علي الشدوي: معجم الدوحة التاريخي.. استطراد حول كلمة الحرية.
لم يستخدم المصدر الصناعي في عصر الفصاحة إلا نادرا وقد استقرى أحد الباحثين (عمران عبدالكريم حزام) وجوده فلم يجد سوى عشرين مصدرا مما سمي بعد ذلك بالمصدر الصناعي، ولا يوجد فيها كلمة الحرية. ولأن المعاجم العربية الكلاسيكية لا تورد الصيغة الصرفية للكلمات فسأعتمد على ما ورد في معجم الدوحة التاريخي من مشتقات الجذر اللغوي التي تشير إلى الحرية بوصفها مصدرا صناعيا. 1 - عام 60 هـ/ 680 م (مصدر صناعي): كتب يزيد بن معاوية إلى عامله على المدينة: وليكن أول من يبايعك من قومنا وأهلنا: الحسين وعبدالله بن عمر... ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها، وحرية رقيقهم، وطلاق نسائهم.. فالحرية في هذه العبارة حسب معجم الدوحة مصدر صناعي، ومعنى حرية العبد انعتاقه من الرق. ويبدو لي أن كلمة حرية في عبارة يزيد بن معاوية ليست مصدرا صناعيا، بل صفة للانعتاق من الرق. فلو كانت مصدرا صناعيا لدلت على ما هو زيادة على الانعتاق من الرق. وربما يتضح المعنى لو وضعنا بدل كلمة العبد كلمة الإنسان (حرية الإنسان) فكلمة حرية هنا تحمل معنى زائدا كغياب القسر والإكراه، وامتلاك الإنسان حق التصرف في أمره، وهو معنى لا تحمله كلمة حرية في (حرية عبيدهم)، بل تصف تخلص العبد من عبوديته. وفي اللسان أن الحَرار بفتح الحاء مصدر حرّ يحَر إذا صار حرا، والاسم الحرية. وفي هذا السياق يرى العروي، أو بالأحرى نفهم من تحليله اللغوي لمادة حرر في المعجم العربي أن الحرية المتعلقة بعتق العبد تندرج تحت المعنى القانوني، وهو معنى يصور المجتمع العربي الإسلامي القديم على أنه مقسم إلى أحرار وعبيد. فالحرية في المعنى القانوني حكم شرعي، وفي الوقت ذاته إثبات واقع؛ أي مدى قدرة الفرد على تحقيق العقل في حياته، لأن الحرية بالتعريف هي الاتفاق مع ما يوحي به الشرع والعقل، وهذا التطابق بين الشرع والعقل والحرية هو العدل الذي يقوم عليه الكون. لكن ما يفوت تحليل العروي أن العبودية ذاتها في الإسلام تتفق مع ما يوحي به الشرع، ولأن هناك تطابقا بين الشرع والعقل، ولأن النقل لا يتعارض مع العقل بلغة ابن تيمية، ولأن هناك اتصالا بين الشريعة والحكمة بلغة ابن رشد؛ لهذا كله يمكن القول إن العبودية تتفق مع العقل في تلك المرحلة التاريخية، وهذا الاتفاق والتطابق بين الشريعة والعقل والعبودية عدل في تلك المرحلة التاريخية. وبالتالي يمكن أن نستنتج أن الفقه الذي لا يراه العروي يبرر الرق، بل يسجل ذلك كواقع هو من زاوية أخرى يبرر الرق ويؤكده كواقع. وبالتالي فمفهوم الحرية بالمعنى القانوني في المجتمع العربي التقليدي لا يندرج تحت مفهوم الحرية الليبرالي كما أراد العروي أن تكون نتيجة التحليل. لا تؤدي حرية العبد أي عتقه في المجتمع العربي القديم منه حرا تتساوى حريته مع الأحرار، فالعبد يباع عبدا، ثم يباع بعد إن لم يكن عبدا. وفي هذا السياق يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم” شراركم الذين لا يعتق محررهم”. أي أنهم إذا أعتقوه استخدموه، فإذا أراد فراقهم ادعوا رقه. وقد قيل إن العرب إذا أعتقوا عبدا باعوا ولاءه، ووهبوه وتناقلوه تناقل الملك. وهو الراجح الذي يمكن فهمه من عبارة “وحرية عبيدهم” في عبارة يزيد بن معاوية. وبذلك فمن غير الدقة وصف كلمة (حريّة) الصرفي في عبارة يزيد بأنها مصدر صناعي لأنها وردت في سياق عتق العبد. فكلمة الحرية مصدر صناعي مشتق من (حرّ) وهو صفة مشبهة. والصفة المشبهة تدل على الثبوت والاستمرار في كل وقت، ولم يكن العبد حرا في كل وقت، ولا تدل على ثبوت الحرية، وكون العبد بعد أن أعتق تحول إلى مولى تنفي عنه أن تكون حريته مساوية لحرية المولود حرا. 2– عام 175هـ/ 791 م (مصدر صناعي): قال الخليل الحُرُورية الحرية. والحر نقيض العبد؛ حر بيّن الحرورية والحرية والحرار. وفيما يبدو لي فإن عبارة الخليل تعني الألفاظ التي تكافئ كلمة الحُرورية. فلو وصفت رجلا ما بأنه حر بيّن الحُرورية، أو حر بيّن الحرية، أو حر بين الحرار فهناك تطابق في المضمون بين الوصف وبين الواقع، ومن جهة أخرى هناك موضوع واحد هو الرجل الحر نفسه. لكن قد لا تكون هذه الكلمات متكافئة. يورد ابن منظور عن ابن الأعرابي “حرّ يحَر حرارا إذا عتق، وحر يحر حُرية من حرية الأصل”. ثم يعلق على عبارة للحجاج: أنه باع معتقا في حراره؛ الحرار بالفتح مصدر من حَرّ يحَر إذا صار حرا، والاسم الحرية”. أي أن الحرار مصدر والحريّة اسم. والفرق بينهما في الدلالة هو أن المصدر (حرار) يدل على مجرد الحدث؛ أي مجرد أنه لم يعد عبدا. لكنه حر من دون مضمون الحرية، فإذا توفر المضمون عندئذ يتبلور الاسم الحرية، والمعنى أن الحرية مصدر صناعي دل على معنى لم يكن موجودا، وهو مجموعة الصفات الخاصة بدلالة اللفظ (حرية) لذلك فالحرية اسم. 3– عام 185هـ/ 811 م (مصدر صناعي): وردت كلمة الحرية في عبارة عند المؤرخ مؤرج السدوسي “ يقال: لا حر بوادي عوف، يقول: ليس أحد مثله في الحرية؛ لأنه منع جاره من الملك”. وفق معجم الدوحة التاريخي فالحرية في هذه العبارة مصدر صناعي، ومعنى حرية الشخص امتلاكه حق التصرف في أمر نفسه. يورد ابن منظور هذه العبارة “لا حر بوادي عوف” على أنها من أمثال العرب. ومعنى المثل الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل، ويذل به العزيز. والمثل للمنذر ابن ماء السماء، وحكايته أن المنذر كان يطلب زهير بن أمية الشيباني بذحل فمنعه عوف بن محلم وأبى أن يسلمه، وعندها قال المنذر لا حر بوادي عوف، أي أنه يقهر من حل بواديه، فكل من فيه كالعبد له لطاعتهم. يمكن القول إن الحرية هنا هي الحرية في المجال السياسي. فإذا تصورنا السياسة على أنها ممارسة على مستوى خاص من مستويات الحياة الاجتماعية، أو على أنها ممارسة على مستوى المجتمع برمته، فلا يمكن أن تكون حكمة الحاكم إلا عنصرا أساسيا من عناصر العمل السياسي، ولن تكون حكمته عملا سياسيا حكيما إلا حين تستند سياسته إلى المنطق والعقل، بحيث يعزز العقل والمنطق حكمه العادل ويؤسسانه. ومع ذلك، وحيث يكون خطاب السلطة الحكيم، لابد من أن يواكبه نقد. لكن عوف بن محلم لم يكن كذلك، فهو يقهر أي إنسان يحل بواديه. وهكذا لا يوجد في الحكم الاستبدادي سوى رجل واحد يتمتع بالحرية هو نفسه الحاكم المطلق، وهو هنا عوف بن محلم حاكم وادي عوف المطلق. تؤيد حكاية هذا المثل تحليل عبدالله العروي من حيث إن العشيرة جماعة تحتضن الفرد وتحميه من أذى الغير أيا كان ذلك الغير، وهي بذلك رمز من رموز الحرية. وبالفعل فالمثل “لا حر بوادي عوف” يضرب لمن يحمي الفرد من أذى الغير، فالمنذر يريد أن يؤذي الشيباني لكن عوفا حماه. لكن المشكلة هنا هي أن هناك حرية واحدة هي حرية عوف والبقية غير أحرار. والعروي نفسه يوافق هيجل على أن الدولة في الشرق تتميز بحرية مطلقة لفرد واحد، وعبودية مطلقة لمن سواه. يحل العروي هذه المشكلة بالعودة إلى الحياة اليومية. فلو “اعتبرنا الحياة اليومية التي يعيشها الفرد العربي نرى أن هذا الفرد لا يواجه الحاكم المستبد وحيدا ضعيفا أعزل، بل لا يوجهه أبدا، حيث يعيش طول حياته وراء متاريس تعوله عزلا تاما عن الحكم المطلق -لو كان الفرد يواجه السلطان خارج العشيرة لكان بالفعل ضعيفا مستعبدا”. إذا كنت قد فهمت العروي حقا فهو يفترض أن الاستبداد يفترض مجتمعا يكون فيه الفرد في مواجهة الحاكم المطلق. أي أن الاستبداد فجوة غير مملوءة بين الفرد وبين الحاكم المطلق، يكون الفرد معرضا للأذى من دون وجود ما يحول بينه وبين الحاكم المطلق. فالفرد دائما مكشوف أمام المستبد، ولا يوجد ما يمكن أن يختبئ المحكوم خلفه. لذلك فالعشيرة هي التي تملأ هذه الفجوة بحيث لا يكون الفرد مكشوفا أمام الطاغية. وهذا من حيث المبدأ صحيح، وتتضح المبدأ فيما لو تخيلنا بدل العشيرة أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني في العصر الحديث. لكن المشكلة هي أن الناس إذا لم يملكوا الكلمة ليحددوا معنى شيء ما فإن هذا يرجع إلى أنهم لا يعرفونه شيئا متميزا. وقد حل العروي هذه المشكلة بأن رأى أن العشيرة تجسد العادة التي يفضل الفرد أن يخضع لها في المجتمع التقليدي على أن يتبع الأوامر السلطانية، ويحيل ذلك إلى ابن خلدون. وبهذه الطريقة فالعروي يحل المشكلة ثم يعقدها. ومع ذلك تبقى قوة تحليل عبدالله العروي وإلهامه في أن الناس إذا ما تكلموا فلا يستطيعون أن يعوا كل شيء لذلك فإن كلامهم يمكن أن يعني وكلماتهم يمكن أن تعني شيئا هم أنفسهم لم يقصدوا قوله. لكن في الوقت ذاته فهناك خطر في الاتكاء على اللغة لأننا يمكن أن نفهم منها فقط ما يوافق انحيازاتنا. 4– عام 298 هـ/ 910 م (مصدر صناعي): ورد في ترجمة إسحاق بن حنين لكتاب أرسطو الأخلاق “الحرية هي فضيلة للنفس تسهل عليها الإنفاق فيما يحسن وتستعفي من أخذ ما لا ينبغي. ومعنى الحرية في الأخلاق: فضيلة للنفس تمكن من تحصيل العفة التي تجعل المرء غير منقاد لعبودية الطبيعة”. في الواقع فإن هذه العبارة ليست لأرسطو، ولم تكن من ترجمة إسحاق بن حنين كما ورد في معجم الدوحة التاريخي. وردت العبارة في مقاله مجهولة المؤلف وكذلك المترجم. وقد ألحقها عبدالرحمن بدوي بكتاب الأخلاق لأرسطو، بعد أن وجدها ملحقة بإحدى مخطوطات الكتاب (مخطوطة فاس). وردت كلمة الحرية في عبارة قبل العبارة التي أوردها المعجم وهي “وفعل العفة لا ينقاد لشيء من اللذات، لكي يعتاد الحرية من كان مقتنيا لها عند استيلاء النظم الصحيح عليه، وعند عدم اللذة”. ولا أعرف السبب في اختيار معدّي المعجم تلك العبارة وترك هذه، بالرغم من أن الحرية كمصدر الصناعي أوضح في هذه العبارة من تلك. وعلى أي حال فالمقالة مهمة لأنها موجهة إلى فتاة يبدو أنها ابنة الكاتب المجهول. لكن لا يوجد دليل واضح على أن هذا الكاتب المجهول يحاكي برسالته إلى ابنته كتاب أرسطو الذي يروى أنه أهداه إلى ابنه، وستبقى هذه الفكرة فرضية يترتب عليها أن كون الرسالة موجهة إلى فتاة هو ما جعل الكاتب يقتصر على الأخلاق، ويركز من الأخلاق على العفة. صحيح أن مفهوم العفة وبالتعريف في هذه المقالة يخص الذكر والأنثى إلا أن كون الرسالة موجهة إلى فتاة فإن التفكير في هذه الفرضية سيكون حاضرا. تقع الحرية تحت العفة، وترد بصيغة المصدر الصناعي. ولكي نفهم معنى الحرية في هذه المقالة المجهولة المؤلف لا بد أن نعرف العفة. ففعل العفة لا ينصاع من وجهة نظر هذه المقالة لأي نوع من أنواع اللذة. العفة هي ألفة بين الرئيس (القوة الفكرية) وبين المرؤوس (الشهوانية)، وهي موضوعة بين شرين هما الشره وكلال الشهوة. وبدلا من التآلف بين الرئيس والرؤوس، تصبح العفة اتفاقا بين الرئيس والمرؤوس. نفهم من هذه التعريفات أن العفة هي وسط بين متطرفين: الإفراط في الشهوة وبين التفريط فيها، والوسط يوضحه العقل. ولأن العفة تتضمن الحرية، فالحرية هي التصرف وفق العقل، وضد العقل أي اللامعقول هو ما لا يجب أن يحدث، وإذا ما حدث فلا يجب أن يستمر. تكرر “فعل العفة” مرتين. وكما نعرف فالفعل في المعنى يُحدد بالقصد والنية، لكن الفعل هنا لا يًحدد بذلك، بل بالشروط الضرورية والكافية لظهور الفعل، وهذه الشروط في حالة فعل العفة هي التآلف والاتفاق بين القوة الفكرية بحسب تعبير الكاتب وبين الشهوانية. فضلا عن ذلك ففعل العفة مستمر، ولا يتقيد بنقطة نهاية محددة فكون فعل العفة لا ينصاع لأي نوع من أنواع اللذة، فذلك يعني عدم انصياعه المستمر من دون توقف أو نهاية، وكذلك التآلف والاتفاق، فهما فعلان مستمران لأنهما دلان على معان مجردة، وليسا حدثا له بداية ونهاية كالحياء، والسكون، والصبر، والحرية، والفلاح، والشرف، والاقتصاد، والدماثة، والتدبير، وحسن الطريقة، والمسالمة، والوقار. كل هذه ليست حالات تبدأ وتنتهي، بل هي حالات مستمرة، وغير مقيدة بنقطة نهاية محددة. تتطلب العفة التي تقع ضمنها الحرية توازنا معينا يسمح بظهور حالة سعيدة لأنها تعطي تقديرا أكبر للقيم بدلا من إشباع الغرائز، وتقع هذه القيم في المجال الفكري والأخلاقي. وهذه المجالات ذاتها تحتاج إلى توازن وتناغم بينها لكي يصبح مفهوم العفة قابلا للتحقيق. وبوضع الحرية في إطار المفهوم الكلي للعفة فالحرية لا تتحدد بالقصد ولا بالنية، وليس حدثا يبدأ وينتهي، ولكي توجد لابد لها من شروط ضرورية وكافية. وهذا يعني طواعية المصدر الصناعي وتطويعه من قبل المترجمين لوضع مصطلحات عربية مقابلة مصطلحات اللغات الأخرى. فالتشابه الحاصل بين المصدر الصناعي وبناء المصطلحات الأجنبية جعل منه الآلية الأكثر طواعية والأقدر على توليد مقابلات عربية للمصطلحات الوافدة. أما من ناحية الدلالة فوظيفة المصدر الصناعي هي توسيع الدلالة. فالحرية قد تعني حرية رجل واحد، وهي بهذا المعنى تقترب من مفهوم الحرية بالمعنى السياسي في الحكم الشرقي، وقد تتوسع ويصبح هناك معنى آخر هو التصرف وفق العقل فيما يجب فعله أو عدم فعله وهذا هو مدار الأخلاق، وقد تتوسع أكثر من ذلك كما هي الحرية الآن. لقد كانت حجة التحليل إلى الآن مبنية على أن هناك صيغة صرفية لكلمة الحرية تستحق التحليل وهي المصدر الصناعي. لكن معجم الدوحة يورد صيغا صرفية أخرى تأخذ معنى الحرية: 1- 50 ق.هـ/ 573م (صفة مشبهة): قال الإيادي: العبد يُقرع بالعصا/ والحر تكفيه المقالة. يعرف معجم الدوحة التاريخي الحر من الأشخاص بالذي يملك حق التصرف في أمر نفسه. وفيما يبدو لي أنها لا تعني ذلك في هذا البيت من الشعر، بل تعني العزة والمنعة. ففي معجم المعاني العربي لا تقرع له العصا إشارة إلى معاني العزة والمنعة، وربما تعني العاقل لأنه يفهم من دون أن ينبهه أحد. فالفعل يُقرع بمعنى نُبّه، والعصا قد تقرع للعبد كما في البيت، وقد تُقرع للحر وفي هذا السياق يحكى أن عمرا بن حممة الدوسي واحد من الذين تحاكمت العرب إليه في العصر الجاهلي، فلما شاخ ألزموه السابع أو التاسع من ولده يقرع له العصا إذا هو غفل ليعاوده عقله، فلا يزيغ في الحكم، فهو أول من قرعت له العصا. وهناك رواية أخرى أن العصا قرعت لعمر بن الظَّرِبِ العدْواني، وكان من حكماء العرب لا تَعْدِل بفهمه فهما ولا بحكمه حكما، فلما طعَن في السن أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: إنه قد كبرَتْ سنّي، وعرض لي سَهْو، فإذا رأيتموني خرجتُ من كلامي، وأخذت في غيره، فاقرعوا لي المِجنَ بالعصا. كذلك وردت عبارة عبيد العصا في شعر امرئ القيس وبشر بن أبي خازم بمعنى الأذلة الذين يخافون من يؤذيهم. وهو في الأصل لقب بني أسد بعد أن قتلهم حجر الكندي بالعصا. لذلك فحتى كلمة الحر في الشطر الثاني من البيت ليست ضد العبد في الشطر الأول. وبالتالي فإن ورود هذا البيت على أنه دليل على وصف من يمتلك حق التصرف في نفسه بأنه حر معنى غريب عن الكلمة في العصر الجاهلي. يمكن أن نفهم كلمة الحر في البيت بطريقة أفضل تتمثل في عدم تثبيتها في معنى واحد، بل بربط معانيها المتبدلة بعمليات اجتماعية. فما يجعل من الفرد حرا أوسع من مجرد أنه ليس عبدا، ويمكننا أن نتحدث عن الأصل والحسب والنسب إلى القوم، وإلى مكارم الأخلاق. والشيء ذاته ينطبق على كلمة العبد؛ فكونه مضادا للحر أضيق مما يمكن أن يكون عليه معنى الكلمة في الواقع. فقد اتصف عنترة بن شداد والسّليك بن السّلكة وتأبط شرا والشنفرى من الصفات ما يجعلهم من أعز أحرار العرب الجاهليين. يعني هذا أن أصول الكلمات أقل موثوقية لكونها تجريدات لم تنجزها اللغة، بل أنجزها علم اللغة، ولا يمكن التحقق منها تحققا تاما في الاستعمال الفعلي. وحتى لو كان أصول الكلمات صحيحة، فهي لا تقوم مقام البرهان، بل هي ذخيرة إنجازات التحليل. وهكذا فحين يرى ابن فارس في معجمه أن للحاء والراء أصلين أحدهما ما خالف العبودية وبرئ من العيب والنقص فهذا إنجاز من إنجازات التحليل. المعاجم مقابر اللغة أي لا شيء يمكن أن يحصر الكلمات في معجم أو قاموس. فكل التواصل اللغوي يحدث في مواقف اجتماعية محددة، وبين طبقات وجماعات معينة من مستخدمي اللغة. لذلك فكلمة (الحر) في الشطر الثاني مفهومه عند معاصري الشاعر بالنظر إلى أن البيت قيل في سياق اجتماعي محدد. وبالتالي فمعنى البيت مقيّد بتقويمات اجتماعية (حسن، جميل، سيء.. إلخ). أي أن المعنى ينتمي إلى التفاعل بين الأفراد أو الجماعات في سياق اجتماعي محدد. والجانب الأهم الذي أريد أن أركز عليه هنا هو أن كلمة (الحر) تستجيب لمعنى من الكلام معروفا من قبل، لكنها تعزز وتشجع على المزيد من التأثير في كون الفرد حرا، ولا يمكن أن تفعل ذلك ما لم يكن معناها معروفا من قبل. 2- عام 114هـ/ 732م (اسم جمع): قال عطاء بن أبي رباح في السنن الكبير حين سئل عن شرب النبيذ: أما والله لقد أدركتها، وإن الرجل ليشرب منها فتلتزق شفتاه من حلاوتها، ولكن الحرية ذهبت، ووليها العبيد فتهاونوا بها. -عطاء بن أبي رباح. السنن الكبير-. ومعنى حرية القوم في معجم الدوحة خيارهم وأفاضلهم. لكي نفهم معنى الحرية في هذه العبارة من المناسب أن نفرق بين ورود الكلمة مجازا وبين ورودها حقيقة. ومن الواضح أن عطاء استخدمها هنا استخداما غير حقيقي. وهذا الاستخدام يوفر معلومات عن ماهية الحرية لا يوفرها الاستخدام الحقيقي. فلو فحصنا كيف تستخدم كلمة الحرية في غير معناها الحقيقي، وركزنا على معانيها غير الحقيقية فسنجد أننا نتحدث عن الأرض الحرة والطين الحر والرمل الحرة والوجه الحر والكلام الحر والبقل الحر والسحابة الحرة والليلة الحرة، وكل حالة من هذه الحالات موضوع مدح، وهو معنى يرغب فيه الناس، ومعنى سيفضلونه فيما لو كانوا في سن الرشد. لكن الباحثين العرب لم يهتموا بالفرق بين استخدام كلمة الحرية في المجاز أو الحقيقة. مع أن المادة اللغوية متاحة في معجم أساس البلاغة للزمخشري حيث ذكر الدلالات الحقيقية لجذر الكلمة والدلالات الأخرى المجازية. وقد أدى الخلط بين الاستخدامات الحقيقية والمجازية لجذر كلمة الحرية اللغوي إلى أن يُعَنْوِنَ عزمي بشارة أحد فصول مقالته في الحرية بليس الطير حرا. وبالرغم من أنه يشير إلى أن صورة الطير للتعبير عن التوق للحرية صورة أدبية إلا أنه يفهم عبارة “حرا كالطير” على أنها توق الإنسان إلى أن ينطلق مقاوما قوة الجاذبية. لكن إذا كان الإنسان عند بشارة حر بالضرورة، لأن الحرية معرفة بالعقل والإرادة ومشروطة بهما فإن الطير حر بالضرورة لأن حريته معرفة بمقاومته قوة الجاذبية. يمكن للطير أن ينتمي إلى عالم خاص يسميه باختين عالم الأدلة. فالطير من حيث الأصل لا يكتسي قيمة إلا في حد ذاته. أي أنه لا يدل على شيء، بل يتطابق كليا مع طبيعته كطير. ومع ذلك يمكن أن يكون رمزا. فالطير تحول إلى دليل يعكس في حدود معينة واقعا آخر مع الاحتفاظ بواقعه كطير. والمعنى أنه اكتسب معنى يتجاوز مميزاته الخاصة. والمهم هنا تقويم هذا الدليل لا يكون وفق تقويم عزمي بشارة حرا كطير على أنها مقاومة الجاذبية، بل التقويم الذي يجب أن يكون هو التقويم الإيديولوجي؛ أي هل هو صحيح أو خاطئ أو مصيب أو مشروع أو حسن.. إلخ. والخلاصة هي أن عزمي بشارة يتجاهل وجود عالم الأدلة الذي يوجد جانب الظواهر الطبيعية والأدوات التقنية والمتوجات الاستهلاكية. 3- 228 هـ/ 843 م (اسم فاعل): قال ابن عائشة القرشي ما في الدنيا شجاع إلا متهور، ولا جبان إلا متحرر. ويورد المعجم أن كلمة متحرر تعني الذي يطلب الحرية وينشدها. وردت العبارة في كتاب تحسين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي، وفي سياق تحسين الجبن. ويبدو لي أنها لا تعني في عبارة القرشي طلب الحرية، بل تعني الخلاص من الموقف لاسيما أن من التنويعات الدلالية لكلمة محرّر بصيغة اسم الفاعل الدلالة على التخلّص، كما في قولنا تحرر من كذا أي تخلص منه، ومنه المتحرّر في الفصحى المعاصرة بمعنى المتخلص من العادات والتقاليد إلخ. ما الذي يمكن أن نخرج به من التحليل؟ تجاهل وجود الكلمة المجتمعي، وتجاهل تسربها إلى كل العلاقات التي تربط بين الأفراد، وأن الكلمة لحمة العلاقات الاجتماعية في جميع مجالاتها، وأن لكل عصر، ولكل شريحة مجتمعية سجلها من الكلمات التي تتواصل بها، وإذا كانت المفاهيم تحمل معها أطيافا من دلالاتها اللغوية، فإن علاقة المعجم العربي بالطبقات والتجمعات والشرائح الاجتماعية علاقة إبهام وإخفاء وصمت، وهو المعنى الذي يفهم لأول وهلة من الدلالة المعجمية للفعل (عجم).