نموذج واقعي!
يبدو من خلال شواهد الكامل وأخباره أن المبرد يقدّم لنا حياة واقعية تتمثّل في سيرة الثقافة العربية وإن غلب على الكتاب نماذج تلك الحقبة الساخنة بين الخلافة الراشدة وبدايات العهد الأموي، لكن يبدو أن هذا السياق التاريخي الجدلي هو ما جعل من هذا الكتاب نموذجا مستنيرا لفهم طبيعة الحياة وصيرورتها خارج النمط المثالي الصرف. ويمكن الربط بين الكامل عنوانا لهذا الكتاب والمنهج التكاملي في صناعة وتلقّي وفهم الواقع على أنه مزيج من النماذج التي تمثّل حركة التاريخ في واقعيته وإنسانيته وطبيعته إذ تجتمع فيه كل المسارات الديني والاجتماعي والتاريخي والأدبي وفق ترتيب الحياة في عدم سيرها على نسق منظم، ولكن وفق رؤية كلية هي رؤية الأدب أو التأدّب من خلال التجربة الإنسانية كما هي عليه في الواقع دون أن تخرج عن مسارها وهي تتجه نحو الاكتمال، وليس الكمال العزيز على التحقق. ربما يسعنا هذا القول وأكثر في سياق هذا النموذج الأدبي من خلال الكامل للأدب الذي عدّه ابن خلدون أحد الأعمدة الأربعة من كتب الأدب في التراث العربي، وما ذاك إلا أنه جمع فأوعى، وقبل ذلك نقل لنا الحياة كما هي من خلال النثر والشعر والمثل السائر والوصية والخطب والرسائل، وهي ذاتها أجناس الأدب القديم التي كانت تصنع الذائقة الجمالية إضافة إلى صياغتها الحياة الواقعية. هكذا تتكامل العلوم الإنسانية، فقها وتاريخا وآدابا في صناعة نموذج حضاري راسخ الجذور واسع الرؤية سمح التعامل في بناء مجتمع ريادي لا يختنق بالرؤى الضيقة والإيديولوجيات المذهبية والحزبية المتناحرة، ولعل هذا هو النموذج الكامل الذي كان يستبطنه المبرد وهو يضع أخبار هذا الكتاب ونصوصه الأدبية بمختلف أجناسها. والكامل هنا لا يعني بلوغ الغاية في التحقق المثالي، وإنما شموله لطبيعة الواقع الحياتي وانسجامه مع أخلاق الناس بمختلف مشاربها ومسالكها ودروبها.