت الحاجة إلى مشاركة الأعمال فيما بيننا (نحن المقصود بهم الأصدقاء: عبده خال، وعلي الشدوي، ومحمد حبيبي، ومحمود تراوري، ومحمد الغامدي، وعيد الخميسي، وفي أوقات عبدالله باخشوين رحمه الله وأوقات أخرى عبدالله ادريس) نجتمع في أحد المقاهي الشعبية في مدينة جدة بصورة أسبوعية نحرص عليها بجدية مرعبة، وكنا نوزع مسودات الأعمال فيما بيننا على أن يتم مناقشتها الأسبوع القادم وتبادل الآراء عن إنتاجنا وكانت المعاناة هي كيف يتم وصول المسودات في الوقت المناسب لنتمكن من القراءة وتكوين تصور معقول من الممكن أن يتمحور الحديث عنه عند اللقاء الأسبوعي؟ ولهذا السبب فقد بدا الوضع وكأن الأفق مسدود وليس هناك طريق سوى التصوير وتبادل الأعمال المصورة فيما بيننا مناولة. كان تفكيرا ربما يحمل الكثير من التفاؤل عندما بدت المشكلة أصعب مع الأصدقاء في الشرقية من أمثال محمد العباس، وأحمد الملا، وعبدالله السفر، وجبير المليحان، وعبدالله وفهد المصبح، والأصدقاء في الرياض وفي المدينة وفي مكة وفي الكثير من مدن المملكة وهذه الأسماء مثال بسيط وليس للحصر. في ذلك الوقت كان النت في بداياته والكثير من المحرمات تلتف حوله من كل مكان تقريبا، ولكن لغرض وصول الأعمال للجميع اقترحت على الأصدقاء في عام 1997م عمل موقع الكتروني من الممكن أن نرفع الأعمال عليه ولم يعلق أحد على الموضوع فقد نظر الجميع إلى بدهشة وكأنني لا أكلم أحدا. وبعد مضي بعض الوقت، بعد أسبوعين، أحضرت جهاز الكمبيوتر إلى المقهى وعرضته على الأصدقاء لكي تتضح الفكرة التي سنستفيد منها جميعا واقترحت عليهم أن أقوم بتحميل كل الأعمال التي تصل إلي كمشاركة مني في دفع الفكرة ووضعها أمام الجميع ليس للأصدقاء في جدة فحسب، بل للجميع في كل المملكة. وبعد ثلاثة أشهر استوعب الأصدقاء وتفاعل القليل منهم مع الفكرة، ولكن بقيت الاتصالات هي العائق فقد كان الانترنت في ذلك الوقت غير مسموح به في المملكة وكان الاتصال يتم باستخدام خطوط الاتصال الداخلية للهاتف للتمكن من الاتصال بالنت وبعدها الدخول إلى الموقع بطريقة خاصة جدا. وبعد أكثر من ستة أشهر أو ربما أكثر تمت الفتوى (أو هكذا كنا نعتقد) بالسماح للإنترنت بالعمل في المملكة بصورة عامة. وعندها تم الوصول إلى الموقع عن طريق النت مباشرة بدون اتصالات هاتفية مرهقة ماديا وزمنيا ببطئها القاتل. وانطلق الموقع مباشرة واعتبر أول موقع يقدم النصوص الأدبية السعودية للكتاب من مختلف انحاء المملكة. وقد اتفقنا على تسميته بـ الزومال (www.zomal.com) حيث أن الزومال هو الكلام الذي يردده ممارسي لعبة المزمار في الحجاز (مكة وجدة والمدينة والمدن والقرى المحيطة بها). ست ساعات لتحميل النصوص! *واجه “الزومال” العديد من التحديات التقنية التي أدت إلى توقفه عن العمل. ماهي أبرز تلك التحديات التي جعلتك تقرر اغلاق الموقع؟ كيف تعاملت مع هذه التحديات في حينها، وما الذي تعتقد أنه كان بإمكانك القيام به بشكل مختلف؟ -تحديث الموقع كان يأخذ مني أكثر من ست ساعات يوميا لرفع النصوص ووضعها بصورة مناسبة في صفحات الموقع ومن ثم رفعها وتحميلها في الموقع. وكان لابد من أخذ النصوص من الإيميل ووضعها في صفحات منفصلة باستخدام برنامج لتحميل المواقع من شركة مايكروسوفت ومن ثم الرفع إلى الموقع وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة المتوفرة تقنيا في تلك الفترة. وكان وقت إعداد الصفحات، مثل صفحات الجرائد، يأخذ وقتا في الترتيب ووضع بعض الصور واستخدام أنواع الخطوط المناسبة بصورة بدائية وبعد ذلك يتم تحميل الصفحات ونقلها من الجهاز إلى النت باستخدام جهاز المودم الذي يستخدم خطوط الهاتف التي قد لا تتوفر في كل بيت تلك الأيام. ولك أن تتخيل أن التحميل إلى الموقع في النت يستغرق أكثر من ساعة ونصف. وكنت أتركه ينقل الملفات واذهب لأنام لأتفقده في اليوم التالي قبل الذهاب إلى الدوام. لكن أحيانا قد أنهي النقل بدون تلك المشاكل التي كانت تحدث في بعض الأوقات ما يجعلني أعيد عملية التحميل من جديد والتي ربما تحتاج لوقت أطول حيث إن الموقع يكون قد توقف ولا يستطيع أحد أن يفتحه مما يجعلني أعيد نقل كل محتويات الموقع كاملة مرة أخرى. وهذا يستغرق أكثر من أربع ساعات. ولكنها لم تحدث سوى مرتين أو ثلاث مرات خلال ستة أشهر. الاختلاف في التعامل مع التكنولوجيا تلك الأيام يكمن في الاستمرار في المحاولة حتى يتم تحديث الموقع فلم تكن هناك طرق سريعة من الممكن اللجوء إليها لحل أي تحدٍ تقني سوى إعادة المحاولة حتى تنجح ويتم التحديث. بالطبع هناك طرق أخرى للتعلم، ولكنها جميعا تحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى نفس النتيجة. وهذا الوقت لم يكن متاحا إذ يجب أن تصل النصوص للأصدقاء كل أسبوع لنتمكن من التحاور حولها بعد قراءتها. على الأقل كان هذا في البداية قبل فتح الانترنت رسميا في المملكة. ومع ذلك فقد كانت فرحتنا بالموقع لا توصف وقد كان يمثل ملتقى حقيقيا للأصدقاء في “اللا مكان” والذي اتفق فيما بعد أن يكون الواقع الافتراضي. القفز فوق الممنوعات الجانبية *كيف تصف الجو الثقافي السائد وقت إطلاق الموقع؟ وبرأيك، كيف كان تأثير موقع “الزومال” على الأدب السعودي في ذلك الوقت؟ أية أهمية تعطيها للزومال في تلك اللحظة التاريخية؟ -الحياة بصورة عامة مراحل ينتقل فيما بينها الإنسان ويشعر وكأنها لن تنتهي لذلك تبقى بعض المراحل ساكنة في داخله وتبدو وكأنها لن ترحل أبدا. إنها الحياة المخاتلة تلك التي تجعل من الأشياء الهامشية وكأنها ستغير وجه التاريخ. ولكنها في النهاية تتمدد داخلنا دون أن يراها أحد. ويمر الزمن وتتراكم الأيام وتختفي ما فيها من تحركات وإنجازات نحو ذاكرة التاريخ الكبيرة والساكنة بين الأماكن والناس وخطواتهم وتبدو دائما وكأنها موجودة، ولكنها لا تتحرك من داخل عقولنا البسيطة. وموقع الزومال كان في مرحلة ما يسكن ذاكرة الأصدقاء لأنه يعكس بعض طموحاتهم في النشر والتواصل واكتشاف عوالم من التمدد في الشهرة داخل هذه الحياة. حفز موقع الزومال تلك الذاكرة وجعلها تتوهج بفرح التواصل وانتشت كثيرا وكأنها امتلكت كل الزمن الافتراضي المفتوح أمامها في تلك الفترة التاريخية المتقلبة في اتجاهات كثيرة وفي أحيان اتجاهات مرعبة ربما بعضهم لم يعد كما كان عندما عاد من تلك الاتجاهات. لذلك توقف الزومال كان مناسبا للحفاظ على جمال تلك الفترة في عقول مجايليها، وفي نفس الوقت فإن استمراره ربما كان سيتجه بنا إلى الفاجعة بالواقع الافتراضي الممزق إلى الآن. حيرة مثيرة للجدل ومتعبة وممتعة وكأنها تعاند الزمن وتتمسك بتلك المرحلة لتبقيها في ركن الذاكرة الجميل بجوار بقية المراحل الجميلة في حياة كل الأصدقاء. ربما تكون أهمية الزومال في تلك المرحلة أنه كان يشير إلى جمال كتابات الأصدقاء الكتاب الرائعين بكل حب ومتعة. غير مبالٍ بما حوله من ممنوعات جانبية تحاول اخفاء صوت الجمال في تلك الكتابات. وكان الاحتفاء يأتي من كل أنحاء العالم ليقف إلى جانب التجاهل المحاط بالموقع محليا. وهذا التجاهل له أسبابه والتي ربما منها الجهل وفقدان القدرة على تصور المستقبل لدى بعضهم، وكأن الحياة توقفت أمام توجهاتهم المحدودة. إلى جوانب أخرى كثيرة لا أعرفها ولا أعرف عن أسبابها شيئا. فقد كان التركيز على الإبداع وما يمتلك من متعة تجعل منه محور الكون لدى جميع الأصدقاء من الكتاب ولي أنا شخصيا أيضا. فقد كان الموقع يبدو لنا كفرح وسط حزن متمدد في كل طرقات العالم. نشاط النشر تعرض لكسر عظم! *كيف ترى مستقبل الأدب السعودي على الإنترنت في ضوء التغيرات التقنية المستمرة، وهل تعتقد أن هناك فرصة لإحياء موقع “الزومال” بروح جديدة تتواءم مع خطط هيئة الأدب والنشر والترجمة؟ -حاليا أرى أن “النشر” قد تأثر بصورة تبدو وكأنها كسر عظم له، وأنه ربما لن يعود كما كان أبدا. وليس من وسيلة محددة، إلى الآن، للنشر الأدبي على الانترنت بصورة منتظمة كما كانت في الملاحق الأدبية الأسبوعية في زمن الجرائد الورقية لذلك أجد أن الأصدقاء الكتاب التفوا حول ملحق “شرفات” لأنه المكان المناسب لهم للتواصل وقراءة ما استجد من كتاباتهم. ومع الأسف لا أجد حاليا أي موقع عربي يعمل بنفس الطريقة التي كان يعمل بها الزومال أو يقدم ما كان ينشره الزومال للكتاب والمبدعين في السعودية او العالم العربي رغم مرور أكثر من 25 عاما على توقف الزومال. ربما لأن العالم الآن مبهور بهذا الانفجار المعلوماتي المفجع أو منشغل بذكاء البرامج وما يمكن أن تنتج ومتناسيا أن الانسان ككائن مبهر بحد ذاته وإنتاجه من الإبداع يفاجئ الجميع ومن ضمنهم المبدع نفسه.. وأعتقد أن هذا هو المعجز في هذا الكون. طبعا هناك دائما فرصة لكل شيء في أن يكون أحسن وليس الزومال فقط. والفرصة موجودة لإحياء موقع “الزومال” بروح جديدة تتواءم مع خطط وزارة الثقافة والتي تقدمها من خلال هيئة الأدب والنشر والترجمة؛ فمن الممكن أن تتبنى وزارة الثقافة هذه الفكرة وتحولها إلى واقع ملموس. ومن الممكن أن ينفذ بطريقة أكثر احترافية ومهنية تختلف عن تعثر وتلعثم البدايات والاجتهادات الفردية التي كانت موجودة سابقا.