في البدء، كانت نهاية!

ما يجعل النهايات مخيفة هو خطوة الجهالة نحو البداية، وبرغم مديح البدايات الذي يتسيّد الشعارات والنصوص والتفاعلات، تتعالى الرهبة من البداية كلما كانت ضرورة عند البعض، وكلما تصاعدت أهمية إثبات جدواها في مسالكنا حَالًا، لتصبح نموذجًا يعبر عنا وينعكس علينا في آثار جلية للعيان. إننا، ومن خلال طيّ العام والبدء في عام جديد، نمارس الانعتاق والانبعاث في آن واحد، وليس بالأمر اليسير أن نُشرّح ذواتنا في ذات الوقت الذي يتحتم علينا أن نُعيد إحياءها من جديد! إلى جانب الجهالة التي تعترينا أمام غيبية القدر، كنا نملك معرفة يقينية عنا وعما نريده، وعما ظفرنا به وأبهجنا باستيفاء عبرنا عنه في رحابة الكلمة والانفعال الخالص والامتنان الناصع. وحسبما أعرف، فإن الإنسان لا يستطيع أن يفصل بين رِبحه وخسائره حين تُنقّله الأقدار في أطوارها، فكل شيء يُسهِم في صنعه، بدءًا بالهزائم ثم الانتصارات، وإن لم يلمحها أحد، وصولًا إلى الظفر الملموس في هيئات كثيرة مُهمة وفارقة في مسيرة المرء. أحيانًا لا يكفي أن نودّع فترة زمنية ونستقبل أخرى بالشكل المألوف البديهي، ولا يعني ذلك أن نُشيطن النهايات بكل ما خضناه قبل أن نطوي صفحتها، أو أن نُزكّي البداية في شكلها الزمني الجديد لأن لها الهيئة البيضاء التي لم تتلطخ بعد. يجدُر بالمرء منا أن يجد نفسه قادرًا على الالتحاق بذاته مجددًا كلما ابتعد عنها لأسباب اضطرارية، أن يكون على الأقل قادرًا على أن يتفق معها في فكرة الانعتاق والانبعاث، فلا يكونُ ما انبعث أبرز مما انعتق عنه، ولا يكون الانعتاق مهيمنًا فيدخُل في البدء عاريًا من حصاده الثمين، ولو لم يرق له. ربما اقترحنا في سديم أقدارنا أهدافًا وطموحات، ورغبات واحتياجات، وظللنا نُلح بتزمّت مشروط على نوالها، حتى أضحت دائرة الأمل منفى وليست فسحة، وكعادة من ينتظر ليتملّك رغباته دون أن يفحص أهليتها له وحكمة الغيب، كان الحُزن طاغيًا عوضًا عن الامتنان، وللضرورة التي يفرضها القدر في الانتقال نحو عام بعد عام، وجدنا أنفسنا بعيدين عنا، بعيدين عما نرغب، هذا حين تكون محدودية الفكرة فينا هي شقاؤنا التام . ولأن الإنسان في داخلي ينعتق وينبعث في كل جولات القدر، رافضًا فكرة التجمد بلا استدراج الحكمة، أو اصطفاء البصيرة، ولم يأتني ذلك بيسر، بل بعد ارتطامات قاسية، ودروس، وانكفاف عن الرغبة، وجدتُ نفسي مدفوعةً للتساؤل عن قيمة الموجود أمام توارُثية الهوس بالمفقود! مقابل العودة للحلم ببراءته والتنعّم بهمساته في ثنايا الروح، عوضًا عن التأزيم الذي ينشأ من استهجان الغيب واستباق القدر، وهذا ربما من أعالي مخرجات النُضج، الذي يعد سِمة الوعي الإنساني الذي تلقّى الكثير، وألقى بالكثير، وأوجَد لنفسه أخيرًا فسحة تتسع لإمكاناته، ترتخي لأحلامه، بقياسات مرنة تلائم كل حلم بمعرفة كافية لا تفسد يقينًا، ولا تلطخ أملًا . لقد كوّنتنا رؤية محدودة تجاه ذواتنا وأقدارنا وما نرغبه وما نطمح له، وكبرنا على أهوالها، رافضين التمدد اللا واعي نحو إرادتنا، جمالياتنا، سِماتنا، حياتنا بما فيها من زهاء وحيوية، وحقيقةً إنني في صراع دائم مع ما تفرضه رؤيتي المظلمة، وبما ينبعث منها من وهج مُدرِك لأحقيتي في الصفاء والسلام، وانبعاث معنى مَلَكَة الإيفاء بي، بكل ما حصدتُه كنفس بشرية، واصطفاؤها خُطوة مُدعّمة ومُمتنة للضربات السابقة، متأهبة للمجهول الذي يقودها للمعرفة بها بكفاءة تخوّلها تحكيم قيمتها والفصل بين الحيرات الكبرى التي تؤخر تقدُم الإنسان، ليس لعيب فيه بل لعيب في وعيه. إذًا ومن هذا البُعد الخارق لطبيعتي كإنسان شفاف، يتسم بحساسية متشعّبة، أتفاعل مع النهاية الزمنية التي تكافئ نهايات كثيفة لتفاصيل في ذاتي، وأجرؤ على افتتاح اليقين بالبدء الذي أجهله؛ لأن ما مضى بتفاصيله يُسكّن في دواخلنا أمرين: أولهما، مقدرتنا على التجاوز برغم معاناتنا بحيث غدت في الماضي العزيز، ثانيهما، أن الرهبة من المستقبل ليست سوى استعداد فطري يتيح لنا تقدير خياراتنا، والاسترخاء مما ينالنا في هيئة تشبه بعضها، ولا شيء سيحدث دونما أن نتمكّن منه، وأننا هنا وهناك قادرون على الانتهاء، مهيأون للبدء، بندم أم بخوف أم برغبة، الأمر سيّان، في النهاية، كلنا مدفوعون في مرحلة معينة على الاستمرار، كأقوى شاهد على حيوية الإنسان وقدراته في ظل كل ما يهابه ويعيشه ويجهله، والغَلبة في الانتقالات القدرية ليست لقدرات الإنسان، بل للغيب الذي يصطفيه ويُنقّله في أطوار تمنحه القيمة الحقيقية، ليس لشأن ممنوح، بل بمعطيات تحمل في ثناياها قيمته. تهيبتُ كثيرًا من النهايات؛ لأنها تحيلنا إلى آخرين لا يشبهوننا، ولكن في الوقت الذي بلغت الرهبة منها مبلغها، يتعيّن أن نجد أنفسنا نتقوّى بها، قيميًا، ومعنويًا، بخطوات مستفيضة لا تجحد الحصاد ولا تزهد عن الاجتهاد، ففي كل موت ميلاد، ومن كل نهاية ابتداء، هكذا جَرت المآلات الزمنية والأقدار، فلمَ لا نكون! أخرُج هذا العام عن تأطير النهايات والبدايات، ولا أظنني في ذلك مفردة، ولم يعد يرضيني ذاك التحفظ الثابت لفكرة لا يجري في شرايينها الوعي والتجديد، إنني مُستعدة كأي كينونة وُهِبت انتقالاتها القدرية، للامتثال للنزعة التقدمية بلا محدودية وحصر، يكفي أن الحياة لم تزل — والزمن لم يكن عائقًا سوى في مخاوفي. « إن الإنسان اليوم وأكثر مما مضى، إنسان مُتَأَحْلِمٌ نظرًا للظروف المتغيرة – والبدء، وُجد لتسامي هذه النزعة في ظل هذه الظروف!»