كيف تحررنا اللغة؟.

هل فكرت يومًا أن لغتك قادرة على رسم عالمك؟ حدوده، ومداه؟ طرأ لي هذا السؤال عندما قرأت مقولة الفيلسوف “لودفيغ فيتغشتاين”: “حدود لغتي تعني حدود عالمي” فمن خلال اللغة يمكنك أن تعيش حرًّا، موسِّعًا آفاق أفكارك، أو أن تكون محدودًا في نطاق ضيق، معتمدًا على حصيلتك اللغوية “فاللغة هي بيت الوجود” كما يقول الفيلسوف هايدغر، ويمكنك من خلالها أن تختار مستقرّك، مكان ثابت راسخ أساسه مفردات وافرة، توسّع مدارك التفكير، أو مكان هش هامشيّ لا تسعفه الكلمات. واللغة على مر العصور كانت المحرر والخلاص من كل ما يقيّد الإنسان، بدءًا من العقاب أو القتل، انتهاءً بالفكرة والشعور. وهي العتاد والمعول في مواجهة الجهل وسجنه، فكلما كانت اللغة غنية بالمفردات زاد التفكير عمقًا، وغدا فهم الوجود أكثر حكمة، والتعبير عن الشعور أدق. والعودة إلى التاريخ تُظهِر قصصًا عدة لدعم هذه الفكرة، فالكلمة كانت كفيلة بتحرير الشعراء من غضب الملوك، كما في قصيدة: “فإنك شمسٌ والملوك كواكب     إذا طلعت لم يبدُ منهنّ كوكبُ” التي أنقذت النابغة الذبياني من غضب النعمان، وكانت السبب في خلاصه من العقاب، أو كلمات الأعرابي السلسة التي تصدّت لوعورة طبع الحجاج وصرامته، عندما قال له: “لأقتلنّك شرّ قتلة” فرد عليه الأعرابي: “إذن أحسنها، فإن شر القتلات ما كان دون الحق” فتمكنت الكلمات رغم بساطتها من مجابهة موقف صعب. ولا تغيب عنّا قصة الحطيئة مع عمر بن الخطاب عندما استجداه بكلمات كانت السبب في خروجه من السجن. وليس التحرر هنا تحرّرًا ماديًّا من قتل وعقوبة فقط، بل كانت اللغة ومازالت تحرر الناس من سجن شعورهم، ومن ذلك الشاعر ابن الرومي الذي لا يجابهه في تطيّره وتشاؤمه أحد، حتى بات بصمة في شعره، إلا أن هذا التطيّر سقط أمام اللغة، فكانت الكلمات دواءً له من داء عصيب أكل من شعره وشرب سنوات عدة، فأطلق سراح نفسه من هذا الشعور عندما سمع أبياتًا من ضمنها: “رجعتُ على نفسي فوطّنتها على       ركوب جميل الصبر عند النوائب” فظل مرددًا لها حتى نسبت له، وحلف ألا يتطيّر أبدًا. وفي عصرنا مواقف عدة تؤكد أن الكلمة غدت مشعلَ أملٍ أمام ظلمة اليأس، فكم من شخص تغنى بـ “إذا الشعب يومًا أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر” حتى تحررت شعوب بأكملها من يد الظلم والاستبداد. وبعيدًا عن الشعر، فالكتابة بشكل عام تحرر الإنسان من شعوره، فينسكب ما يثقله مع الكلمات، وتجعله في مواجهة مع نفسه، فالكاتب الروسي ليو تولستوي اتّخذ من الكتابة ملاذًا لمواجهة أزماته النفسية، وكتب في مذكراته عن قلقه الوجودي، مما ساعده على إيجاد معنى لحياته. وفي السياق نفسه يقول الكاتب همنغواي: “الكتابة تعلّمك أن ترى العالم بعيون أكثر وضوحًا” فهل يمكن للإنسان أن يعيش بحرية دون لغة تعبر عن أفكاره ومشاعره؟ إن الإجابة تكمن في الكلمة نفسها؛ فالكلمات ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي بوابة لعمق النفس، تبني جسورًا للذات لتفهم، وتعبّر، وتتحرر.